شهد إنتاج اليورانيوم تحولًا جذريًا من كونه منتجًا ثانويًا في صناعة الراديوم إلى عنصر أساسي في قطاع الطاقة النووية. فمع تزايد الوعي بأهمية الطاقة النظيفة والتحول العالمي نحو مصادر طاقة بديلة، زادت الحاجة إلى اليورانيوم لتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء النووية التي تعتبر خيارًا واعدًا لتقليل الانبعاثات الكربونية، وتوجه بعض الدول إليها لتوليد كهرباء نظيفة، بعيدًا عن مصادر الوقود الأحفوري.
وتُعد النيجر من الدول العشر الأولى في العالم من حيث احتياطيات اليورانيوم، لكن هذه الثروة الطبيعية الهائلة، لم تمنعها من تصدر قائمة أفقر الدول، وأججت حولها المخاطر الجيوسياسية التي جعلتها اليوم تواجه شبح الحرب. وبعد الانقلاب الذي أطاح بالرئيس محمد بازوم في 26 يوليو، شكل اليورانيوم أحد أهم المفاتيح لفهم الحدث وارتداداته في الغرب وفرنسا على وجه الخصوص، علمًا بأن النيجر زودت الاتحاد الأوروبي بأكثر من ربع احتياجاته من اليورانيوم عام 2023 (حوالي 25.4% من احتياجاته من اليورانيوم بما يُعادل حوالي 2975 طنًا).
مدخل:
شهد إنتاج اليورانيوم تطورًا ملحوظًا منذ بدايات الطاقة النووية في خمسينيات القرن الماضي، وقد شهدت العقود الثلاثة التالية نموًا مطردًا في الإنتاج، مدفوعًا بزيادة الطلب على الطاقة النووية وتصاعد التنافس النووي خلال الحرب الباردة. وبلغ هذا النمو ذروته في عام 1980، عندما وصل إنتاج اليورانيوم إلى أعلى مستوى له عند حوالي 69.7 ألف طن. وشهد إنتاج الطاقة النووية نموًا مطردًا حتى بداية القرن الحادي والعشرين، وبلغ ذروته في عام 2001 حيث ساهمت في توليد حوالي 7% من الكهرباء العالمية. ومع ذلك، شهدت الطاقة النووية تراجعًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، حيث انخفضت حصتها إلى حوالي 4.3% بحلول عام 2021. ويعزى هذا التراجع إلى عدة عوامل، أبرزها الحوادث النووية الكبرى التي هزت الثقة في هذه التكنولوجيا.
أكبر الشركات المنتجة لليورانيوم: تتركز معظم عمليات استخراج اليورانيوم في عدد محدود من الدول التي تمتلك أكبر احتياطيات عالمية لهذا المعدن، مثل أستراليا وقازاخستان وكندا، كما أن حصة ضئيلة من الشركات العالمية تسيطر على الجزء الأكبر من إنتاج اليورانيوم، حيث قدمت 13 شركة فقط حوالي 94% من الإنتاج العالمي في عام 2023، مع سيطرة قارة آسيا على النصف تقريبًا من هذا الإنتاج.
أماكن تواجد أكبر مناجم اليورانيوم: تتركز غالبية احتياطيات اليورانيوم القابلة للاستخراج في 16 دولة، حيث تمتلك أستراليا وقازاخستان وكندا مجتمعة حوالي 40% من هذه الاحتياطيات. ومع ذلك، فإن امتلاك احتياطيات كبيرة لا يعني بالضرورة إنتاجًا كبيرًا. على سبيل المثال، بالرغم من أن أستراليا لديها أكبر مخزون فردي من اليورانيوم (في منجم أولمبيك دام)، وأكبر احتياطي من الخام، فإن الدولة تحتل المرتبة الرابعة في توريد اليورانيوم، إذ تبلغ حوالي 9%، كما يوضح الشكل التالي خريطة لأهم مناجم اليورانيوم في العالم.
