منذ بدء الصراع العسكري الروسي- الأوكراني في 24 فبراير/شباط 2022 والسلطات الأوكرانية تلح على حلفائها في “الناتو” والولايات المتحدة لتزويدها بصواريخ باليستية لإحداث تطور لصالحها في هذا الصراع.
لم تستجب الولايات المتحدة إلا بعد مرور نحو 18 شهرا على بدء هذه الحرب، وتحديدا في سبتمبر/أيلول 2023 عندما زودت الجيش الأوكراني بصورايخ “أتاكمز” (ATACMS) الأميركية الصنع، وهي اختصار لعبارة “نظام الصواريخ التكتيكية للجيش” (Army Tactical Missile System).
دخلت هذه الصواريخ في اختبار الفاعلية في أوكرانيا بعد شهر على تسلمها، وقد أكد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أن الأسلحة “أثبتت نفسها” للدلالة على فاعليتها في إصابة الأهداف الروسية بشكل دقيق.
ورغم أن هذه الصواريخ كانت بحوزة أوكرانيا فإن المدى المسموح به أميركياً لاستعمالها كان مواقع القوات الروسية المتمركزة داخل الأراضي الأوكرانية وليس تلك الموجودة في العمق الروسي، الأمر الذي كان يثير امتعاض الأوكرانيين الذين شعروا بأنها مكبلين في هذه الحرب، حتى سمحت الإدارة الأميركية بتوسيع رقعة استعمال هذه الصواريخ في نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
صورة من الأرشيف لمنظومة صواريخ “أتاكمز” تابعة للجيش الأميركي
اللافت في التوقيت أنه يأتي بعد عام على تسلم أوكرانيا هذه الصواريخ، وقبل شهرين على انتهاء ولاية جو بايدن، ما اعتُبر تطورا لافتا في مستوى الدعم الأميركي ونوعيته. وسرعان ما ترجمت أوكرانيا هذه الموافقة في 19 نوفمبر الجاري بإطلاق ستة صواريخ تم اعتراض خمسة منها وسقط السادس في منطقة بريانسك الروسية. فما هي ميزات هذه الصواريخ وحيثيات قرار استخدامها في الوقت الراهن؟
ميزات الصواريخ وفاعليتها
تنتمي صواريخ “أتاكمز” لعائلة الصواريخ التكتيكية أرض–أرض المعروفة بهذا الاسم، والتي تختلف في ما بينها بكمية القنابل العنقودية التي تحويها رؤوسها وبالمدى الذي تصل إليه. وقد تم تصنيعها في مصانع شركة “لوكهيد مارتن” الأميركية للصناعات العسكرية عام 1983. ويمكن الحديث عن فئتين من هذه الصواريخ تم استخدامهما من قبل الجيش الأميركي، الأولى من طراز “إم 39 إيه 1 بلوك آي إيه” والتي استعملت في حرب العراق، وتحمل 300 قنبلة صغيرة، ويتراوح مداها من 70 إلى 300 كيلومتر، والفئة الثانية من طراز “إم 57” التي استخدمت لأول مرة عام 2004، وتمتاز بأنها تحمل رأسا حربيا واحدا شديد الانفجار، ويبلغ وزنها 230 كيلوغراما وتصل إلى المدى نفسه الذي تبلغ الفئة الأولى.
قبل نحو الشهرين على انتهاء ولاية الإدارة الأميركية الحالية سمحت هذه الإدارة لأوكرانيا بضرب العمق الروسي بواسطة لصواريخ “ATACMS”
يبلغ طول صاروخ “ATACMS” الذي سمح باستعماله في أوكرانيا 3,98 متر، بقطر 61 سنتيمترا، وهو يحمل رأسا حربيا من فئة “WDU18” شديد الانفجار وذو قوة تدميرية عالية، وتتراوح زنته بين 160 و560 كيلوغراما، وهو عبارة عن نحو 300 قنبلة صغيرة من نوع (M74) على شكل كرات، قطر الواحدة منها 0.06 سم ووزنها 0.59 كيلوغرام، وتبلغ كلفة تصنيعه حوالى المليون ونصف المليون دولار أميركي.
