في عام 2024، الذي أُطلق عليه “عام الانتخابات”، توجّه الناخبون في جميع أنحاء العالم، من تركيا إلى كردستان العراق، ومن المملكة المتحدة إلى إيران، إلى صناديق الاقتراع. ومع ذلك كله تبقى الانتخابات الأهم من دون شك هي الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. بل يمكن القول بثقة إن نتائج الانتخابات التي ستجرى في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني لن تنعكس على الولايات المتحدة فحسب، بل ستتعداها إلى دول أخرى شتّى.
ولعل ذلك يكون أشد وضوحا في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي دار فيها نقاش مطول حول احتمال عودة دونالد ترمب إلى الرئاسة، وشكل ذلك جزءا كبيرا من الخطاب السياسي في البلاد. وخلال الانتخابات الرئاسية في إيران خلال صيف 2024، كانت الإشارة إلى ترمب تربو كثيرا على الإشارة إلى الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن.
ويبدو أن قرار “المرشد الأعلى” آية الله علي خامنئي، بالسماح بعودة الإصلاحيين إلى الساحة السياسية والفوز بالرئاسة، كان مرتبطا بدرجة ما بإمكانية عودة ترمب. ويبدو أن منطق خامنئي كان أن إيران ستحتاج إلى رئيس معتدل إذا عاد ترمب وأعاد سياسة “الضغط الأقصى”، ليكون أقدر على التعامل معه.
ومع احتدام الصراع في الشرق الأوسط، تراقب جميع الأطراف الإقليمية عن كثب نتائج الانتخابات الأميركية لمعرفة كيفية تحديد خطواتهم التالية
وفي أثناء الحملة الانتخابية، اتهم المحافظون منافسيهم الإصلاحيين باستغلال “رهاب ترمب” (Trumpophobia) لإثارة القلق، في اعتراف بأن الخوف من عودة ترمب قد تكون له تداعيات سياسية. وهذا القلق نفسه يفسر أيضا محاولات إيران التأثير على الانتخابات الأميركية، وهي محاولات لا يبدو إلى الآن أنها حققت شيئا ملموسا على الساحة العالمية.
بيد أن آمال إيران في أن يتمكن الرئيس مسعود بيزشكيان من تحقيق بعض الهدوء في الأجواء الدولية، ليركز على التنمية الاقتصادية، سرعان ما تبددت. إذ إن إصرار طهران على دعم ما يُعرف بـ”محور المقاومة”، وهو تحالف من الميليشيات المناهضة للغرب وإسرائيل ومصدر دائم لعدم الاستقرار الإقليمي، لا يساعد على خلق جو كهذا. ولطمأنة أنصار النظام المتشددين على أن هذا التحالف لم يُهمل “محور المقاومة”، أكد بيزشكيان مجددا دعمه لجماعات مثل “حماس” و”حزب الله”. بيد أن ذلك أثار إسرائيل وجعلها تكثف ضرباتها العسكرية ضد هذه الجماعات، ربما بهدف تعقيد جهود الرئيس الوسطي بيزشكيان في تقديم صورة أكثر اعتدالا لإيران، من خلال تقديم وجه مختلف عن البلاد للعالم.
وفي 31 يوليو/تموز، قتلت إسرائيل زعيم “حماس” إسماعيل هنية، بينما كان ينزل ضيفا على حفل تنصيب بيزشكيان في طهران. ومنذ ذلك الحين، قتلت عددا من قادة “محور المقاومة” وعلى رأسهم خليفة هنية، يحيى السنوار، وزعيم “حزب الله” حسن نصرالله.
مركبات تمر أمام لوحة إعلانية ضخمة للرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان (على اليمين) وزعيم “حماس” السابق إسماعيل هنية في طهران، 12 أغسطس
وفي أعقاب الهجمات الصاروخية التي شنتها إيران انتقاما لذلك، في 1 أكتوبر/تشرين الأول، توعدت إسرائيل بالرد على إيران. ويتحدث بيزشكيان الآن عن أن إيران تواجه “حربا مفروضة” من قبل إسرائيل، مستخدما المصطلح الذي عادة ما كانت إيران تستخدمه لوصف الحرب الإيرانية العراقية في الفترة 1980-1988.