المشهد الداخلي في النيجر
النيجر، هذه الدولة الواقعة في غرب أفريقيا، والتي ما تُعرف بتحدياتها الاقتصادية والسياسية، تحتضن في باطن أرضها أحد أهم الموارد الطبيعية التي تجعلها محط أنظار القوى العالمية وهو اليورانيوم. هذا المعدن الثمين، الذي يُستخدم بشكل أساسي في توليد الطاقة النووية وصناعة الأسلحة النووية، حيث يُعد كنزًا استراتيجيًا ويضع النيجر في قلب الصراعات الجيوسياسية والاقتصادية. ورغم الثروة الهائلة التي يمثلها اليورانيوم، لا يزال سكان النيجر يعانون من الفقر المدقع، ما يثير تساؤلات حول كيفية إدارة هذه الثروة وعن تأثيرها على البلاد سياسيًا واقتصاديًا، وهل تستطيع النيجر جعل اليورانيوم أداةً لتنمية البلاد؟
بشكل عام، تحتل النيجر مكانة بارزة على الخارطة العالمية بفضل ثرواتها ومواردها الطبيعية الهائلة، والتي من أبرزها اليورانيوم. هذا المعدن النووي الاستراتيجي، الذي يُشكل حجر الزاوية في صناعة الطاقة النووية والأسلحة النووية، يجعل من النيجر هدفا لأطماع القوى الكبرى بشكل مستمر. فبفضل احتياطياتها الضخمة، تساهم النيجر بحوالي 4% من الإنتاج العالمي من اليورانيوم، مما يجعلها شريكًا حيويًا لدول مثل فرنسا، التي تعتمد بشكل كبير على هذا المورد الخارجية العابرة للحدود لتلبية احتياجاتها المتزايدة من الطاقة النووية.
وعليه، أثارت ثروات اليورانيوم الهائلة في النيجر شهية القوى العالمية والشركات متعددة الجنسيات، وعلى رأسها شركة أريفا الفرنسية التي تهيمن على قطاع التعدين في البلاد. ورغم أن هذا المورد الاستراتيجي يُشكل مصدرًا رئيسيًا للدخل، إلا أن الفوائد الاقتصادية لم تصل إلى الشعب النيجري الذي يعاني من فقر شديد. فبينما تستفيد الشركات الأجنبية والدول الصناعية الكبرى من هذه الثروة، يعيش أكثر من حوالي 40% من سكان النيجر تحت خط الفقر، مما يبرز التفاوت الكبير في توزيع الثروة.
على المستوى الاقتصادي: رغم ثرواتها الطبيعية، تعتبر النيجر من الدول الهشة اقتصاديًا، حيث تعتمد بشكل كبير على المساعدات الدولية. فبينما يُشكل اليورانيوم موردًا استراتيجيًا، فإن الزراعة، التي تُشكل العمود الفقري للاقتصاد، تعاني من تحديات كبيرة بسبب الظروف المناخية القاسية. هذا الاعتماد على القطاع الزراعي الهش، جنبًا إلى جنب مع التوزيع غير العادل للثروة، يجعل النيجر عرضة للصدمات الاقتصادية والاجتماعية المتكررة.
على المستوى السياسي: تواجه النيجر تحديات كبيرة، حيث تعاني من حالة عدم استقرار مزمنة، حيث شهدت عدة انقلابات متكررة منذ استقلالها عن فرنسا في عام 1960. آخر هذه الانقلابات وقع في عام 2023، عندما أُطيح بالرئيس المنتخب محمد بازوم في انقلاب كبير، مما زاد من تعقيد المشهد السياسي في البلاد. الجيش الذي يحكم البلاد حاليًا يواجه ضغوطًا دولية هائلة، حيث فرضت فرنسا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عقوبات على النيجر بعد الانقلاب. لكن في الوقت نفسه، تدعم بعض الدول الأفريقية هذا التحول، مما يعكس انقسامات إقليمية ودولية حول مستقبل النيجر.
تحولت ثروات النيجر من اليورانيوم إلى ورقة رابحة في لعبة جيوسياسية معقدة، حيث تتنافس القوى العالمية، وعلى رأسها فرنسا، للسيطرة على هذا المورد الاستراتيجي. فالتدخلات الأجنبية في النيجر تتجاوز الأبعاد السياسية والاقتصادية لتصل إلى صميم السيطرة على الموارد الطبيعية، مما يجعل البلاد ساحة صراع بين المصالح العالمية. وعليه، تواجه النيجر تحديات أمنية وسياسية متشابكة، حيث يتصاعد الصراع الداخلي وتنشط الجماعات المتطرفة في المناطق الحدودية. هذا الوضع الهش يجعل من الصعب استغلال الثروات الطبيعية للبلاد، مثل اليورانيوم، لصالح الشعب النيجري. ففي ظل غياب الاستقرار، تظل هذه الثروات عرضة للاستغلال من قبل القوى الأجنبية، مما يعزز حالة التبعية الاقتصادية والسياسية للنيجر.
