في ظل السباق المحموم نحو تنويع مصادر الطاقة وتبني الاستراتيجيات لإزالة الكربون من غلافنا الجوي، يمثل الاستثمار في الهيدروجين الأخضر استثماراً مسؤولاً مراعياً للبيئة ومستداماً وهو هدفاً طويل الأجل ويرتبط بتحقيق اهداف التنمية المستدامة فضلاً عن كونه مصدر لتخزين الطاقة النظيفة، وهو جزء من الحلول والتدابير لمعالجة التغير…
منذ ما يقرب من 100 عام، وتحديداً في فبراير/شباط 1923، ألقى جون هالدين محاضرة في جامعة كامبريدج حول مزارع الرياح التي من شأنها أن تزود إنجلترا بالكهرباء النظيفة والرخيصة، كما تصور آليات لإنتاج واستخدام تخزين الهيدروجين تحت الأرض لتوفير الطاقة عندما لا تكون الرياح متاحة، ومنذ ذلك الحين، كانت هناك عدة محاولات لتوسيع نطاق الهيدروجين، كوقود نظيف يحل محل النفط.
وفي سياق التغيرات المناخية التي أصبحت من أكبر التحديات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية التي تواجه سكان المعمورة والتي تتولد من رحمها سلسلة من الصعاب والمشاكل الصحية والاجتماعية، أصبح البحث عن بدائل لمصادر الطاقة الملوثة للبيئة أمراً مهماً للغاية بل أصبح هدفاً للدول لمواجه هذا التحدي الخطير، فثمة تأكيد على إن التغيرات المناخية تشكل تهديداً للنمو والتنمية الاقتصادية، فالتعرض للصدمات المناخية مثل ارتفاع درجات الحرارة والفيضانات والاعاصير المدارية وحرائق الغابات وتلوث الهواء وتحمض البحار وموجات الجفاف والتصحر يؤدي الى عرقلة النشاطات الاقتصادية والاجتماعية ويهدد حياة الملايين من الناس، وقد شهدت العقود الثلاث الماضية تغيرات عنيفة في المناخ نتيجة تراكم انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون وزيادة نسبتها بشكل كبير، ويواصل تغير المناخ مسارهُ نحو مستقبل أكثر احتراراً.
ويتطلب حل هذا التحدي الخطير والكبير اتخاذ جملة من الإجراءات كانت منها عقد الاتفاقيات الطوعية لخفض الانبعاثات ووضع الخطط الاستراتيجية وعقد المؤتمرات الدورية، وقد تم انشاء اتفاقية الأمم المتحدة الاطارية بعد وقت قصير من إصدار الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ لتقرير التقييم الأول في عام 1990، إذ وضعت المعايير ودفعت العمل نحو الحد من انبعاثات الكربون، وتسريع التحول العالمي في مجال الطاقة، ومساعدة البلدان على التكيف وبناء القدرة على مجابهة القضايا المناخية المتفاقمة، إذ يجتمع في كل عام الدول الأعضاء في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ والبالغ عددهم 198 دولة لقياس التقدم المحرز والتفاوض بشأن الاستجابات المتعددة الأطراف لتغير المناخ، وقد اتفقت اغلب دول العالم على ضرورة وقف وإزالة الكربون من الجو للتخفيف من حدة الاثار السلبية لتغير المناخ.
ويمثل التحول الى مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة (والجديدة) أحد الحلول المتبعة لمواجهة هذه التحديات، وقد برز استخدام الهيدروجين النظيف كمصدر للطاقة بقوة وسط معركة مواجه التغير المناخي لخفض الانبعاثات والتقليل من الآثار السلبية للتغير المناخي. فهو يمثل أحد ركائز مستقبل الطاقة النظيفة والمستدامة واحد الخيارات التنافسية وأصبح أحد الحلول العالمية المطروحة للوصول الى الحياد الكربوني الصفري، كما يعد أحد مصادر الطاقة المميزة كونه مصدر صالح للوقود من خلال مساهمته في عملية تحول أو نقل الطاقة وتخزينها وهذا ما يجعله أحد المكونات الأساسية في الاقتصاد الدائري للكربون الذي يُسرع التحول الى أنظف أنواع الوقود وأكثرها استدامة.
مخطط (1) معلومات حول الهيدروجين كمصدر طاقة
المصدر: المخطط من عمل الباحث بالاستناد الى:
– المركز الاحصائي لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الهيدروجين كمصدر وناقل للطاقة النظيفة المستدامة في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، سلسلة ابعاد معلوماتية ومعرفية، سلطنة عمان، 2022، ص5.
