شن الحوثيون في 9 نوفمبر 2024 هجومًا كبيرًا على المدمرتين في البحرية الأمريكية (USS Spruance) و(USS Stockdale) بينما كانتا على وشك عبور مضيق باب المندب إلى خليج عدن، مما أدى إلى اشتباك بين الجانبين أوضح الكثير من المتغيرات على معادلة المواجهة في البحر الأحمر، وقد ينبئ بتحول في هذه المواجهة مستقبلًا، وخاصة مع وصول الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
استعادة القدرات الحوثية التسليحية المركبة
على الرغم من عدم وجود خسائر مادية أو بشرية للجانب الأمريكي في هذا الهجوم الحوثي، إلا أنه كان للحوثيين خطة محكمة للهجوم بثماني مسيرات جوية انتحارية، وخمسة صواريخ باليستية مضادة للسفن، وأربعة صواريخ كروز مضادة للسفن. ويمثل ذلك دليلًا على استعادة الحوثيين لقدراتهم على شن هجوم مختلط بذخيرة متعددة الأنواع على هدف بحري محدد متحرك.
وهو أمر ذو أهمية ودلالة خطرة للغاية بالنسبة للسفن الحربية وبالتأكيد السفن المدنية على حد سواء، لا سيّما وأن هذا الهجوم جاء بعد 11 شهرًا من بدء العمليات العسكرية ضد الحركة إثر تهديدها للملاحة في البحر الأحمر مع تشكيل تحالف “حارس الازدهار” بقيادة كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. فبعد 11 شهرًا من العمليات العسكرية والهجمات التي طالت قدرات الحوثيين العسكرية، يبدو أنهم قد استعادوا قدراتهم الهجومية، بل والتوسع في عملية استهداف السفن الحربية.
تمكنت حركة الحوثي من التكيف مع العمليات العسكرية لتحالف “حارس الازدهار”. ففي حين أنها كانت تعتمد في السابق على الصواريخ البدائية والطائرات بدون طيار إلا أنها بدأت خلال الأشهر الأخيرة في استخدام نماذج أكثر تقدمًا من الصواريخ والمسيرات، بدقة أكبر ومدى أبعد وأكثر فتكًا مثل الصواريخ الفرط صوتية، مما يطرح تساؤلًا حول ما إذا كانت قد تم تطويرها محليًا أو استيرادها من إيران عبر طرق تهريب لم تتمكن البحرية الأمريكية من إيقافها عبر الاستخبارات المركزية ووحدات حرس السواحل الأمريكي الموجود في منطقة الخليج والمحيط الهندي بسبب التصميمات البسيطة لهذه الأسلحة مما يسهل تفكيكها لقطع صغيرة ونقلها عبر قوارب الصيد التي يصل عددها بالمئات في هذه المناطق مما يصعب رصدها وتعقبها بشكل مستمر لتصل إلى الحوثيين ومن ثم يبدأ تركيبها واستخدامها.
وقد أجرى الحوثيون في 28 أكتوبر 2024 تدريبات بحرية عرفت باسم “ليسوؤوا وجوهكم”، وكان الهدف منها محاكاة العمليات الهجومية على أهداف بحرية مماثلة للقطع البحرية الأمريكية والإسرائيلية باستخدام سلاح جديد لم يكن معروفًا من قبل وهو الغواصات المسيرة الانتحارية (AUV) والتي لقبت ب”القارعة” وتمثل تحديًا كبيرًا للسفن الحربية في عملية الرصد والتعقب وحتى عملية الدفاع ضدها.
وهناك أيضًا عامل مهم في القدرات العسكرية الحوثية يتضمن اللجوء إلى حفر وتجهيز العديد من الأنفاق والكهوف داخل الجبال لتتسع لإخفاء منصات الصواريخ المحمولة على شاحنات كبيرة، بجانب تخزين الذخائر والصواريخ بمأمن من الضربات الجوية، وهو ما استدعى قيام طائرتين من طراز “بي-2” الأمريكية بالقيام بمهمة هجومية الشهر الماضي لتدمير إحدى هذه المناطق المؤمنة.
بتحليل ما سبق، يمكن القول إن الحوثيين قد استعادوا قدراتهم العسكرية، بجانب التجهيز للمضي قدمًا في العديد من العمليات العسكرية المستقبلية في معارك طويلة الأمد، مع عدم الاكتراث بأي خسائر من جانبهم، والتي لن تؤثر بشكل سلبي على قدراتهم التي تم نشرها في أرجاء المناطق المسيطر عليها، ليصعب القضاء عليها عبر الضربات الجوية.
