الصراع في الشرق الأوسط… تكلفة التقاعس

توسعت مهمة إسرائيل للقضاء على “حماس” في غزة إلى حملة عسكرية أوسع بكثير، بعد ما شنّت الحركة هجومها على مستوطنات ومدن وقتلت أكثر من 1200 إسرائيلي في أكتوبر/تشرين الأول 2023.

رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو استغل تلك اللحظة لاستعادة قوة الردع لبلاده، وتقليص قدرات “حماس” و”حزب الله” وغيرها من القوى المسلحة غير الحكومية، وإعادة تأكيد هيمنة إسرائيل العسكرية والتكنولوجية في المنطقة.

لكن، كيف أتيحت له هذه الفرصة؟ وكيف استطاع نتنياهو قيادة حرب أدت حتى الآن إلى مقتل أكثر من 42 ألف فلسطيني و2,000 مدني لبناني على الأقل، دون أن يفرض المجتمع الدولي بأكمله وقفًا لإطلاق النار أو يطالب بالإطاحة به؟

إن السبب وراء تصرفات إسرائيل هذه المرة يمكن أن يُعزى إلى التوغل العسكري لحركة “حماس” والهجمات الصاروخية المتكررة لـ”حزب الله” على أراضيها، فلا ينبغي لأي دولة أن تتحمل ذلك. ولكن لفهم سياق الأحداث، وكيف يمكن لطرف واحد في النزاع من التصرف وكأنه فوق المساءلة، لا بد من النظر في التغيرات التي طرأت على البيئة السياسية الدولية بعد الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على العراق.

كيف نحقق الأمن في عالم متعدد الأقطاب؟

بينما تمتد جذور الصراعات التي نشهدها اليوم إلى تاريخ طويل ومؤلم، فإن طبيعتها تنبع من آثار حرب العراق، التي قللت من رغبة الحكومات الغربية في التدخل وسط النزاعات. كذلك زادت الفوضى التي خلفتها العملية التي قادها حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليبيا عام 2012– والتي كان من المفترض أن تكون ردعاً لما حدث في العراق– من تردد القادة في التدخل في النزاعات المستقبلية.

وأصبح هذا التحول جليا عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014 ونشرت قواتها في سوريا عام 2015. ورد الفعل الغربي- المتمثل في فرض العقوبات وتسليح جماعات المعارضة- كان محدودا. حتى بعد غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، الذي كان على مستوى يوازي غزو العراق للكويت عام 1990، اتبعت الدول الغربية النهج نفسه. وعبر ذلك، أرسلوا رسالة إلى القوى المتوسطة بأنها حرة في التصرف دون خوف من عقوبات كبيرة.

لقد ولت الأيام التي كانت فيها القوى العظمى قادرة على إجبار حلفائها على التحلي بضبط النفس، فلم تعد الولايات المتحدة مثلا كما كانت، راغبة في حشد التحالفات وتحرير الدول أو فرض ضغط هائل على جميع أطراف النزاعات للوصول إلى وقف إطلاق النار، فالنظام أحادي القطب أفسح المجال لعالم متعدد الأقطاب يتسم بالفوضوية، وضيقت الدول الغربية نطاق تعريفها لـ”المصلحة الوطنية”.

الأمر لا يتعلق فقط بتجنب التدخل العسكري، بل الأهم من ذلك، التردد في استخدام دبلوماسية قوية لإقناع الشركاء بوقف قتل المدنيين والدفع الجاد نحو وقف إطلاق النار، قد تدعو الولايات المتحدة والقوى الأوروبية إلى وقف إطلاق النار، لكنها لا تميل إلى دعم هذه الدعوات بجدية. ففي الوقت الذي تدين فيه إدارة بايدن ما تقوم به إسرائيل ضد المدنيين في فلسطين ولبنان، وتنتقد بشدة سياسة نتنياهو، فهي في الواقع لا تفعل شيئا أكثر من ذلك، بل تستمر في تسليح إسرائيل.

