في سوريا والعراق وعموم دول المنطقة، يسود مناخ من الترقب والقلق الأجواء السياسية والشعبية الكردية، تخوفا من السياسات التي قد يتبناها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب تجاه الملفات المتعلقة بهم، والذي عُرف خلال إدارته السابقة (2017-2021) باتخاذ مجموعة من القرارات “الارتجالية” تجاه قضاياهم، خصوصا فيما يتعلق بقضايا مثل “تنظيم عمليات انسحاب عسكرية متعجلة”، أو قرارات بفك الارتباط السياسي مع جهة كردية أو أخرى، أو عقد صفقات ذات طابع شخصي ومباشر، ستكون في أغلب الأحيان على حسابهم سياسيا وأمنيا.
وعلى الرغم من اختلاف الأحوال والملفات الكردية بين دولة وأخرى، فإنها في مجملها مسائل متحورة حول جماعة قومية وتنظيمات سياسية وأوضاع جيوسياسية خاصة بـ”الأقلية” الكردية في هذه الدول، التي تعاند دولا مركزية وتزاحم أنظمة قومية ومنخرطة في أشكال من الحروب الأهلية والصراعات الجغرافية ضمن هذا الفضاء الكلي.
يعرف الساسة الكُرد، و”أندادهم” السياسيون، أن وجودهم السياسي والعسكري تعزز بالتقادم وطردا مع زيادة النفوذ السياسية والحضور العسكري الأميركي في المنطقة. فمنذ ثلث قرن وحتى الآن، أي عقب حرب الخليج الثانية عام 1991، عقب حرب الخليج الثانية، بدأت ملامح ذلك التناغم الثنائي بين الطرفين تظهر، وتوطدت العلاقة بينهما مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وأصبح الكرد جزءا عضويا من المناخ والحياة السياسية في هذه الدول مع انطلاق عمليات مكافحة الإرهاب، بـ”فضل” هذا الحضور الأميركي. فمع كل تقادم وتراكم لنفوذ الولايات المتحدة، كان الحضور السياسي والجغرافي الكردي ينمو بوتيرة موازية، حتى صارت القوى السياسية والنخبوية الكردية تربط بين نهوض قضيتها واستمرار النفوذ والدور الأميركي في المنطقة.
وقد حصل ذلك لسببين متراكبين: فالحضور الأميركي فكك فعليا بعض الأنظمة الشمولية/المركزية في هذه الدول، مثل العراق، ودفع وشجع بعضها الآخر لاتخاذ سياسات لصالح الانفتاح السياسي والأيديولوجي على أكرادها داخليا، مثل تركيا. كذلك لأن القوى السياسية، وحتى الشعبية، الكردية في مجموع هذه الدول، كانت إلى جانب الخيارات السياسية والأيديولوجية والأمنية التي كانت الولايات المتحدة في المنطقة خلال هذه المرحلة الطويلة، ما خلق تآلفا نفسيا وتناغما سياسيا بين الطرفين.
طوال هذه المرحلة، كان الأميركيون يحسون بأن الأكراد هُم العنصر السياسي والشعبي الوحيد المُرِحب بوجودهم ودورهم في المنطقة، فيما صنف الأكراد الوجود الأميركي كبذرة خلقت لهم وجودا سياسيا وجغرافيا مجددا، بعدما بقوا طوال عقود كثيرة محرومين حتى من “الاعتراف بالوجود”. فالوجود الأميركي أبلج الفيدرالية الكردية في العراق، وخلق حماية نسبية لـ”الهيمنة” الكردية على الكثير من مناطق سوريا، وشجع تركيا على الانفتاح والقبول بأكرادها داخليا، منذ زمن الرئيس الراحل تورغوت أوزال أوائل التسعينات من القرن المنصرم، ومنع إيران من سحق القضية الكردية داخلها، أو في دول الجوار. حدث ذلك رغم المرارة التقليدية التي يحملها الكرد تجاه السياسات الأميركية أثناء الحرب الباردة.