احتياطيات اليورانيوم في النيجر
اكتشف اليورانيوم في النيجر عام 1957 من قبل المكتب الفرنسي للبحوث الجيولوجية وارتبط تعدينه ارتباطًا وثيقًا بدول أفريقية أخرى مثل الجابون عن طريق دور لجنة الطاقة الذرية الفرنسية، وبعد أن أصبحت النيجر مستقلة عن فرنسا وذلك في عام 1960، بدأت الشركة النووية الفرنسية تعدين احتياطات اليورانيوم منذ عام 1970، وفي عام 2021، زودت النيجر الاتحاد الأوروبي بنحو حوالي أكثر من حوالي 25% من إمدادات العنصر النووي بالإضافة إلي زيادة الطلب الفرنسي عليه بتوسيع باريس محطاتها النووية. ووفقًا لبيانات الرابطة النووية العالمية فإن في النيجر منجمين مهمين لليورانيوم يوفران نحو حوالي أكثر من 4% من إنتاج التعدين العالمي من خامات اليورانيوم عالية الجودة في أفريقيا، مع وجود دعم حكومي قوي لتوسيع تعدين اليورانيوم.
تحتل النيجر مكانة بارزة بين الدول المنتجة لليورانيوم على مستوى العالم، حيث تحتل المرتبة السابعة عالميًا، وتعتبر النيجر مصدرًا رئيسيًا لليورانيوم، الذي يُستخدم بشكل أساسي في توليد الطاقة النووية، مما يجعلها شريكًا تجاريًا استراتيجيًا للدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا.
شهد إنتاج اليورانيوم في النيجر، التي تتميز بخاماتها عالية الجودة، انخفاضًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة. فقد بلغ إنتاجها في عام 2022 حوالي 2020 طن، وهو ما يمثل حوالي 4% من الإنتاج العالمي، مقارنة بـ 2991 طن في عام 2020، ويعزى هذا الانخفاض جزئيًا إلى إغلاق أحد أهم مناجم اليورانيوم في البلاد عام 2021، وبدأت الشركة النووية الفرنسية تعدين احتياطيات اليورانيوم في النيجر منذ عام 1970.
مواقع تعدين اليورانيوم في النيجر
تتركز معظم عمليات تعدين اليورانيوم في النيجر حول مدينة أرليت في الشمال الغربي، حيث تدير شركة “سومير”، وهي مشروع مشترك بين الشركتين الفرنسية “أورانو” والنّيجيرية “سوبامين”، العديد من المواقع التعدينية المفتوحة. كما كان هناك منجم أكوتا تحت الأرض، بالقرب من أكوكان، والذي استنفدت احتياطياته وأُغلق في مارس 2021 بعد إنتاج حوالي 75 ألف طن من اليورانيوم على مدار عقود. مُنح تصريح تشغيل المنجم في عام 2009، ولكن عُلق العمل على تشغيل المنجم في عام 2014 حتى تتحسن أسعار اليورانيوم، من أجل تحقيق مكاسب تجارية مثمرة.
علاوة علي ذلك، تُصنف النيجر سابع أكبر مُنتج لليورانيوم في العالم، وهي تمتلك خامات اليورانيوم عالية الجودة في أفريقيا، وتُعد أحد المصدرين الرئيسيين لليورانيوم إلى أوروبا، وفرنسا، المستعمر السابق للبلاد، والمستورد الرئيسي لليورانيوم من النيجر، والذي يساعد في تشغيل الصناعة النووية المدنية الفرنسية الضخمة.
من مفارقات العلاقة المختلة بين عالمي الشمال والجنوب أن تكون النيجر الدولة الأفقر والأكثر هشاشة على المستوى العالمي وفق معايير الأمم المتحدة تُساهم عبر ثرواتها المنهوبة في تمويل جزء كبير من مشروعات فرنسا من الطاقة النووية وتزويدها باحتياجاتها من الكهرباء.
