أظهرت نتيجة الانتخابات الاميركية فوزا كبيرا للرئيس المنتخب دونالد ترمب على منافسته نائبة الرئيس كامالا هاريس، فماذا ستكون انعكاسات هذا الفوز على المستوى الاقتصادي؟ لا شك أن ملفات كثيرة تنتظر الرئيس المنتخب، لكن كل المؤشرات تشي بأن هناك معركة قاسية أخرى في انتظار ترمب بعد تسلمه رسميا لمسؤولياته وستكون مع الاحتياطي الفيديرالي وبالتحديد مع حاكمه جيروم باول.
صحيح أن تعيين باول حاكما جاء قبل سنوات بناء لترشيح ترمب نفسه، وموافقة مجلس الشيوخ على ذلك مستهل عام 2018، لكن سرعان ما اندلع الخلاف بين الرئيس والحاكم قبل مضي عام على ترؤس باول الاحتياطي الفيديرالي.
من هو العدو جيروم باول أو شي جينبينغ؟
فقد اعتمد باول خيار الاستمرار في سياسة سلفه، وزيرة الخزانة الأميركية حاليا، جانيت يلين، بزيادة سعر الفائدة الرئيسة كرد فعل على القوة المتزايدة للاقتصاد الأميركي والتصدي لضغوطه التضخمية رافضا التزام موعد بدء عكس المسار وخفض أسعار الفائدة، خصوصا أن مقياس التضخم لا يزال بعيدا عن المطلوب وهو 2 في المئة، كما أعلن برنامجا لخفض الاحتياطي الفيديرالي لمحفظة أصوله من 4.5 تريليونات دولار أميركي إلى نطاق 2.5-3 تريليونات دولار أميركي على مدى أربع سنوات.
تساءل ترمب عبر تغريدة في عام 2019، عمن هو في الحقيقة العدو الاكبر للولايات المتحدة “هل هو جيروم باول على رأس الاحتياطي الفيديرالي أم الرئيس الصيني شي جينبينغ”؟
وكان رأي ترمب معاكسا، فهو يرى انه ليس من الصائب الاستمرار في رفع سعر الفائدة الرئيس مع تصاعد الحرب التجارية مع الصين، لأن هذا الامر يجعل الاقتراض أكثر تكلفة ويبطئ الاستثمارات، وجاءت قمة حملته على باول في تغريدة له في أغسطس/آب 2019 تساءل فيها عمن هو في الحقيقة العدو الاكبر للولايات المتحدة “هل هو باول على رأس الاحتياطي الفيديرالي أم الرئيس الصيني شي جينبينغ”؟
الرئيس الأميركي القادم دونالد ترمب، يلقي كلمة بمناسبة فوزره بالانتخابات الرئاسية في ولاية فلوريدا، 6 نوفمبر 2024
من المتوقع أن يتمدد الخلاف بين ترمب وباول على موضوع ثان في السياسة النقدية وهو سعر صرف الدولار، فمستشارو ترمب يقترحون إضعافه لأن الدولار القوي يجعل صادرات الولايات المتحدة باهظة الثمن في الأسواق الخارجية، والواردات أرخص بالنسبة للمستهلكين الأميركيين، الأمر الذي سيؤدي إلى عجز تجاري ضخم. علما أن هذه التوجه يتناقض مع تمسك ترمب بأن يحافظ الدولار على مكانته باعتباره عملة المعاملات والاحتياطات العالمية ويهدد بفرض العقوبات على الدول التي تختار التخلص منه، على الرغم من دعوته في الوقت نفسه لتحلل بلاده من مسؤوليات النظام العالمي لما بعد الحرب الكونية الثانية
لا يتفقان حول العملات المشفرة
جدير بالذكر أن هناك تباينا أيضا بين ترمب وباول حول العملات المشفرة، فالأول أعلن أن من برنامجه عدم السماح للاحتياطي الفيديرالي بإصدار عملة رقمية (CBDC) مما يسمح للإدارة بالوصول إلى بيانات الإنفاق الشخصي وضمان سك البيتكوين والعملات المشفرة المستقبلية في الولايات المتحدة وتأمين الطاقة اللازمة لذلك بالتكلفة الدنيا تأكيدا لمخططه “أميركا أولا”. أما باول فموقفه كان التحوط من أن تكون العملة الرقمية التي يصدرها الاحتياطي الفيديرالي هدفًا عالميًا للهجمات والتزييف والسرقة السيبرانية.
سيفاقم برنامج ترمب مشكلة الدين الفيديرالي الذي يتعدى 35 تريليون دولار، مما سيشكل تهديدا حقيقيا للوضع المالي للبلاد
كذلك سيفاقم برنامج ترمب مشكلة الدين الفيدرالي الذي يتعدى 35 تريليون دولار، مما سيشكل تهديدا حقيقيا للوضع المالي للبلاد، اذ سبق له أن وعد بفرض رسوم جمركية أكثر عدوانية ضد شركاء الولايات المتحدة التجاريين، وترحيل ملايين المهاجرين غير المسجلين وتمديد خفوضاته الضريبية لعام 2017، وهذه السياسات عند تشريعها ستضع ضغوطًا تصاعدية على الأسعار والأجور والعجز الفيديرالي. فالإيرادات العامة تمثل الآن ثلث الناتج المحلي الإجمالي وهي أدنى حصة بين البلدان الأكثر تقدما.