الكُرد.. الحلقة الأضعف
راهنا، يبدو كل ذلك مهددا بالهبوط في مسار عكسي، إن اتخذت إدارة الرئيس ترمب قرارات مستعجلة وغير محسوبة العواقب بالانسحاب العسكري من سوريا والعراق، بدواعٍ مثل عدم الرغبة الأميركية بالدخول في “صراعات تاريخية” بين شعوب المنطقة، حسبما صرح الرئيس ترمب أكثر من مرة أثناء ولايته الأولى، أو خفضا للنفقات وتوفيرا للجهد وإغلاقا للملفات المستدامة، كما وعد الرئيس أثناء حملته الانتخابية. أو لو عقد الرئيس المنتخب “صفقات” سياسية وأمنية شخصية مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، طلبا لأشكال من التعاون والمساهمة التركية الجيوسياسية التركية إلى جانب الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة، وهو ما نفذه الرئيس ترمب حرفيا من قبل، أواخر عام 2020، حينما قبِل بالهجوم التركي على المنطقة الممتدة بين بلدتي رأس العين وتل أبيض السوريتين، والتي كان مُسيطرا عليهما من قِبل “قوات سوريا الديمقراطية” (الكردية) حتى ذلك الوقت. أو حتى لو انزاح الرئيس ترمب لصالح صفقة كبرى مع إيران، قد تعزز نفوذها في العراق تحديدا، وتزيد من مستويات عنفها الداخلي تجاه القوميات غير الفارسية.
تبدو القضيةالكرديةمهددة بالهبوط في مسار عكسي، إن اتخذت إدارة ترمب قرارات مستعجلة وغير محسوبة العواقب بالانسحاب العسكري من سوريا والعراق، بدواعٍ مثل عدم الرغبة الأميركية بالدخول في “صراعات تاريخية” بين شعوب المنطقة
وبالنسبة لأكراد سوريا، فإن حدوث أشياء من تلك، يعني فعليا خسارتهم للقوة الدولية الرئيسة الراعية لهم، وشبه الوحيدة. فيما يمتاز كل “خصومهم” السوريين الآخرين بأشكال من الدعم والرعاية الإقليمية والدولية. الأمر الذي سيؤدي عمليا، ولو بعد مراحل، إلى انهيار الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا، التي يشغلون فيها موقعا قياديا/رئيسا. إما لصالح تركيا والميليشيات السورية والإسلامية الملحقة بها، كما في منطقتي عفرين ورأس العين راهنا، وبعد حروب ستكون دمارا كاملا عليهم، بسبب فارق القوة العسكرية الهائل بين الطرفين، وهو ما بدأت الآلية السياسية والدعائية التركية تُشير إليه صراحة، بل وتتوعد به. أو قد تستبق هذه الإدارة الذاتية ذلك بتوافق سياسي وجغرافي مستعجل مع السلطة المركزية في دمشق، يُعيد سلطتها إلى كل مناطق الإدارة الذاتية، بغية منع ذلك، وهو سيكون توافقا سياسيا وعسكريا على حسابها تماما، لأنه سيحدث دون الحد الأدنى من التوازن بين الطرفين، وفي زمن ضاغط وظرف مُبتز لهذه الإدارة.
