لا يكاد يمر يوم في هذه الفترة دون أن تتصدر قضايا التجسس على الجزائر لصالح المغرب عناوين الأخبار في الصحف والمواقع الإلكترونية، وشريط العواجل أسفل الشاشات، وتطرح هذه الأحداث تساؤلات كثيرة حول الأهداف والأسباب والمخاطر، وتذهب التساؤلات أيضا باتجاه التدابير الممكن اتخاذها لمكافحة أنشطة التجسس المغربية، والتي أصبح القلق الجزائري يتعاظم بشأنها.
“بيغاسوس” وشبكات خاصة
تكشف البيانات الرسمية الصادرة عن جهاز الأمن الجزائري عن تنامي النشاط العدائي التجسسي الذي تقوده المخابرات المغربية، وتُشير التفاصيل المُعلن عنها من طرف الجهات القضائية والأمنية أن هذا النشاط لم يعد يقتصر فقط على برنامج “بيغاسوس” (أقوى برنامج تجسس تم تطويره على الإطلاق من قبل شركة خاصة) الذي تم من خلاله التجسس على مسؤولين سياسيين وعسكريين كبار ومواطنين جزائريين، بل تعداه إلى استهداف العمق الاستراتيجي الجزائري، باستخدام شبكات تجسس خاصة تحت غطاء الصناعات اليدوية، أو الأعمال الحرفية التي يشتهر بها المغاربة في الجزائر، ودأبوا على ممارستها منذ سنوات خلت.
آخر تطورات هذا الملف الساخن والخطير، توقيف اثنين من الرعايا الأجانب بمحافظة سيدي بلعباس (ولاية جزائرية تقع غرب البلاد) قاما بأعمال عدائية ضد الجزائر. وبحسب ما كشفته مصالح الأمن الجزائري فإن الموقوفين متهمان بتهم “جناية التجسس والتخابر مع دولة أجنبية، إضافة إلى جنحة العمل بأي وسيلة كانت قصد المساس بوحدة الوطن”.
إن ما تتعرض له الجزائر من عمليات تجسس واسعة النطاق هي استمرار للعدائية الممنهجة التي تقوم بها أطراف وظيفية بإيعاز من قوى دولية
الخبير بالشؤون الدولية مبروك كاهي
تأتي هذه العملية بعد مدة زمنية وجيزة من إعلان النيابة العامة في محافظة تلمسان (غربي الجزائر) عن توقيف 7 أشخاص بينهم أربعة مغاربة مُتـهمون بالانتماء إلى شبكة تجسس، وكان هذا قبل نحو أسبوع فقط من الانتخابات الرئاسية التي نُظمت في 7 سبتمبر/أيلول الماضي. وذكر وكيل الجمهورية لدى محافظة تلمسان مصطفى لوبار أن “الأشخاص السبعة تم إيداعهم الحبس المؤقت بقرار من قاضي التحقيق في انتظار محاكمتهم بتهمة ثقيلة”، وبحسبه فإن “التحريات توصلت إلى أن جميع أفراد هذه الشبكة كانوا يتلقون التعليمات من طرف شخص مغربي”. كما توصلت نتائج التحقيق الابتدائي “إلى قيام هذه الشبكة بتجنيد رعايا مغاربة وجزائريين، من أجل المساس بمؤسسات أمنية وإدارية جزائرية”، واللافت للانتباه في القضية أن المتهمين دخلوا بطريقة غير شرعية إلى التراب الجزائري.
خلفيات التجسس
ويُقوي ارتفاع حالات التجسس الموقف الرسمي الذي اتخذه صناع القرار السياسي في الجزائر قبل شهر تقريبا، والقاضي بـ”إعادة العمل الفوري” بفرض تأشيرات دخول على حاملي جوازات السفر المغربية، وقالت السلطات الجزائرية: “إن المغرب أساء استغلال غياب التأشيرة بين البلدين، وانخرط للأسف الشديد في أفعال شتى تمس باستقرار البلاد وبأمنها الوطني، منها نشر عناصر استخباراتية إسرائيلية من حمَلة الجوازات المغربية للدخول بكل حرية للتراب الوطني”.