لماذا تتصارع الدول على اليورانيوم؟
رغم أن اكتشاف استخدامات اليورانيوم في إنتاج الطاقة يعود إلى منتصف القرن العشرين، إلا أن أهميته تزايدت بشكل كبير في العقود الأخيرة. فاليورانيوم يشغل دورًا محوريًا في تشغيل المفاعلات النووية التي تغطي جزءًا كبيرًا من احتياجات العالم من الكهرباء، بالإضافة إلى تطبيقاته الواسعة في المجالات الأخرى. ومع الأزمة العالمية في الطاقة، زاد الإقبال على اليورانيوم، مما جعله مصدرًا حيويًا للعديد من الدول. تشهد شركات التكنولوجيا العالمية سباقًا محمومًا للاستثمار في الطاقة النووية، حيث ترى فيها حلًا واعدًا لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة اللازمة لتشغيل مراكز البيانات الضخمة التي تدعم تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة.
وعلى الرغم من أن شركات المرافق العامة تحتفظ بمخزونات كبيرة من اليورانيوم لتشغيل مفاعلاتها النووية، فإنها على استعداد لتأمين الوقود النووي بأي ثمن، وهي عوامل أسهمت معًا في تصعيد الصراع العالمي للحصول على إمدادات اليوانيوم اللازمة لتلبية احتياجات الطاقة.
هنا تجدر الإشارة إلى أن إجمالي سعة الطاقة النووية المركبة على مستوى العالم بلغ ما يقرب من حوالي 400 جيجاوات وذلك في عام 2021، لتُمثل نحو حوالي 10% من قدرة توليد الكهرباء في العالم، مع توقعات استقرار السعة في العامين المقبلين، كما هو موضح في الشكل التالي.
الصراعات السياسية في النيجر
28 يوليو 2023 تم تعليق العمل بالدستور وحل جميع المؤسسات بعد الإطاحة بالرئيس محمد بازوم، وبعد الانقلاب على الرئيس محمد بازوم، الأربعاء 26 يوليو 2023، وتوجيه القادة الجدد تحذيرًا لباريس من التدخل، بات مصير القوات الفرنسية البالغ عددها 1500 عسكريًا هناك محل قلق، إذ إن النيجر تُعد أحد أهم شركاء باريس في غرب أفريقيا، بعد طرد قواتها من مالي المجاورة عام 2022.
أعلنت باريس عدة قرارات عقابية، في اجتماع مجلس الدفاع والأمن القومي المخصص للنيجر برئاسة إيمانويل ماكرون، تضمن تعليق جميع الإجراءات الخاصة بالمساعدات التنموية التي تقدمها للنيجر، وتعليق ما يخص دعم ميزانية الدولة الواقعة غرب أفريقيا، وضرورة العودة دون تأخير إلى النظام الدستوري النيجري، والتشديد على شرعية الرئيس المنتخب.
وقف تصدير اليورانيوم: أقدمت القيادة العسكرية في النيجر على خطوة تصعيدية بوقف صادرات الذهب واليورانيوم إلى فرنسا، مما هدد بإحداث تأثير اقتصادي كبير على باريس. فالنيجر تمثل مصدرًا حيويًا لليورانيوم الذي تعتمد عليه فرنسا بشكل كبير لتلبية احتياجاتها من الطاقة النووية. لعبت النيجر دورًا حيويًا في تأمين الطاقة لأوروبا، حيث ساهمت بنسبة حوالي 25% من إجمالي إمدادات اليورانيوم للاتحاد الأوروبي في عام 2021، مما مكن ملايين الأسر الأوروبية من الحصول على الكهرباء.
استكمالًا لما سبق، تبلغ حصيلة ما استخرجته الشركات الفرنسية من يورانيوم النيجر منذ عام 1970 إلى عام 2015، أكثر من حوالي 112 آلاف طن تم استخراجها من منجمي سومايير، وكوميناك، أما منجم إيمورارن الجديد الذي لا يزال قيد التجهيز فيفترض أن ينتج حوالي خمسة آلاف طن سنويًا على مدى 34 سنة قادمة.
