أصدرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، بتاريخ 8/11/2024، تقريرها النصف سنوي المحدث عمّا حدث بغزة منذ أكتوبر 2023، وشددت على تحقيق العدالة فيما يتعلق بانتهاكات القانون الدولي الجسيمة التي ارتُكبت في قطاع غزة. حيث بين التقرير أن ارتكاب الجرائم كان جزءًا من هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد السكان المدنيين، وهو ما يعد جرائم ضد الإنسانية، وكذلك ارتكابها جرائم بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية، وهو ما يرقى إلى جريمة إبادة جماعية.
وأكد التقرير على ضرورة امتثال إسرائيل الكامل والفوري للالتزامات الواقعة عليها من محكمة العدل الدولية، مع الأخذ في الاعتبار العمليات الإسرائيلية في شمال غزة، وتشريعات إسرائيل التي تؤثر على أنشطة وكالة الأونروا، وكذلك التأثيرات طويلة الأمد على حقوق الإنسان التي خلفها الاحتلال الإسرائيلي الممتد منذ 57 عامًا للأراضي الفلسطينية والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، والحصار الخانق لقطاع غزة الذي دام أكثر من 17 عامًا.
ورغم ما جاء بالتقرير لا تزال قوات الاحتلال الإسرائيلية حتى الآن تمعن في هذا القصف تحت مزاعم واهية، في ظل حقيقة أن الجانب الأكبر من قطاع غزة دمر أو خرج عن الخدمة ولا يصلح للحياة.
فالاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023 من أشد الحروب ضراوة وأشدها قسوة وانتهاكًا للقانون الدولي الإنساني، فقد استُخدم في هذا النزاع خلاصة ما جاءت به عبقرية الإنسان من وسائل الهدم والإيذاء والدمار.
وقد قسم التقرير حجم الانتهاكات التي حدثت وما زالت تحدث في غزة إلى عدة نقاط، وفيما يلي بعض الجرائم التي ذكرها التقرير:
قتل المدنيين
حيث بلغت أعداد القتلى الذين تحققت منهم المفوضية حتى سبتمبر 2024 (8119) قتيلًا، منهم 2036 سيدة، و3588 طفلًا. وتعد نسبة 40% من الأطفال و26% نساء و30% رجال وأكثرهم قتلوا في المباني السكنية، وهو ما يؤكد عدم وجود أي منطقة آمنة في غزة.
حالات القتل غير القانوني
استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة أشخاصًا مدنيين وقتلتهم عن طريق الإعدام بقرارات موجزة، فضلًا عن قتل عمال في المستشفيات.
الهجمات على العاملين في المجال الإنساني
أرجع التقرير في ذلك الشأن إلى تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية (أوتشا) أن ما لا يقل عن 196 من طواقم المساعدات قد قتلوا في غزة، وكذلك تم قتل ضباط الشرطة المدنية بغزة، وهو ما يرقى لجريمة حرب.
استخدام الفسفور الأبيض
استخدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي الفسفور الأبيض في غزة بما في ذلك مخيم جباليا للاجئين، وهو أكبر مخيم للاجئين في غزة. ويعد الفسفور الأبيض مادة حارقة تسبب إصابات متنوعة ومعاناة، وتؤدي إلى الموت البطيء والمؤلم، ويسبب عواقب طويلة الأجل على الفلسطينيين المصابين به.
القيود على تقديم المساعدات الإنسانية مما يؤدي إلى التجويع
أدت القيود التي تفرضها قوات الاحتلال الإسرائيلية على دخول المساعدات الإنسانية اللازمة لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة إلى خطر المجاعة نتيجة الحصار الكامل على غزة، بما في ذلك منع المياه عن شمال غزة. وكذلك الاعتداءات الإسرائيلية على وكالة الأمم المتحدة الأونروا، سواء اعتداءات مادية من هجمات على موظفيها وبنيتها التحتية، أو محاولات تشريعية للحد من عمليات الأونروا في غزة والادعاءات التي لا أساس لها من الصحة.