وفي حال تقررت أية زيادة للضرائب، فالمتوقع أن تخصص إيراداتها بشكل أكبر للإنفاق الجديد، لا لخفض ديون البلاد، مما سيعني أن هناك ضرورة للمزيد من الاستدانة، أو الاستعانة بالاحتياطي الفيديرالي في موضوع توازن موازنة البلاد، ومن المؤكد أن باول لن يستجيب هذه الأمور إلا بقيود قاسية على إدارة ترمب.
ثلاثة أخطار تضخمية نتيجة فوز ترمب
وفي هذا يرى باول انه إذا تجنب المستثمرون سوق سندات الخزانة، فقد لا تكون بلاده قادرة على سداد الأوراق المالية المستحقة، وهو ما يعني التخلف عن السداد، ومن شأن حصول هذا الامر ولو لفترة وجيزة، أن يخلق أخطارا كارثية محتملة على النظام المالي، مثل الانهيار الذي حدث في عام 2008، ويضيف أن بيع سندات الخزانة والأوراق المالية والأذون يمول الحكومة، وهذه الأوراق المالية بدورها وسيلة أساسية للادخار لمجموعة واسعة من الأسر الأميركية. لهذا تعتبر سندات الخزانة مصدرًا مهمًا للضمانات داخل النظام المالي. وعليه، لا بد أن تكون الزيادة في سقف الدين مصحوبة بإصلاحات سياسية جوهرية وتوفير كبير في الموازنة وآلية تنفيذ قوية لتقييد أيدي أي كونغرس في المستقبل.
ستنفجر ثلاثة أخطار تضخمية نتيجة فوز ترمب، قد تلغي نتائج الجهود الشاقة التي سمحت للاحتياطي الفيديرالي بخفض التضخم بنحو أربع نقاط مئوية منذ عام 2022، إلى أقل من 3 في المئة، بتكلفة قليلة أو معدومة على الاقتصاد الحقيقي
ستنفجر ثلاثة أخطار تضخمية نتيجة فوز ترمب، قد تلغي نتائج الجهود الشاقة التي سمحت للاحتياطي الفيديرالي بخفض التضخم بنحو أربع نقاط مئوية منذ عام 2022، إلى أقل من 3 في المئة، بتكلفة قليلة أو معدومة على الاقتصاد الحقيقي.
– الأول: سيتأتى من التشديد الذي وعد به ترمب على قواعد الهجرة، فمع الشيخوخة السكانية في الولايات المتحدة ستتقلص قوة العمل مما سيفرض المزيد من الضغوط على الأجور.
– الثاني: رجحان كفة تخفيف إدارته الانضباط المالي، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى زيادة الطلب الكلي، وتاليا رفع التوقعات التضخمية.
رئيس بنك الاحتياطي الفيديرالي، جيروم باول، في واشنطن، 22 مارس 2023.
– الثالث: رجحان كفة التخلي عن السياسة المناهضة للاحتكار، مما سيمنح الشركات حرية تصرف أكبر في زيادة الأسعار.
في ضوء ما سبق، فإن الاشتباك بين ترمب وباول واقع ولا بد، وسيحاول الرئيس المنتخب بقوة، أن يعمد الى التحصن بتجييش شعبي داعم لإقالة باول من خلال وسائل قانونية غير معتمدة الى تاريخه حتى يتمكن من تعيين حاكم جديد يلتزم تعليماته، مما سيثير المحكمة العليا إذا ما أرادت التمسك بحرفية النص القانوني الذي يحدد أسباب العزل والإقالة بعدم الكفاءة أو إهمال الواجب أو المخالفات.
وستحتدم ايضا معركة ترمب مع محافظي الاحتياطي الفيديرالي الذين سيرفضون املاءاته بخفض أسعار الفائدة، ومن الصعب التكهن منذ الآن كيف سيكون رد فعل الأسواق الاميركية والخارجية على التطورات السابقة للفوضى المتوقعة، وقد تفضي الامور في النهاية الى فوضى تضخمية كتلك التي سادت في السبعينيات الماضية.
أرى أن جيروم باول سيرحل في غضون مئة يوم من بدء ولاية ترمب الجديدة
بيتر نافارو، مستشار ترمب التجاري السابق
جدير بالذكر أن باول في حال بقائه في منصبه الى انتهاء ولايته في أوائل عام 2026، سيكون مضطرا الى الدخول في اشتباك كبير مع ترمب، فهو القائل بأن الخبرة الطويلة في الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات المتقدمة أثبتت أن السياسة النقدية تكون أكثر نجاحاً عندما تصبح القرارات مستقلة عن تأثير المسؤولين المنتخبين، وواضح أن الرئيس العائد للمرة الثانية، على حصان أكثرية غير مسبوقة، لن يدعه يستمر في سياساته التي ينتهجها حاليا، وسيعمل على الضغط عليه لتعديلها أو إقالته بطريقة ما.
عن هذا الأمر، يتوقع ستيف بانون، كبير استراتيجيي ترمب في ولايته السابقة، أن يقدم جيروم باول استقالته، أما بيتر نافارو، مستشار ترمب التجاري السابق، فيتوقع رحيل باول في غضون مئة يوم من بدء ولاية ترمب الجديدة.
وكانت صحيفة “وول ستريت جورنال” قد ذكرت نقلاً عن خبراء مطلعين، أن مجموعة صغيرة من حلفاء ترمب أنتجت وثيقة من نحو عشر صفحات تحدد رؤية سياسية للاحتياطي الفيديرالي من شأنها ان تقضم استقلاليته.