جنود جزائريون خلال عرض عسكري للاحتفال بالذكرى السبعين لحرب الاستقلال الجزائرية عن فرنسا، 1 نوفمبر 2024 في الجزائر العاصمة
وبالعودة لهذه المؤامرات، وفي محاولة لتفكيك أسبابها وانعكاساتها الداخلية والخارجية، يقول أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة ورقلة، والخبير بالشؤون الدولية الدكتور مبروك كاهي في تقديره لهذه التطورات: “إن ما تتعرض له الجزائر من عمليات تجسس واسعة النطاق هي استمرار للعدائية الممنهجة التي تقوم بها أطراف وظيفية بإيعاز من قوى دولية”.
ويطرح كاهي السؤال التالي: “لماذا هذا العمل؟”، ويقول: “يجب أن نعرف أن استقلالية القرار لها ثمنها الباهظ، الجزائر من الدول القليلة جدا التي نادت بإصلاح منظومة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن على وجه الخصوص، وهذا الأمر لا يرضي القوى الكبرى. أيضا الجزائر دافعت عن القضية الفلسطينية، وهي الدولة الوحيدة التي طالبت بمعاقبة إسرائيل”.
ويضيف: “إن استقلالية القرار لم تأت من فراغ، بل نتيجة تضحيات جسام لرجال الأمن والقضاء على آفة الإرهاب دون مساعدة، في وقت كان الغرب يعتبره شكلا من أشكال المعارضة قبل أن يكتوي بناره وينخرط في محاربته. أيضا الاستقلالية جاءت من سداد الدُيون وعدم الوُقوع في فخ المديونية”.
حروب الجيل الخامس
وذهب الجموح بالمخابرات المغربية، كما يذكر مبروك كاهي، إلى “استخدام حروب الجيل الخامس وتكنولوجيا الإعلام والاتصال، لكن يبدو أنها فشلت، لتفطن الأجهزة الأمنية الجزائرية، وتعزز المنظومة الأمنية بوحدات مكافحة الجريمة المعلوماتية، دون المساس بحريات المواطنين، وهو ما يفسرُ لجوء هذه الأطراف الوظيفية للتجسس التقليدي عبر عملائها، أو تجنيد ضعيفي الإيمان تجاه الوطن”.
ورأى أنه “أفضل حل بعد التأشيرة، هو اليقظة سواء من أجهزة الأمن، أو حتى من المواطنين، والتفطن لأية سلوكيات من شأنها المساس بأمن الوطن واستقراره”.
تنظر الجزائر وغيرها من الدول إلى “بيغاسوس” على أنه نموذج حي للحروب السيبرانية، التي تكمن أهدافها الحقيقية في مُهاجمة المواقع الحكومية والعسكرية الحساسة
ويُؤيده في هذا الطرح الباحث والأكاديمي الجزائري عبد الرفيق كشوط، المتخصص في الدراسات الأمنية والاستراتيجية، والمهتم بقضايا الأمن والسلام في المتوسط، الذي قال لـ”المجلة”: “إن الجزائر أصبحت عرضة لمختلف أنواع التجسس، أهمها التجسس البشري الكلاسيكي، الذي يعتمد على قيمة العامل البشري الجاسوسي، والآخر إلكتروني والذي تتنوع أدواته والتقنيات المستخدمة فيه”.
وتنظر الجزائر وغيرها من الدول إلى “بيغاسوس” على أنه نموذج حي للحروب السيبرانية، التي تكمن أهدافها الحقيقية في مُهاجمة المواقع الحكومية والعسكرية الحساسة، وسرقة معلومات مخابراتية استراتيجية، أو تضليل قوات الجيش وتشتيتها، وهُو ما يُلخص حكاية البرنامج سالف الذكر الذي أثار موجة استياء كبيرة على الصعيد الدولي، وكذلك في المحكمة الأوروبية ببروكسل، لأن معظم ضحايا هذا التطبيق، كانوا من أعضاء البرلمان الأوروبي.
وفي جلسة إعلامية حول “استشراف أثر التطورات العلمية على السلام والأمن الدوليين” انعقدت منذ أيام في مجلس الأمن الدولي، دعت الجزائر على لسان ممثلها في مجلس الأمن عمار بن جامع، إلى “وضع معايير دولية صارمة من أجل الحفاظ على سيادة الدول، فيما تواصل التكنولوجيا تطورها”. وذكر بن جامع أنه “يجب علينا حماية سيادة الدول أمام التطور العلمي السريع، وأن خطر استعمال التكنولوجيا المتطورة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، أصبح أمرا حقيقيا، وتذكروا بيغاسوس”.