يتم إطلاق هذه الصواريخ عبر راجمة “MLRS إم 270″، أي من منصات متحركة، ويتم توجيهها بواسطة نظام توجيه ذاتي يعمل على تقنيات الملاحة العالية الدقة وبمساعدة نظام “GPS”، مما يتيح لها تحقيق إصابات دقيقة. ويمتاز الصاروخ بسرعته العالية التي تتجاوز 3 ماخ (الماخ يعادل 1225 كلم/الساعة)، إذ يصل إلى آخر مداه (300 كلم) خلال خمس دقائق، وبسبب سرعته الفائقة تجد الدفاعات الأرضية صعوبة في اعتراضه، وتتسبب هذه السرعة أيضا بإعاقة تحركات القوات البرية وتحد منها.
استخدمت هذه الصواريخ لأول مرة في حرب الخليج الثانية مطلع التسعينات، إذ شهدت تلك الحرب على إطلاق 32 صاروخا بواسطة راجمة صواريخ “إم 270”. ثم استخدمت في غزو العراق عام 2003 حيث تم إطلاق أكثر من 450 صاروخا، ومنذ عام 2015 أطلق أكثر من 560 صاروخا منها في العالم. وحاليا تعتمد عدة دول على هذا النوع من الصواريخ، منها الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، وتركيا، واليونان، وكوريا الجنوبية، ورومانيا. إلا أن حيز استخدامها الفعلي منذ التسعينات في الحروب والتدريبات والمناورات لم يكن إلا في الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية.
من الناحية الهجومية تتيح صواريخ “أتاكمز” (ATACMS)الوصول إلى أهدافها ضمن المدى وتصيبها بدقة، وبالوصول إلى هذا العمق تزداد القدرات الهجومية الأوكرانية. وتستطيع هذه الصواريخ استهداف المنشآت الحيوية الروسية من مرافق عامة وقواعد جوية، وخطوط الإمداد البعيدة عن الجبهة، والبنى التحتية وشبكات المواصلات والاتصالات الواقعة ضمن مدى هذه الصواريخ، وربما تصل إلى منطقة الكورسك التي تشير التقارير إلى وجود قوات كورية شمالية فيها. لكن هذه الصواريخ لن تكون قادرة على اختراق الدفاعات الروسية لكنها على الأقل ستؤدي إلى تعطيل المراكز اللوجستية التي تؤمن الدعم للقوات الروسية المتمركزة داخل أوكرانيا. كما يمكنها تأمين دعم ناري للقوات المتقدمة.
حيثيات القرار الأميركي
قبل نحو الشهرين على انتهاء ولاية الإدارة الأميركية الحالية سمحت هذه الإدارة لأوكرانيا بضرب العمق الروسي بواسطة لصواريخ “ATACMS”، فما هي خلفيات هذا القرار في الوقت الراهن؟
لا تراهن الولايات المتحدة على أن قرارها سيؤدي إلى إحداث تغيير نوعي في مجريات الصراع الروسي- الأوكراني، ويجعلها طرفًا مباشرًا وفاعلا على خط هذا الصراع، ولا تراهن الإدارة الأميركية على أن أي تغيير في طبيعة الصراع سيؤدي إلى تغيير في الموازين الدولية أو أقله في المنطقة. وفي الوقت نفسه تعتبر هذه الإدارة أن “إرسال هذه الصواريخ لن يكون له تأثير كبير على مجريات الحرب، وأن هذه الصواريخ ليست عصا سحرية بإمكانها تغيير قواعد اللعبة في المنطقة، لكنها على الأقل ستوفر دعمًا لأوكرانيا”، ويتمثل هذا الدعم بوضع القواعد الخلفية للجيش الروسي في مرمى هذه الصواريخ.
يقول بوتين إن الأوكرانيين لا يمكنهم بمفردهم استعمال هذه الصواريخ فهم بحاجة إلى خبرة ومساعدة خبراء أميركيين، مما يفترض وجودا عسكريا أميركيا على الأراضي الأوكرانية، وهذا يعتبر تهديدا لروسيا، تماما كما هو وجود وحدات من “الناتو” في أوكرانيا الذي اعتبرته وزارة الخارجية الروسية في 21 نوفمبر 2024 “دخولا مباشرا في الحرب مما سيؤدي إلى عواقب وخيمة على العالم كله”.