مقاتلون من “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) يشاركون في عرض عسكري في حقل العمر النفطي في محافظة دير الزور، شرق سوريا في 23 مارس 2021
وفي العراق، وإن كانت الفيدرالية الكردية تأخذ طابعا دستوريا وجغرافيا واضح الملامح، لكن النفوذ العسكري والمالي والسياسي الأميركي في العراق، كان منذ عام 2003 لصالح الأكراد، تحديدا من خلال دوره في خلق توازن سياسي للكرد مع الجماعات الأهلية العراقية الأخرى، أو مع السلطة الاتحادية/المركزية، التي تملك أغلب أدوات القوة، عسكريا وماليا وحتى شرعيا، وأغلب التيارات السياسية المنخرطة فيها لا تؤمن بالفيدرالية الكردية إلا كأمر واقع، وتسعى بشكل مستتر إلى تفكيكها فعليا، لأنها تعتقد أن هذه الحالة الفيدرالية “عقبة” أمام طموحها في السيطرة التامة وغير التوافقية على نظام الحكم في العراق، ولاعتقادها بأن بعض أشكال “السيادة الجغرافية” التي تتمتع بها كردستان تخلق ملجأ لكل مناهضيهم السياسيين، أو غير المرضي عنهم من قِبل هذه السلطة المركزية “الشيعية”، وتملك الولايات المتحدة أداوت حاسمة لمنع حدوث ذلك.
علنيا، لا تُبدي الأوساط السياسية الكردية العراقية إلا ترحيبا بانتخاب الرئيس ترمب، وتعبر عن جاهزيتها للتعاون مع إدارته في كل ما يخدم مصالح الإقليم والعراق، لكنها متوجسة للغاية من أي انسحاب عسكري أميركي من العراق، لأنها سبقت وجربت ذلك أواخر عام 2011، فدخل العراق في دوامة صراعات داخلية طائفية انتهت بسيطرة تنظيم “داعش” على ثُلث مساحة العراق، وكانت حدود مناطق سيطرته أكثر من ألف كيلومتر مع إقليم كردستان. “داعش” الذي خاض ضد إقليم كردستان معارك شرسة، وارتكب فظائع بحق الأقلية الإيزيدية/الكردية. لا تخفي القوى السياسية الكردية رأيها في ذلك الشأن، وهي الوحيدة بين نظيرتها العراقية الأخرى، التي تُعبر عن مخاوفها من الانسحاب الأميركي علانية، محذرة من النبرة السياسية/الوطنية/الخطابية العراقية، ومدى تأثيرها على مصالح العراق بعيدة المدى، تحديدا في الشق الأمني.
لا يُختصر التوجس الكردي في العراق بالشق الأمني فحسب، بل يتجاوز ذلك لأن يكون حذرا من تنامي النفوذ الإيراني في العراق بعد الانكماش الأميركي
لا يُختصر التوجس الكردي في العراق بالشق الأمني فحسب، بل يتجاوز ذلك لأن يكون حذرا من تنامي النفوذ الإيراني في العراق بعد الانكماش الأميركي، وإنْ عبر الجماعات العراقية المدعومة من قِبلها. فهذه الأخيرة شنت هجمات شبه دائمة على إقليم كردستان، استخدمتها كأدوات ضغط سياسية وعسكرية ضد الإقليم. وزيادة دورها وقوتها مستقبلا، سيكون على حساب حضور نفوذ إقليم كردستان ضمن الكل العراقي بالضرورة، لأنه من بين أشياء أخرى كثيرة، ستعني تلك القوة انتهاء مرحلة “التوافق السياسي” في العراق، الذي يستفيد منه إقليم كردستان أكثر من أية جهة عراقية أخرى.
وفي تركيا لا تختلف الأمور كثيرا، فتقلص الدور الأميركي في سوريا والعراق، سيدفعها حتما لاتخاذ قرارات عسكرية اندفاعية إلى داخل البلدين، رغبة في تصفية الملف الكردي عسكريا لا سياسيا.