جزائريون بالقرب من ملصقات انتخابية قبل الانتخابات الرئاسية الجزائرية بالقرب من ميناء الجزائر، 5 سبتمبر 2024
وشدد على أهمية استعمال التكنولوجيا الجديدة مع “الاسترشاد بالأخلاق” واحترام الخصوصيات الثقافية للبلدان، إذ يجب على هذه التكنولوجيا أن “تعزز أيضا دولة القانون”، داعيا إلى “استعمال التكنولوجيا بشكل يمكن من خدمة الإنسانية جمعاء، وليس مجموعة من البلدان بشكل خاص”.
تهديد خطير
ويُجمع خبراء عسكريون ومحللون سياسيون، على أن التجسس يشكل تهديدا خطيرا على الأمن القومي والاقتصادي للبلاد، لأن الهدف الوحيد منه هو الوصول إلى معلومات حساسة، على شاكلة أسرار الدولة ونظام الدفاع المنتهج، للحفاظ على السيادة الوطنية والبيانات التجارية، وحتى المعلومات الشخصية، وهُو ما أكده الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في اللقاء الدوري الأول، الذي أجراه مع ممثلي الصحافة المحلية، بعد انتخابه لولاية رئاسية جديدة، مشيرا إلى أن بلاده لديها معلومات حول دخول عملاء وجواسيس للكيان الإسرائيلي إلى الجزائر بجوازات سفر مغربية، وتساءل: “ما الذي يدفعُ هؤلاء لزيارة أماكن حساسة مثل الموانئ”، وكشف قائلا إنه “ستتم محاكمة المغاربة علنا ممن تم إلقاء القبض عليهم في إطار تحريات أمنية قادتنا لفرض التأشيرة”.
“تقييد دخول حاملي الجواز المغربي” يُساعد على التدقيق في الوثائق والمعلومات المسبقة عن كل مغربي، يريد الولوج إلى الجزائر
وقد تُستخدم المعلومات المسروقة بحسب الدكتور محمد حليم ليمام، الأستاذ المحاضر في العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة الجزائر الثالثة، في “زعزعة الاستقرار السياسي، وإدخال البلد في الفوضى أو تأليب دول الجوار عليها، وهُنا يمكن استحضار الاحتقان الذي تشهده العلاقات بين الجزائر وجارتها الجنوبية مالي، منذُ إلغاء باماكو بشكل أحادي اتفاق المُصالحة والسلام”.
والمطلوب اليوم حسب ليمام: “تسليط المجهر الأمني على المغاربة، سواء أولئك الذين يصرحون بأنفسهم أو لا يعلنون للسلطات القنصلية، لا سيما الحرفيون منهم، لأنهم يشكلون قنوات لجمع المعلومات في الأوساط الشعبية وحتى تشكيل شبكات داخلية، لرصد الوضع الداخلي، والتسلل إلى هيئات حكومية عسكرية ومدنية”.
سائحة تقف في متجر صغير وتنظر إلى الأطباق المغربية الملونة
وبحسب خبراء وأمنيين فإن “تقييد دخول حاملي الجواز المغربي” يُساعد على التدقيق في الوثائق والمعلومات المسبقة عن كل مغربي، يريد الولوج إلى الجزائر، لا سيما وأن التحقيقات الأمنية أثبتت أن المتورطين في قضايا التجسس، ينتحلون صفة من يمتهنون الحرف التقليدية كالزخرفة الجبسية، فهؤلاء يحظون أكثر من غيرهم بفرصة العمل لدى كبار المسؤولين في الدولة، وأيضا موظفي المصالح الرسمية والشخصيات الهامة ومسيري المؤسسات.
ولذلك يُشدد الأكاديمي الجزائري عبد الرفيق كشوط على “ضرورة التعامل مع هذه القضايا بوصفها خطرا وتهديدًا يُحدق باستقرار البلاد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومن بين الطرق التي يجب اعتمادها مستقبلا، نجد في المقدمة ضرورة تطوير برامج وتطبيقات قادرة على حماية المعلومات، أو كشف الاختراقات لنظم المعلومات المتخلفة في الدولة، مع ضرورة توجه الدولة إلى المنابر والمحاكم الدولية لرفع شكوى أو المطالبة بالمتابعة القضائية، لمثل هذه التجاوزات، والنقطة المهمة التي يجب العمل بها فورا، مراجعة سجل الوافدين للجزائر، والتعامل مع المتورطين في مثل هذه الأعمال بحزم وصرامة، وأخيرا الدفع نحو استصدار لوائح وقرارات أممية لتجريم هذه الأفعال العدائية”.