الهجوم على المستشفيات وقتل الأطقم الطبية
هاجمت قوات الاحتلال الإسرائيلي جميع المستشفيات في قطاع غزة بطريقة منهجية، وهو ما أدى إلى شل نظام الرعاية الصحية في غزة، وقتل عدد كبير من العاملين في المجال الطبي تحت مزاعم الاحتلال أن إرهابيي حماس كانوا يعملون في بعض المستشفيات.
قطع الاتصالات
بسبب الحصار على غزة وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر والغارات الإسرائيلية على منشآت الاتصالات، وهو ما يشكل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني من هجمات على الأعيان المدنية، وهو ما يؤدي إلى عدم رصد الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي وعدم الإبلاغ عنها في الوقت المناسب.
النزوح الجماعي
يعتبر ما حدث في قطاع غزة أكبر عملية نزوح جماعي، حيث أمرت قوات الاحتلال بإجلاء جنوب غزة، وهو ما دفع السكان إلى النزوح إلى رفح (1.7 مليون نسمة)، أي ما يعادل 75% من سكان القطاع.
الهجوم على المواقع الثقافية والتعليمية
هاجمت قوات الاحتلال الإسرائيلي عددًا كبيرًا من المؤسسات التعليمية، ومنها تدمير 412 مدرسة وجامعة حتى أبريل 2024، فضلًا عن تدمير البنية التحتية، وكذلك تدمير المساجد في جميع أنحاء غزة.
التحريض على ارتكاب انتهاكات وجرائم حقوق الإنسان
حيث قام المسئولون الإسرائيليون بنقل رسائل تحريضية وانتقامية، والادعاء بتبرير الخسائر في أرواح المدنيين في غزة بأنها أضرار جانبية، وادعاءات بأن نهاية الصراع مرهونة بتدمير غزة بالكامل وخروج الشعب الفلسطيني منها.
وقد أوضحت محكمة العدل الدولية في يناير 2024 في دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بشكل يفيد الإلزام إلى وجوب وجود إجراءات احترازية بأن تتخذ إسرائيل كافة التدابير لمنع ومعاقبة التحريض المباشر على ارتكاب الإبادة الجماعية بحق الأفراد في قطاع غزة، وقد أكدت المفوضية قلقها الشديد من أن إسرائيل أخفقت في الوفاء بهذه الالتزامات.
وذكر التقرير بالنسبة للجماعات المسلحة الفلسطينية إطلاقها القذائف العشوائية تجاه إسرائيل مما تسبب في قتل مدنيين، وهو ما يحظره أيضًا القانون الدولي الإنساني. كذلك شملت فترة التقرير الرهائن الإسرائيلين المحتجزين، حيث لا يزال 133 رهينة محتجزين في غزة، وهو ما يشكل انتهاكًا جسيمًا لاتفاقيات جنيف، ودعا التقرير إلى إطلاق سراحهم.
وانتهى التقرير إلى عدة نتائج منها:
- لا يغطي التقرير كافة الانتهاكات المبلغ عنها.
- التجاهل المتعمد للقانون الدولي الإنساني من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلية والجماعات المسلحة الفلسطينية، وكل ذلك أدى إلى أقصى درجات المعاناة الإنسانية الحالية.
- كثير من الحالات التي وثقها التقرير ترتقي إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية.
وأصدر التقرير عدة توصيات
أولًا: توصيات لأطراف النزاع
- تنفيذ وقف إطلاق النار بشكل فوري.
- قمع ومعاقبة جميع الانتهاكات للقانون الدولي وإجراء تحقيقات سريعة في تلك الانتهاكات.
- دعوة حكومة إسرائيل لإعمال حقوق الإنسان الفلسطينية، بما في ذلك حق تقرير المصير والمساواة وعدم التمييز.
- دعوة حماس للإفراج الفوري غير المشروط عن الرهائن، وضمان معاملتهم بطريقة إنسانية.
ثانيًا: توصيات لأعضاء الأمم المتحدة
- دعوة أعضاء الأمم المتحدة للالتزام بالقانون الدولي، ووقف الدعم اللوجيستي والمالي وتقييم مبيعات الأسلحة لأطراف النزاع.