زيت فوق النار
ومع احتدام الصراع في الشرق الأوسط– الذي يصب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الزيت فوقه بتصرفاته الحاسمة– تراقب جميع الأطراف الإقليمية عن كثب نتائج الانتخابات الأميركية لمعرفة كيفية تحديد خطواتهم التالية. فعلى الرغم من معارضة الرئيس بايدن بصمت لبعض قرارات “بيبي” فإن الكثيرين يرون فيه داعما كبيرا لسياسات إسرائيل. والسؤال الرئيس الآن هو: هل سيجلب عام 2025 أي تغييرات جوهرية لهذه الوضعية المتقلبة؟
مع اقتراب الانتخابات الأميركية، تراجع الذعر الأولي من احتمال عودة ترمب لتحل محله ردود أفعال أكثر توازنا
ليس من السهل دائما تحديد الفروق الدقيقة بين ترمب وكامالا هاريس في كل المجالات، ومرد ذلك أساسا أن الرئيس الجمهوري السابق معروف بصعوبة التنبؤ بتوقعاته. فعلى الرغم من علاقاته الوثيقة بنتنياهو وكونه محاطا بمستشارين مؤيدين له، فإنه يميل عادة إلى التصادم مع حلفائه.
وبالنسبة لإيران، لا ريب في أن حقبة ترمب 2016-2020 لها طعم العلقم، حيث تذكرها بالسياسة الصارمة التي حدّت بشدة من كمية النفط التي يمكن لإيران بيعها. نعم، لقد أبقى بايدن على العقوبات المفروضة على إيران بل وزادها، ولكنه خفف من تطبيق القيود الصارمة في عهد ترمب فيما يتعلق بالمسألة الحاسمة المتعلقة بمبيعات النفط. ويرجع ذلك جزئيا إلى هدف بايدن الأكبر في إحياء الاتفاق النووي الذي وقعه باراك أوباما عام 2015 مع إيران وانسحب منه ترمب عام 2018. ولكنّ له أسبابا أخرى بينها اعتبارات أوسع نطاقا تتعلق بإمدادات الطاقة والأسعار. ومع أن محادثات بايدن مع طهران لإحياء اتفاق 2015 قد فشلت، فلا يني الكثير من الجمهوريين، بمن فيهم ترمب، يهاجمون بايدن حتى على الصفقات الصغيرة التي تمكن من إبرامها مع طهران مثل صفقة تبادل السجناء في سبتمبر/أيلول 2023 التي تمكنت إيران بموجبها من الوصول إلى ستة مليارات دولار من أصولها المجمدة في كوريا الجنوبية، ويمكن استخدامها لأغراض إنسانية حصرا.
الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما يحمل نسخة من الاتفاق النووي الإيراني خلال مؤتمر القضايا الديمقراطية بمجلس النواب في 28 يناير 2016
ولقد شجع موقف ترمب المتشدد تجاه إيران بعض معارضي النظام الإيراني، الذين يأملون في أن تؤدي رئاسته إلى سقوط نظام الجمهورية الإسلامية. ومع ذلك، فإن هؤلاء المؤيدين، الذين بدأ بعضهم حملة “إيرانيون من أجل ترمب”، يتجاهلون ما ردده ترمب في أكثر من مناسبة، سواء كان مرشحا أو رئيسا، من أنه لا يسعى إلى تغيير النظام في إيران، بل يريد ببساطة صفقة جديدة مع القيادة الحالية. وفي مقابلة حديثة مع المدوّن الإيراني الأميركي باتريك بت-ديفيد، سأله المدون عن إمكانية عودة إيران إلى النظام الملكي الذي كان قائماً قبل عام 1979، فأجاب ترمب بأن الولايات المتحدة لا يمكنها “التورط بالكامل في كل ذلك”. ثم أضاف: “نحن لا نكاد نستطيع إدارة أمورنا الخاصة، يا باتريك”، مشيرا في ذلك إلى نهجه المعتمد على الصفقات في العلاقات الخارجية، وعدم الاهتمام بالتورط الدولي الذي يهدف إلى تغيير النظام في طهران.
ومع اقتراب الانتخابات الأميركية، تراجع الذعر الأولي من احتمال عودة ترمب لتحل محله ردود أفعال أكثر توازنا. وأشارت صحيفة “دنياي اقتصاد” اليومية الاقتصادية إلى أن وقف ترمب لصادرات النفط الإيرانية خلال فترة رئاسته أدى، بطريقة غير متوقعة، إلى ازدهار في سوق الأسهم بطهران. وكان ذلك بسبب سلسلة من التفاعلات المعقدة: فانخفاض صادرات النفط وانخفاض أسعار النفط العالمية خلال جائحة “كوفيد – 19” أديا إلى عجز في الموازنة في إيران، مما تسبب في خفض أسعار الفائدة، ما دفع رأس المال إلى سوق الأسهم حيث لم يجد المدخرون أي دافع لهم لإبقاء أموالهم في البنوك، فدفعوا بها إلى السوق. ومع ذلك، أشارت الصحيفة إلى أن انتخاب هاريس من المرجح أن يجلب “الهدوء إلى أسواق رأس المال” من خلال تقليل المخاطر النظامية. وبينما يلوم ترمب بايدن وهاريس على الفوضى الحالية في الشرق الأوسط، يعتقد كثير من المحللين أن سياسات هاريس الأكثر قابلية للتنبؤ بها واستراتيجياتها الدبلوماسية ستوفر استقرارا أكبر مقارنة بتقلبات ترمب.