نجاح تكتيكي وفشل استراتيجي
للرد على الهجمات الحوثية، اتبعت البحرية الأمريكية استراتيجية تجمع بين الدفاع والهجوم في وقت واحد، من خلال مستوى عالٍ من الترابط بين الوحدات الجوية والبحرية، للإدراك الكامل لمسرح العمليات بواسطة وحدات الاستطلاع مثل مسيرات MQ-9 التي تحلق باستمرار في أجواء اليمن لمراقبة التحركات الحوثية وتعقب المخاطر المحتملة المتمثلة في منصات الصواريخ والمسيرات أثناء إعدادها، ونقل هذه المعلومات إلى طائرات الإنذار المبكر لتنفيذ مهمات الاستهداف للمخاطر المتحركة (Dynamic Targeting-DT) أو مهمات استهداف للمخاطر الجوية التي تستطيع الاختباء بشكل سريع (Time Sensitive Targeting-TST)، وتتم عبر ذخائر جوية دقيقة بعيدة المدى من تشكيلات طائرات مناوبة في الجو بالفعل.
وفي هذه الحالة، شاركت طائرات F/A-18 Superhornet، وعند الحاجة لاختراق الأجواء لتنفيذ ضربات بعيدة تتم الاستعانة بطائرات F-35C و EA-18 لمرافقة التشكيلات المهاجمة لتحييد قدرة الدفاعات الجوية اليمنية على الاعتراض في حال ظهورها بشكل مفاجئ، وهي منظومات من طراز “ثاقب-1/2/3” التي تعد تحويرًا لصواريخ الاشتباك الجوي الروسية “R73/27/77” أو منظومات SA-6 القديمة المعروفة باسم “فاتر-1” أو منظومات صقر-358 الإيرانية.
عادةً تنجح هذه الضربات تكتيكيًا في تحييد المنظومات الصاروخية الحوثية بشكل استباقي قبل أن تقوم بالهجوم، ولكن ذلك بشكل مؤقت لحين يتم استبدالها في اشتباك آخر، وهكذا. وهو أمر يختلف كثيرًا عمّا كان التحالف قد نفذ هجمات دقيقة لتحييد قدرات القيادة والسيطرة مع منظومات الرصد والإنذار المبكر، وهو جزء مهم من عقيدة حلف الناتو القتالية التي تعرف باسم “Air Sea Battle-ASB” للتعامل مع الخصوم التي تعتمد على أساليب غير نظامية أو غير معتادة للحروب والمعروفة باسم “A2/AD-Anti Access/Arial Denial” التي تستطيع نشر قواتها على مساحات كبيرة مع امتلاك منظومات للدفاع الجوي متحركة لعمل الكمائن الجوية (PUP) أو منظومات هجومية صاروخية سريعة الحركة والمناورة لتقوم بعمل هجمات مدمجة ومعقدة لتشتيت الجهود الهجومية والدفاعية للخصم.
وقد نجحت البحرية وسلاح الجو الأمريكي في تنفيذ الخطة والنجاح في تحييد القدرات الحوثية للربط والتنسيق في تحقيق هجمات مركبة بأكثر من منظومة لشهور قليلة، ولكن من الملاحظ أن الحوثيين استعادوا هذه القدرات بحلول شهر أكتوبر 2024 عندما استطاعوا تنفيذ هجوم مختلط على السفينة التجارية “Olympic Spirit” بواسطة المسيرات والصواريخ الباليستية معًا.
ختامًا، تخلق استعادة الحوثيين لقدرتهم العسكرية وضعًا أكثر صعوبة وتعقيدًا في البحر الأحمر. ومع حركة التجارة المنخفضة حاليًا لم يتبقَ سوى الوحدات البحرية الأمريكية والأوروبية، التي حتى وإن كانت تنجح بشكل تكتيكي في صد الهجمات والرد بهجمات ناجحة، إلا أن الجانب الحوثي أثبت قدرته على استيعاب الهجمات وتكرارها بشكل تدريجي، مما يرفع تكلفة صدها من الجانب الأمريكي التي تجاوزت ملياري دولار حتى الآن. غير أن التساؤل يبقى: إلى متى تستطيع البحرية الأمريكية الاستمرار دون الانسحاب نظرًا للخسائر المادية أو المالية؟ وهي مسألة ستكون من أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة دونالد ترامب، الذي يتوقع الخبراء بأنه سيعجز عن حل هذه المعادلة الصعبة. ولكن يجمع خبراء على أن مشكلة البحر الأحمر لن تحل عسكريًا، ولكن عبر الجهود الدبلوماسية. وبالتأكيد إن هذا التصعيد في البحر الأحمر يرتبط باستمرار الحرب الإسرائيلية على كل من غزة ولبنان، ومن ثم فإن انتهاء الحرب سيتبعه خفض التصعيد في البحر الأحمر. وستحتاج الدول المتشاطئة في البحر الأحمر في اليوم التالي لانتهاء الصراع تشكيل نوع من التحالف المشترك لإنهاء عسكرة هذا الممر الحيوي والعمل على تأمين حرية الملاحة البحرية، وتبدو مصر والمملكة العربية السعودية مؤهلتين للعب هذا الدور.