وعلى الجانب الأخر نجد أن شركة أريفا لا تدفع للدولة سوى 150 مليون يورو فقط مقابل اليورانيوم، بالإضافة إلي حوالي 100 مليون يورو على شكل ضرائب، وهو ما يُشكل نسبة حوالي 5% فقط من اليورانيوم المنتج فى البلاد.
بشكل عام، يُشكل مسار النمو الذي يمضي فيه قطاع الطاقة النيجري، الذي ترتكز عليه تصورات الحكومة في النيجر بشأن خريطة الطريق الاجتماعية الاقتصادي، ونجد أن الوقود الحيوي يُمثل في النيجر حوالي 70% من إنتاج الكهرباء في النيجر. حيث يهيمن مصدر الطاقة هذا كذلك على استهلاك الأسر من الكهرباء، بنسبة حوالي 96%، وفي المقابل، يعتمد القطاع الصناعي -أساسًا- على المنتجات النفطية بنسبة حوالي 77%، وعلى الكهرباء بنسبة حوالي 23%، يوضح الشكل التالي ميزان الطاقة فى النيجر لعام 2023.
التسلل الصيني ليورانيوم النيجر
تكمن الأهمية الإستراتيجية لأفريقيا لدى المخططين الإستراتيجيين الصينيين في اعتبارها معينًا خصبًا وبكرًا لمصادر الطاقة والمواد الأولية، وسوقًا كبيرة للصناعات الصينية النشطة. وتقود الصين منذ سنوات عملية اختراق منظمة وهادئة للنيجر، وفق المعادلة التنموية التي تطبقها الصين في عموم القارة الأفريقية، أي مقايضة البنى التحتية والأموال بالموارد النفطية والمعادن التي يحتاجها الاقتصاد الصيني الأسرع نموًا في العالم.
حيث تُشكل لها النيجر أرضًا بكرًا يمكن أن تزودها بالموارد الإستراتيجية مثل اليورانيوم المعدن النفيس الذي توجد مكامنه في نقاط قليلة ومتباعدة على مستوى العالم. وتعتبر الصين -القوة النووية الكبرى- من أكثر البلدان استهلاكًا لليورانيوم، وقد نجحت في تشجيع النيجر في فتح ميدان التنقيب واستخراج اليورانيوم أمام شركة سينويو الصينية وشركات تنقيب أخرى، وذلك لكسر الاحتكار الفرنسي ليورانيوم النيجر.
مستقبل الاحتكار الفرنسي لليورانيوم
تاريخيًا، قيل إن 3 من 4 مصابيح في باريس تُضاء بواسطة اليورانيوم النيجري الذي يُغذي حوالي 56 مفاعلًا نوويًا موزعة على حوالي 18 محطة طاقة وتستمد فرنسا حوالي 71% من الكهرباء عبر الطاقة النووية، ويُغذي اليورانيوم القادم من النيجر بأكثر من حوالي 20% من إجمالي الطلب الفرنسي.
بدأت قصة استغلال فرنسا لثروات النيجر من اليورانيوم بشكلٍ عرضي في خمسينيات القرن الماضي، ففي حين كانت تبحث عن النحاس، اكتشفت رواسب غنية من اليورانيوم، وهو الأمر الذي مهد الطريق لاتفاقيات استغلال طويلة الأمد. أدت الاتفاقيات غير المتكافئة بين فرنسا والنيجر إلى تحويل الأخيرة إلى مصدر رئيسي لليورانيوم يخدم المصالح النووية الفرنسية، فالشركات الفرنسية، مستفيدة من إعفاءات ضريبية سخية، استولت على ثروات النيجر الطبيعية، مما ساهم في تعزيز التبعية الاقتصادية للنيجر وجعل اقتصادها رهينًا باليورانيوم.
المفارقة أن فرنسا أصبحت في مصاف أكبر مصدري الطاقة الكهربائية، فيما تعيش النيجر في ظلام دامس، إذ لا يتجاوز الوصول إلى الكهرباء نسبة حوالي 19.3% من إجمالي السكان، واقتصادها الهش جعلها واحدة من أفقر البلدان على وجه الأرض، إذ يعيش أكثر من حوالي 60% من سكانها البالغ عددهم حوالي 17 مليون نسمة على أقل من دولار واحد في اليوم.