- دعم عمل المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بالوضع في الأراضي الفلسطينية للوصول لمحاكمات عادلة.
- دعم حماية الفلسطينيين أينما كانوا، وتأمين وقف فوري لإطلاق النار، وتمكين تقديم المساعدات الإنسانية.
بعد عرض ما جاء بالتقرير يمكننا القول إن تقرير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان يعتبر دليلًا مؤكدًا على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وانتهاك كافة القوانين الدولية وخاصة القانون الدولي الإنساني، وهو ما بينه التقرير في عرضه للانتهاكات وذلك خلال فترة التقرير من أكتوبر 2023 حتى أبريل 2024 رغم أن ما حدث بعد ذلك يُعد أشد وأكثر عدوانية وقسوة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يمكن الرجوع إليه وتقديمه كأدلة دامغة لمحكمة العدل الدولية، وكذلك تأكيده على تقرير المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية المرفوع للدائرة الأولى للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة لنظرها للجرائم الدولية المرتكبة بقطاع غزة.
وسلط تقرير المفوضية الضوء على مبدأين لا بد من العمل بهما، وهما مبدأ التمييز ومبدأ التناسب، حيث يعد مبدأ التمييز حجر الزاوية بلا منازع لأحكام القانون الدولي الإنساني، وهو ما يهدف إلى حماية السكان المدنيين من آثار العدوان، فلا بد من التمييز بين المدنيين والمقاتلين وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، وهو ما ورد نصًا بالمادة 48 من البروتوكول الإضافي الأول. ويعد من أهم مصادر التمييز في القانون الدولي الإنساني حظر الهجمات المباشرة ضد المدنيين، وكذلك الهجمات العشوائية، وهي الهجمات التي تصيب الأهداف العسكرية والأشخاص المدنيين والأعيان المدنية دون تمييز.
مبدأ التناسب، حيث حظر مبدأ التناسب الهجوم الذي يتوقع منه أن يسبب خسائر في أرواح المدنيين وإصابتهم، فكل ما تقوم به قوات الاحتلال محظور أصلًا. فالتناسب يكون مهمًا فقط عندما تكون الهجمات موجهة ضد أهداف مشروعة، وهو ما لم يحدث في أي هجمات لقوات الاحتلال الإسرائيلي.
وبالنسبة لاستخدام الفسفور الأبيض في هجمات قوات الاحتلال الإسرائيلي، فقد اعتبرت محكمة العدل الدولية حظر استخدام الأسلحة التي تسبب ضررًا بالغًا وآلامًا لا مبرر لها من المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني، وكل ذلك ما حدث في الانتهاكات الإسرائيلية في قطاع غزة. فدولة الاحتلال الإسرائيلي تعد الحالة النموذج في انتهاك كافة القوانين والمواثيق الدولية، فما يحدث في غزة هو انتهاك واضح لقرارات الشرعية الدولية في ظل قواعد القانون الدولي بصفة عامة وقواعد القانون الدولي الإنساني بصفة خاصة والقانون الدولي لحقوق الإنسان وهو ما خرقتهم دولة الاحتلال الإسرائيلي جميعًا.
كما يضع التقرير الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الأول لدولة الاحتلال الإسرائيلي في وضع حرج أمام الرأي العام العالمي إزاء دورها في حرب غزة ومساندتها لإسرائيل بكافة الطرق، وهو ما سينعكس على عملية السلام في الشرق الأوسط ويعرقل أي إجراء في ذلك.
وختامًا، إن المفوضية مختصة بحقوق الإنسان بصفة أساسية تحقق في الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، فاعتبارات الإنسانية دائمًا أقوى من اعتبارات الضرورة العسكرية، فالقانون الدولي لحقوق الإنسان يطبق في كل زمان، سواء وقت السلم أو وقت الحرب، فلا ارتباط بين الإنسان وحقوقه المكتسبة وبين واقع متغير سلمًا وحربًا، وكافة القوانين الدولية تستهدف حماية الإنسان أيًا كان في كل زمان ومكان.