ليس خافيا على أى متابع لتطور العلاقات الإسرائيلية الأمريكية أن يلمس وجود مجموعة من الخطوط الحمراء التى تحكم جوهر هذه العلاقات، وأهمها الالتزام الأمريكى القاطع بدعم أمن إسرائيل وحمايتها من أي مخاطر تهدد وجودها، بما فى ذلك تقديم كل أنواع الدعم السياسى والعسكرى والاقتصادى. وإذا سلمنا بهذه الخطوط الحمراء التى تربط العلاقات الإستراتيجية بين الدولتين، فإن المنطق يقول إنه لايحق لنا أن نتدخل فى طبيعة هذه العلاقات أو نعترض عليها مادامت تتطور فى المسار الطبيعى لأي علاقات ثنائية، إلا أن الأمر يختلف كثيرا عندما تتطور هذه العلاقات بالشكل الذى يؤثر بالسلب على الأمن القومى العربى خاصة القضية الفلسطينية التى سوف تظل أساس الاستقرار فى المنطقة.
ومن هذا المنطلق لابد لى أن أنتقل إلى الدور الأمريكى إزاء عملية السلام، حيث كانت الولايات المتحدة طوال عقود سابقة، وتحديدا منذ توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية فى مارس 1979 تمثل الشريك الكامل الذى ساهم فى مراحل تالية فى توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993، ثم معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل عام 1994، ثم اتفاقات التطبيع الإسرائيلى مع كل من الإمارات والبحرين والمغرب. ومن الأمور المستغربة أن الدور الأمريكى انتقل من مرحلة الفاعلية إلى مرحلة السلبية التى تراوحت بين أدوار المتابع والمراقب والمناشد تارة، والمتحيز لإسرائيل تارة أخرى، وقد تجلى هذا الدور السلبى بوضوح فى عنصرين رئيسيين، الأول الفشل فى وضع مبدأ حل الدولتين الذى تتبناه الإدارة الديمقراطية موضع التنفيذ، والثانى عدم القدرة على وقف حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة التى بدأت منذ أكثر من عام وامتدت بعد ذلك إلى لبنان، بل إن الأمر أصبح يثير الكثير من التساؤلات عندما وجدنا الإمدادات العسكرية الأمريكية لإسرائيل قد تزايدت وأن الضغوط على إسرائيل لم تؤت ثمارها. ومن الضرورى هنا أن أطوى صفحة إدارة الرئيس بايدن بكل ماعليها تجاه القضية الفلسطينية وأنتقل إلى موقف الإدارة الجمهورية الجديدة التى ستتولى مسئولياتها يوم 20/1/2025 عقب نجاح الرئيس ترامب فى الفوز بانتخابات الرئاسة الأمريكية التى أجريت فى الخامس من نوفمبر الحالى، وأصبحت هناك إدارة قوية يسيطر الجمهوريون فيها على الكونجرس بمجلسيه بما يمنح الرئيس الجديد قوة لم تكن متوافرة فى الإدارة السابقة. وعندما نتحدث عن السياسة المتوقعة لإدارة الرئيس ترامب تجاه القضية الفلسطينية، فمن المؤكد أنها لن تبدأ من نقطة الصفر، حيث إن هذه الإدارة اتخذت العديد من القرارات غير المسبوقة فى تاريخ التعامل الأمريكى مع القضية، خاصة بالنسبة للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وتعدت إلى الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان، وكلها عقبات مؤثرة على مستقبل حل القضية الفلسطينية والصراع ككل. كما أن الرئيس ترامب لم يكتف فقط باتخاذ هذه القرارات بل طرح فى 28 يناير 2020 صفقة القرن التى يمكن توصيفها بأنها أحد المقترحات المصاغة بحرفية للقضاء على إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، حيث تمنح هذه الصفقة إسرائيل كل مطالبها الأمنية والسياسية دون أن تمنح فلسطين أيا من حقوقها المشروعة، ويكفى أن نشير فى هذا المجال إلى أن الصفقة تنهى تماما قضيتى القدس واللاجئين وتمنح إسرائيل السيادة على أكثر من 30% من منطقة غور الأردن بخلاف المساحات التى توجد فيها المستوطنات الإسرائيلية فى الضفة الغربية والقدس الشرقية، وهو الأمر الذى دفع جامعة الدول العربية إلى عقد اجتماع عاجل فى الأول من فبراير 2020 وتم رفض الصفقة بالإجماع.
إذن باستقراء السنوات الأربع التى سبق وأن قضاها الرئيس ترامب فى السلطة نجد أنها فترة شديدة السلبية تجاه القضية الفلسطينية، ورغم ذلك فإن الآمال لاتزال معقودة حتى لو كانت محدودة فى تغيير السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية فى إطار مايطلق عليه «المراجعة العامة لفترة الحكم السابقة»، وهنا أرجو ألا تعيد الإدارة الجديدة طرح صفقة القرن المجحفة بحقوق الشعب الفلسطينى، وأن تكون لها رؤية جديدة تعكف على بلورتها من الآن تحقق الأمن لدولتى إسرائيل وفلسطين إذا كان الرئيس ترامب يرغب فى تأكيد زعامته ورد الجميل للعرب الأمريكيين الذين انتخبوه وساهموا فى انتصاره الساحق.
وإذا كان الرئيس ترامب قد تعهد بإنهاء الحرب فى غزة ولبنان فإنى أرجو ألا يكون هذا هو الهدف الأسمى الذى يرنو إليه، حيث إن نيتانياهو أوضح منذ فترة أن إسرائيل فى طريقها لإنهاء الحرب على تلك الجبهتين، وبالتالى فإنه فى حالة حدوث ذلك فلا يمكن أن يعد هذا إنجازا يحسب للرئيس الأمريكى، حيث إنه تحدث فقط عن إنهاء الحرب دون أن يتطرق إلى الأوضاع التى سنشهدها عقب الحرب خاصة مستقبل عملية السلام، ومن المهم أيضا ألا يعيد ترامب موضوع توسيع حدود إسرائيل ــ التى سأعتبرها من جانبى زلة لسان ــ كما عليه أن يجبر إسرائيل على الانسحاب النهائى من القطاع . ورغم جميع هذه التطورات السلبية التى أصبحت واقعا أمامنا لايقبل الشك،فإن ذلك يفرض على الموقف العربى أن يمتلك ما أسميه صفقة القرن العربية التى أصبحت ضرورة قصوى فى مواجهة صفقة القرن الأمريكية، بحيث تتضمن رؤية متكاملة لحل القضية الفلسطينية، وتشتمل على آليات تنفيذية واقعية وقابلة للتطبيق نطرحها من الآن على المستويين الإقليمى والدولى دون انتظار نهاية الحرب على غزة أو حتى تولى الرئيس ترامب مهام منصبه رسميا، ودعونا نتحرك بجدية فى هذا المسار ونرى نتائجه.