عندما أدركت فرنسا أن الرئيس حماني ديوري يسعى إلى تحسين شروط استخراج اليورانيوم، ردت بحزم من خلال تدبير انقلاب أطاح به، فقرار الرئيس النيجري بتوجيه أنظاره إلى الشركات الصينية، ووعيه بخسارة بلاده في الاتفاقيات السابقة، شكل تهديدًا مباشرًا للمصالح الفرنسية في المنطقة، مما دفع باريس إلى التدخل العسكري لحماية مصالحها الاقتصادية.
منذ انقلاب 1974، سيطرت فرنسا بشكل كامل على ثروات اليورانيوم في النيجر، محددةً بذلك مصير هذا البلد الغني بالثروات ورغم أن النيجر كانت تأمل في أن يساهم هذا الثراء في تنميتها، إلا أن العقود الجائرة التي فرضتها فرنسا، والتي امتدت لعقود طويلة، حكمت على النيجر بالفقر والتهميش، حيث لم تتجاوز عائداتها من اليورانيوم نسبة ضئيلة من إجمالي العائدات.
تعرضت شركة آريفا لضربة قوية في عام 2013، عندما تعرض أحد مناجمها في النيجر لهجوم إرهابي أوقف عمليات الإنتاج. هذا الهجوم، الذي تزامن مع اتهامات للحكومة الفرنسية بدعم المتمردين الطوارق، ألقى بظلاله على العلاقة بين البلدين، وشكل نقطة تحول في الصراع على ثروات اليورانيوم النيجيرية.
أمهلت وزارة التعدين النيجيرية شركة أورانو الفرنسية حتى 19 يونيو 2023 لبدء تطوير منجم إيمورارين، محذرة من سحب الترخيص في حال عدم الالتزام. وردًا على ذلك، زعمت الشركة الفرنسية أنها استأنفت بالفعل أنشطتها في الموقع، مدعيةً إعادة تأهيل البنية التحتية لاستقبال فرق العمل.
أمام ما تقدم، يمثل الصراع الدائر حول منجم إيمورانيوم نقطة تحول في علاقة النيجر بفرنسا، فقرار الحكومة النيجيرية بسحب الترخيص يكشف عن رغبة متزايدة في التحرر من الاستغلال الاقتصادي الذي دام لعقود، وهو ما يعكس صحوة وطنية جديدة تدفع الشعب النيجري إلى استعادة حقوقه المشروعة في ثرواته الطبيعية.
للوقوف على الأسباب والدوافع وراء قرار النيجر إخراج فرنسا من مناجم اليورانيوم، لا بد من تحليل شامل للوضع السياسي والاقتصادي في المنطقة، وتقييم العوامل الداخلية والخارجية التي أثرت على هذا القرار، وتوقع الآثار المترتبة عليه على المدى القريب والبعيد:
- أصبح تحدي النفوذ الفرنسي في النيجر، لا سيما في قطاع التعدين، مؤشرًا على الشرعية السياسية لأي حكومة جديدة. ومع ذلك، فإن قرار سحب تراخيص التنقيب عن اليورانيوم من الشركات الفرنسية يحمل في طياته مخاطر كبيرة، حيث قد يؤدي إلى ردود فعل عنيفة من باريس، نظرًا لاعتمادها الكبير على اليورانيوم النيجري في إنتاج الطاقة النووية (نسبة حوالي 71%).
- قرار النيجر بسحب ترخيص التنقيب من شركة “أورانو” الفرنسية يتجاوز كونه إجراءً روتينيًا، إذ يعكس رغبة حقيقية في تغيير قواعد اللعبة في علاقتها بفرنسا، خاصةً بعد سنوات من الممارسات غير الشريفة من قبل الشركة الفرنسية والتي تضمنت الابتزاز وتأجيل مشاريع التعدين.
- تحت ضغط من الحكومة النيجرية، التي هددت بسحب ترخيصها، بدأت الشركة الفرنسية أخيرًا، في الاستعدادات الفعلية لبدء عمليات التعدين في منجم إيمورارين. إلا أن هذه الاستعدادات لم تكن كافية لإقناع السلطات النيجيرية، التي اعتبرتها غير كافية وغير ملتزمة بالجدول الزمني المحدد.