كان ذلك واضحا مما جرى خلال الأسابيع الماضية: فتركيا شهدت قبيل الانتخابات الأميركية الأخيرة مبادرة استثنائية من قِبل زعيم حزب “الحركة القومية” (المتطرفة) وشريك الرئيس أردوغان وحزب “العدالة والتنمية” في الائتلاف الحاكم، دولت بهجلي، تجاه المسألة الكردية، وزعيم “حزب العمال الكردستاني” المعتقل عبد الله أوجلان، ما خلق موجة تفاؤل سياسي عارمة في الأوساط الكردية؛ لكنها ما لبثت أن انعكست تماما عقب صدور نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، والاتصال الذي جرى بين الرئيس أردوغان والرئيس المنتخب. والأنباء التي سربتها الخارجية التركية بشأن إمكانية شن عمليات عسكرية جديدة ضد الإدارة الذاتية “الكردية” داخل سوريا، وإنهاء “حزب العمال الكردستاني” عسكريا داخل تركيا وفي العراق، كانت دلالة على تغير تركيا لاستراتيجيتها عقب صدور نتائج الانتخابات الأميركية.
يثق الرئيس أردوغان والمقربون منه بإمكانية خلق توافق أميركي/تركي على حساب القوى الكردية، وإن عبر تقديم تنازلات كثيرة في ملفات أخرى، لا تؤثر على هوية تركيا السياسية.
أصدقاء الكرد إلى جانب ترمب
هناك بعض الأسماء البارزة في إدارة ترمب المرتقبة تدعم القضية الكردية. فمثلا السيناتور ماركو روبيو، الذي سيشغل منصب وزير الخارجية كما هو مُخطط، قام بأكثر من زيارة إلى إقليم كردستان، وعبر مِرارا عن دعمه لإقليم كردستان وقوات البيشمركة، وكان على الدوام من المعارضين لخطط الرئيس ترمب الساعية للانسحاب من شمال شرقي سوريا، وأحد أكثر المطالبين بدعم الأكراد في دول المنطقة.
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يلوح بيده في يوم تجمع انتخابي في جرينسبورو بولاية نورث كارولينا، 2 نوفمبر 2024
ولا يختلف المرشح لمنصب مستشار الأمن القومي الأميركي مايكل والتز عن ذلك كثيرا، وربما يفوق. فعضو الكونغرس مايكل والتز كان قد طالب إدارة الرئيس بايدن أواخر عام 2023 بدعم إقليم كردستان في التصدي للهجمات التي كان يتعرض لها وقتئذ من قِبل الفصائل المسلحة المقربة من إيران، وكان أحد أكثر المدافعين عن ربط العلاقة الأميركية مع العراق بالمعاملة التي تتصرف بها الحكومة الاتحادية العراقية تجاه إقليم كردستان، ويطالب بتصدير نفط إقليم كردستان بشكل مباشر. أما الشخصية التي اختارها ترمب كسفيرة للولايات المتحدة في الأمم المتحدة، إليس ستيفانيك، فهي شديدة التفاعل والتعاطف مع الأكراد السوريين، وتدعوا دوما إلى الاعتراف السياسي العلني بهم، تجاوزا لكل الضغوط التركية، التي تعتبرها ستيفانيك أدوات لفتح حروب لا تنتهي في المنطقة، وتدعم تنامي الإرهاب بشكل غير مباشر.
ويقول الكاتب والباحث المختص بالشؤون العراقية/الأميركية شفان رسول إنه ربما سيعرف الرئيس ترمب أن الكثير من الملفات والتفاصيل التي قد تمس الوضع الكردي مباشرة، ستكون خطيرة على الأمن القومي الأميركي مستقبلا، ولو بعد حين.
ويضيف أنه “في حال عودة التنظيمات الإرهابية وسيطرتها على مناطق واسعة من جغرافيا سوريا والعراق- وهو ما سيحصل بالضرورة لو تفكك النفوذ العسكري والأمني للجماعات الكردية في البلدين- فإن ذلك سيكون وبالا سياسيا على صورته كـ(قائد قوي)، بقي لسنوات يفتخر بأنه الرئيس الأميركي الذي قضى على تنظيم (داعش) عام 2019، وترمب دون شك حريص على أن لا يحدث ذلك مهما كان الثمن”.