جاء القرار الأميركي ردا على المعلومات التي تحدثت عن دخول قوات برية من كوريا الشمالية للقتال إلى جانب الروس، وفق ما يعتقده العقيد المتقاعد في القوات الجوية الأميركية سيدريك لايتون.
في السياسة، هل تسعى إدارة بايدن إلى رمي كرة النار في ملعب الجمهوريين لوضعهم في خضم أزمة عالمية تشترك فيها روسيا و”الناتو” والصين وكوريا الشمالية، ولا يغيب عنها السلاح النووي؟
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أثناء مؤتمر صحافي في كييف في 19 نوفمبر
هل يكون القرار الأميركي مجرد إيفاء بالتزامات قطعتها واشنطن سابقًا للأوكرانيين، أم إنه دفع باتجاه توترات عالمية يتم استثمارها في السياسة الداخلية الأميركية للقول بأن منسوب الصراعات الدولية في عهد بايدن كان أقل مما سيكون عليه في عهد ترامب؟
إذا كانت مشاركة روسيا في هيئة المراقبة في جنوب لبنان لم تحسم بعد، وهي على الأرجح لن تحصل، فإن الثابت على الصعيد الجيوسياسي أن هناك توجها لتخفيف الضغط على روسيا
ارتكز البرنامج الانتخابي لترمب على أولوية الشق الاقتصادي، داخل الولايات المتحدة وخارجها، والذي فهم منه أنه يريد التوجه شرقا باتجاه الصين المنافس الأكبر للولايات المتحدة في الأسواق العالمية، وهذا يتطلب تبريد الساحات المشتعلة في الشرق الأوسط وروسيا، والانصراف إلى معالجة المشكلات الاقتصادية وملفات الهجرة والبطالة والخدمات الاجتماعية للأميركيين وغيرها من الأمور في سلم الأولويات، وهي أمور تسببت فيها إدارة الديمقراطيين، وقد تفاقم بعضها بسبب الإنفاق على الحروب، سواء ما تقدمه الخزانة الأميركية من دعم مالي لحلفائها في ساحات النزاع، أو ما يتكبده الاقتصاد الأميركي جراء الإنفاق على تصنيع الأسلحة لتلبية متطلبات الحروب في أكثر من مكان.
لمست إدارة بايدن توجهاً لدى الجمهوريين لتخفيف الضغط على روسيا وتهدئة الصراع معها على خلفية الملف الأوكراني، فطرح اسم روسيا كدولة مقترحة للاشتراك في هيئة المراقبة الدولية على تطبيق القرار 1701 في جنوب لبنان، الأمر الذي فسر وكأنه إعادة إحياء الدور الروسي في المنطقة ولو جزئيا مقابل ضمان روسيا تنفيذ الشق المتعلق بالقرار لجهة منع مرور الأسلحة لـ”حزب الله” عبر سوريا، ما يعني إعطاء روسيا مساحة سيطرة أكبر داخل الأراضي السورية أقله في المناطق المتاخمة للبنان، وهذه المساحة ستكون ذات أبعاد اقتصادية، تحتاجها روسيا الواقعة تحت سلسلة من العقوبات المفروضة عليها من الولايات المتحدة و”الناتو”. وإعطاء روسيا هذا الدور سيكون حتمًا على حساب الوجود الإيراني والتركي في سوريا، وبذلك تكون الولايات المتحدة قد قلصت إلى حد كبير من حجم الحضور الإيراني ونفوذه في سوريا، مما سينعكس على حجم هذا التأثير في لبنان، وعلى دخول الأسلحة إليه.
وإذا كانت مشاركة روسيا في هيئة المراقبة في جنوب لبنان لم تحسم بعد، وهي على الأرجح لن تحصل، فإن الثابت على الصعيد الجيوسياسي أن هناك توجها لتخفيف الضغط على روسيا سواء من خلال نزع فتيل التوتر بينها وبين أوكرانيا، أو من خلال تخفيف الإجراءات العقابية المالية عليها، وإعطائها مساحة نفوذ أكبر في سوريا.
تبقى هذه السيناريوهات معلقة بانتظار ما ستسفر عنه توجهات الإدارة الأميركية الجديدة حيال الملفات الساخنة في المنطقة، ورؤيتها لمستقبل العالم خلال الولاية الجديدة.