- منذ عام 2015، قامت الشركة الفرنسية بتأجيل بدء عمليات التعدين في منجم إيمورارين، ورغم التحذيرات المتكررة من الحكومة النيجيرية، والتي هددت بسحب الترخيص في حال عدم البدء الفعلي بالعمل، إلا أن الشركة لم تلتزم بجدول زمني محدد.
- من الواضح أن قرار الشركة الفرنسية بتشغيل المخزون دون البدء في الإنتاج يُعد محاولة واضحة لابتزاز النيجر، حيث يسعى هذا الإجراء إلى حرمانها من أي عوائد مالية من هذا المشروع الاستراتيجي. هذا الابتزاز دفع الحكومة النيجيرية إلى اتخاذ قرار حاسم بسحب تراخيص الشركة، وفتح الباب أمام شركات عالمية أخرى للاستثمار في هذا القطاع الحيوي.
- يأتي قرار النيجر بسحب تراخيص التعدين من الشركة الفرنسية في سياق عالمي يشهد تحولات جيوسياسية عميقة. ففي ظل التنافس المتزايد بين القوى الكبرى، تسعى النيجر إلى تعزيز استقلالها واتخاذ قرارات سيادية تخدم مصالحها الوطنية. في خطوة تشير إلى أن هذا القرار قد يمهد الطريق لتعاون أعمق مع دول أخرى، مثل إيران، في مجال الطاقة النووية.
اليورانيوم في النيجر: صراع أمريكي إيراني جديد
تثير الصفقة النووية المزعومة بين النيجر وإيران مخاوف عميقة لدى الولايات المتحدة وحلفائها، حيث ترى فيها تهديدًا مباشرًا لجهودها لاحتواء البرنامج النووي الإيراني ومنع انتشار الأسلحة النووية في منطقة مضطربة بالفعل. أطلقت زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكية إلى النيجر في مارس 2024 شرارة أزمة جديدة، حيث كشفت عن مفاوضات متقدمة بين المجلس العسكري الحاكم في النيجر وإيران حول صفقة لبيع اليورانيوم، وهو ما أثار مخاوف واشنطن من تعزيز البرنامج النووي الإيراني. استغلت إيران التغيرات السياسية في النيجر، لا سيما الانعزالية عن الغرب، لتقريب المسافات وفتح قنوات تفاوض بهدف تحقيق هدف استراتيجي طويل الأمد يتمثل في تأمين مصدر جديد لليورانيوم وتعزيز نفوذها الإقليمي.
يمكن الإشارة إلى أهمِّ أهداف إيران في هذه الصفقة، على النحو الآتي:
سياسة التوسُّع في إنتاج الطاقة النووية: تسعى إيران إلى تعزيز برنامجها النووي بشكل كبير، حيث أعلنت مؤخرًا عن خطط طموحة لبناء محطات جديدة للطاقة النووية. هذه الخطط، إلى جانب الطلب المتزايد على اليورانيوم، دفعت إيران إلى البحث عن مصادر جديدة لهذا المعدن النادر، مثل النيجر، لتلبية احتياجاتها المتزايدة.
الاستعداد الإيراني لسيناريوهات فشل الاتفاق النووي: تُعد صفقة اليورانيوم مع النيجر بمثابة خطوة احترازية من جانب إيران في مواجهة عدم اليقين بشأن مستقبل الاتفاق النووي، بالإضافة إلى تداعيات الحرب على غزة والتهديدات الإيرانية-الإسرائيلية المتبادلة. وعليه، تسعى طهران من خلال هذه الصفقة إلى ضمان استمرار برنامجها النووي حتى في ظل سيناريوهات متدهورة للعلاقات مع الغرب.
نهج المواجهة مع واشنطن: تسعى إيران، في إطار استراتيجيتها الرامية إلى مواجهة الهيمنة الأمريكية وتقويض النفوذ الغربي في إفريقيا، إلى تعزيز علاقاتها مع الأنظمة الجديدة في منطقة الساحل التي تشهد تحولات سياسية عميقة. تستغل طهران حالة عدم الاستقرار في المنطقة لتوسيع نفوذها وتأمين موطئ قدم لها، خاصة في ظل التوتر المتزايد بين هذه الأنظمة والقوى الغربية.