في هذا العالم متعدد الأقطاب، يبدو أن القوى الكبرى مستعدة للتعايش مع الصراعات النشطة طالما أنها لا تهدد مصالحها الوطنية. في الشرق الأوسط على سبيل المثال، تستمر النزاعات في ليبيا وسوريا واليمن وغزة والآن في لبنان؛ دون أفق قريب للسعي نحو إنهائها!

 

لفهم سياق الأحداث لا بد من النظر في التغيرات التي طرأت على البيئة السياسية الدولية بعد الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على العراق

 

 

اتفاقية 2015 النووية (خطة العمل الشاملة المشتركة) كانت بمثابة التحول السياسي للولايات المتحدة بعيدا عن المنطقة. لم يفعل انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية خلال رئاسة دونالد ترمب الشيء الكثير لتغيير هذا التوجه في واشنطن، فقد حاول الرئيس بايدن توجيه المسار في الاتجاه نفسه.
في الوقت ذاته، ابتعدت أوروبا أيضا، فأصبحت أكثر انعزالا بينما كانت منشغلة مع انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي ولاحقا مع جائحة “كوفيد-19”. في المقابل فإن قوتين مثل روسيا أو الصين لا تمتلكان القدرة أو الرغبة لتحل محل الغرب.
وقد ترك هذا فراغا سياسيا وأمنيا للدول الإقليمية والقوى المسلحة غير الحكومية كي تملأه؛ وهذا ما حدث، حيث تهاجم أعداءها دون أي تدخل من القوى الكبرى. ومن الأمثلة على ذلك استهداف إيران لموارد الطاقة السعودية في البقيق وخريص عام 2019؛ وإطلاق قوات “الحرس الثوري” الإيراني صواريخ على هدف إسرائيلي مشتبه به في أربيل عام 2022؛ واستهداف الحوثيين السفن في البحر الأحمر بعد أكتوبر 2023؛ وقتل إسرائيل قيادي حركة “حماس” إسماعيل هنية في طهران في يوليو/تموز هذا العام.

وجه جديد للصراع

في هذا السياق تعمل إسرائيل الآن، فقد اختار نتنياهو هذه الفرصة؛ في أعقاب 7 أكتوبر، وبعد عقد من الاستعداد لتفكيك “حزب الله”، وخلال الأيام الأخيرة من رئاسة أميركية ضعيفة، لدفع ميزان القوة العسكرية لإسرائيل وإعادة هيمنتها في المنطقة. لقد أدرك أنه يمكنه التصرف دون قيود، على الأقل حتى يتولى الرئيس الأميركي القادم منصبه، لذلك فهو مصمّم على القضاء على أعداء إسرائيل دون التفكير في أرواح المدنيين.
وبصرف النظر عن نشر الولايات المتحدة لحاملات الطائرات للإشارة إلى استعدادها لمساعدة إسرائيل في حالة نشوب حرب شاملة، فهي ستترك الدول والقوى المسلحة غير الحكومية في المنطقة لتقاتل بعضها البعض. لكن ليس تماما بمفردها؛ إذ تستمر الولايات المتحدة في تزويد إسرائيل بأسلحة متقدمة ومعدات عسكرية، لترجح كفة تل أبيب في أي صراع وضد أي قوة.
ومع توغّل القوات الإسرائيلية أكثر في لبنان، ومواصلتها لعمليات القصف في غزة، وتفكيرها في الرد على إيران؛ فإن القوى الكبرى في العالم ستدعو إلى إنهاء العنف، لكنها ستكتفي بذلك وستتعايش مع استمرار النزاعات.
وعلى المدى القصير، يبدو أن الرئيس الأميركي القادم هو فقط من يمتلك القدرة على كبح جماح إسرائيل ووضع حد لهذه المعارك، لكن هذا ليس مضمونا. وعلى المدى البعيد، سيتعين على إسرائيل أن تواجه العيش وسط مجتمع إقليمي تبددت فيه النوايا الحسنة، والأمل في فرص التطبيع، واتساع رقعة الاستياء الممتد لأجيال.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M