فريق هاريس سيضم شخصيات مخضرمة معروفة بدعم الحلول الدبلوماسية في المنطقة والنهج المتزن في المفاوضات
وتنزع بعض وسائل الإعلام الموالية للنظام في إيران إلى التقليل من أهمية الفروق بين المرشحَين للرئاسة الأميركية. ففي افتتاحية نُشرت مؤخرا في “جمهوري إسلامي” كتبت الصحيفة: “تجربة نصف القرن الأخير تُظهر أنه لا يهم أي حزب يتولى السلطة في الولايات المتحدة. قد تكون هناك خلافات بين الحزبين، لكنهما يتفقان على أمرين: دعم النظام الذي يحتل القدس ومعارضة إيران. ولا يتعدى الاختلاف بينهما طرق تنفيذ سياساتهما”.
بيد أن هذا الادعاء يغفل في حقيقة الأمر التحولات الكبيرة في سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران تحت إدارة بايدن الحالية. وبدلا من تقديم قراءة دقيقة للسياسة الأميركية، يعكس الخطاب الإعلامي الموالي شعورا عاما بالإرهاق في إيران، حيث سئم الناس في جميع التوجهات السياسية من الانتظار القلق لنتائج الانتخابات الأميركية، مما أدى إلى حالة من العطالة القلقة.
محادثات حتمية
يبقى، رغم هذا وذاك، أن ثمة بعض الحقيقة في فكرة أن المحادثات بين الولايات المتحدة وإيران قد تكون حتمية بغض النظر عن نتيجة الانتخابات. فعلى الرغم من انسحاب ترمب من الاتفاق النووي الإيراني في عام 2018، لا يزال قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231، الذي يشكل أساس الاتفاق، ساري المفعول. ومن المقرر أن ينتهي هذا القرار في أكتوبر 2025، مما يوفر دافعا للطرفين للعودة إلى طاولة المفاوضات.
أما إذا فازت هاريس، فالمرجح أن يحصل صناع السياسة الديمقراطيون، الذين لعبوا دورا رئيسا في إبرام اتفاق إيران لعام 2015 ودافعوا عنه باستمرار، على فرصة جديدة للتفاوض. ولكن هذه المهمة ستكون أشد تعقيدا الآن، في ظل التهديد المتزايد باندلاع صراع شامل بين إيران وإسرائيل في المنطقة.
لكن ماذا لو خسرت؟ لن يكون مستبعدا أن يبدي ترمب، الزعيم البرغماتي، حماسا للتفاوض مع إيران إذا كان ذلك يعني تأمين اتفاق يحد من البرنامج النووي المتسارع للبلاد ويهدئ الأوضاع في الشرق الأوسط. وعلى الجانب الآخر، سيستغل خامنئي هذه الفرصة لتخفيف بعض الضغوط على نظامه.
ولكن الشيطان، كما يقولون، يكمن في التفاصيل. فريق هاريس سيضم شخصيات مخضرمة معروفة بدعم الحلول الدبلوماسية في المنطقة والنهج المتزن في المفاوضات، مثل مستشارها للأمن القومي، فيل غوردون، ومستشارها لشؤون الجالية اليهودية، إيلان غولدنبرغ. في المقابل، من المرجح أن يحيط بترمب في إدارته مستشارون مؤيدون لنتنياهو، ممن دفعوا على الدوام باتجاه اتخاذ موقف أكثر عدوانية تجاه إيران. وبينما قد يحاول ترمب منع فريقه من جر الولايات المتحدة إلى حرب لا يريدها، يبقى السؤال الأكبر هو ما إذا كان سيملك الصبر أو القدرة الدبلوماسية لإتمام اتفاق جديد مع إيران. وكما هو الحال مع كثير من جوانب فترة رئاسية ثانية محتملة لترمب، سيكون من الصعب التنبؤ بالنتيجة.