مستثمر بديل لفرنسا في حقول اليورانيوم: تسعى إيران إلى استغلال التوترات بين النيجر وفرنسا لدخول سوق اليورانيوم النيجري. ففي الوقت الذي تسيطر فيه الشركات الفرنسية على هذا القطاع الحيوي، ترى طهران في ذلك فرصة سانحة لتوسيع نفوذها الاقتصادي في القارة الأفريقية، خاصةً في ظل رغبة النظام الحاكم في النيجر في تنويع شركائه التجاريين.
السيناريوهات المتوقعة بشأن تلك الصفقة:
السيناريو الأول: إن إتمام صفقة اليورانيوم بين إيران والنيجر يُمثل تحولًا استراتيجيًا في العلاقات الدولية، حيث تسعى إيران إلى تعزيز نفوذها في إفريقيا وتحدي الهيمنة الغربية. هذه الصفقة تمكن إيران من الوصول إلى مصادر جديدة لليورانيوم، مما يعزز قدراتها النووية ويقلل من اعتمادها على السوق الدولية. علاوةً على ذلك، فإن هذه الشراكة الاستراتيجية الجديدة تُشكل تحديًا مباشرًا للمصالح الفرنسية في المنطقة، وقد تؤدي إلى تصعيد التوترات الإقليمية والدولية.
السيناريو الثاني: إن احتمالية فشل الصفقة بين إيران والنيجر نتيجة للضغوط الأمريكية والعقوبات الاقتصادية أمر وارد. فواشنطن لديها أدوات ضغط متعددة يمكنها استخدامها لمنع إتمام هذه الصفقة، والتي تُشكل تهديدًا مباشرًا لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة. فشل هذه الصفقة سيحد من قدرة إيران على توسيع برنامجها النووي ويقوي نظام العقوبات المفروض عليها، مما يساهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي.
تُشكل صفقة اليورانيوم بين إيران والنيجر نقطة تحول استراتيجية في سياستها الخارجية، حيث تسعى طهران من خلالها إلى تعزيز قدراتها النووية، وتقويض العقوبات الدولية المفروضة عليها، وتوسيع نفوذها في القارة الأفريقية. هذه الصفقة تندرج في إطار سعي إيران المستمر لتحدي الهيمنة الأمريكية والغربية، وبناء تحالفات جديدة في العالم النامي.
تركيا ويورانيوم النيجر
إجمالًا لما سبق، تمتلك النيجر خام اليورانيوم الأعلى جودة في القارة الأفريقية، وهو سبب رئيس يجذب العديد من دول العالم التي تسعى إلى إيجاد مصادر بديلة للطاقة الأحفورية، والتوجه نحو تكثيف إنتاج الكهرباء من المفاعلات النووية.
ومع الغياب الفرنسي التدريجي عن سوق اليورانيوم النيجري، وذلك بسبب العديد من الأسباب التي تم ذكرها والتي يأتي من ضمنها قيود التصدير، والتي دعمها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بدأت تبرز دول أخرى في دائرة المنافسة، تسعى للاستفادة من هذه الثروة الاستراتيجية، وعلى رأسها الدول الطامحة لإستهداف يورانيوم النيجر هي تركيا التي تستهدف إنشاء أول محطة للطاقة النووية خاصة بها
في 22 أكتوبر 20244، وقعت النيجر وتركيا مذكرة تفاهم حول التعاون في مجال التعدين، أثناء زيارة زير التعدين النيجري، أبارشي عثما إلى إسطنبول، ما يؤكد العلاقات التركية النيجرية الوثيقة في خضم تدافع القوى الجديدة للوصول إلى موارد اليورانيوم في النيجر.
وبموجب الاتفاقيات الجديدة، وافقت الحكومة النيجرية على دعم الشركات التركية في قطاع التعدين بالنيجر بما يشمل تعدين اليورانيوم، وهي خطوة هامة قد تعزز مكانة تركيا في المنافسة مع فرنسا والاتحاد الأوروبي وكندا على موارد اليورانيوم بالنيجر
خلاصة القول، تُعد النيجر سابع أكبر مُنتج لليورانيوم في العالم، ومع ذلك فهي سابع أفقر دول العالم، وذلك وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي لعام 2023. وتشير التقديرات إلى أن حوالي 42% The من سكان النيجر يعيشون في فقر مدقع، فكيف يجتمع الكنز الاستراتيجي مع الفقر في النيجر؟