وعلى هامش اجتماع القادة العالميين في النسخة 23 لمؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ Cop23 بمدينة بون الألمانية لعام 2021 التقى 18 من قادة مختلف قطاعات الصناعة لإطلاق رؤية عالمية معززة بالأرقام والكميات حول دور الهيدروجين والتي تم اعدادها من شركة ماكينزي للاستشارات، أشارت إلى إنه فضلاً عن كون إن الهيدروجين ركيزة أساسية في عملية تحول الطاقة فإن لديه القدرة على تحقيق 2.5 ترليون دولار من الاعمال التجارية ويوفر اكثر من 30 مليون وظيفة بحلول عام 2050(1).
وفي الأبحاث العامة والوثائق الاستراتيجية، يتضمن النهج المتبع في التمييز بين أنواع الهيدروجين العديدة تصنيفاً مشروطاً يعتمد على اللون، إذ تشير الوكالة الدولية للطاقة المتجددة إلى الهيدروجين الأخضر والأزرق والرمادي (المخطط 2) ويشمل الهيدروجين النظيف جميع المتغيرات غير الرمادية.
مخطط (2) ألوان الهيدروجين
المخطط من عمل الباحث بالاستناد الى:
-Green hydrogen strategy: A guide to design, International Renewable Energy Agency IRENA, Abu Dhabi, 2024, p12.
ويتمتع الهيدرجين بإمكانات هائلة بوصفه وقوداً يمكن استخدامه في إحداث تحول الطاقة العالمي، فهو يستخدم كوقود للسيارات و إنتاج الكهرباء وتوليد الحرارة، ويمكن أن يكون مادة خام أولية ووحدة أساسية في المنتجات الكيميائية الأخرى، مثل الأمونيا (وهي مدخل رئيسي في الأسمدة) والميثانول (الذي يستخدم في إنتاج البلاستيك)، كذلك فإن الهيدروجين ومشتقاته يمكن تخزينهما إلى ما لا نهاية في صهاريج وقباب ملحية، وهو ما يعني أنهما ربما يكونان من الحلول المهمة لتخزين الطاقة على المدى الطويل، ومن الأمور المهمة أن الهيدروجين يمكن أن يحل محل الوقود الأحفوري في جميع هذه الأغراض دون أن يتسبب في انبعاث ثاني أكسيد الكربون، فهو ناقل للطاقة خال من الكربون، وتتوقع معظم سيناريوهات إزالة الكربون أن يكون للهيدروجين دور مهم في تحقيق الانبعاثات الصفرية الصافية بحلول منتصف القرن. وتتوقع الوكالة الدولية للطاقة والوكالة الدولية للطاقة المتجددة أن يلبي الهيدروجين من 12% إلى 13% من الطلب النهائي على الطاقة بحلول 2050(2). وهناك إجماع عالمي الآن يتمثل في إن الهيدروجين ومشتقاته هو جزء من لغز إزالة الكربون من القطاعات التي يصعب تخفيفها وكذلك للتخزين والنقل طويل الأجل للطاقة النظيفة.
شكل (1) تقديرات الطلب العالمي على أنواع الهيدروجين بحلول عام 2050 وفقاً للوكالات المتخصصة
المصدر: المركز الاحصائي لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الهيدروجين كمصدر وناقل للطاقة النظيفة المستدامة في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، سلسلة ابعاد معلوماتية ومعرفية، سلطنة عمان، 2022، ص10.
من جانب آخر، وبعد دخول اتفاقية باريس حيز التنفيذ في نوفمبر 2016 وإطلاق مجلس الهيدروجين في يناير 2017 أصبح الاهتمام بالهيدروجين النظيف (الأخضر والمنخفض الكربون) جزءً مهماً لحل أزمة المناخ، فهو استثمار مسؤول اجتماعياً (استثمار مؤثر) ومستدام يدمج العوامل الاجتماعية والبيئية والمالية، وبدأت الدول بوضع استراتيجيات لتبني انتاج الهيدروجين الأخضر، إذ يتم انتاجه من خلال التحليل الكهربائي التي يتم توفيرها من مصادر الطاقة المتجددة ويٌعد الخيار الأمثل والأكثر ملائمة على المدى الطويل في مجال تدابير إزالة الكربون، ويمثل الشكل الاتي المحركات والقطاعات في استراتيجيات الهيدروجين الوطنية.
شكل (2) القطاعات والمحركات التي يستهدفها الهيدروجين الاخضر
الشكل من عمل الباحث بالاستناد الى:
-Green hydrogen strategy: A guide to design, International Renewable Energy Agency IRENA, Abu Dhabi, 2024, p26.
ويمكن استخراج الهيدروجين النظيف (النقي) بطرق مختلفة لعل ابرزها(3):
– اصلاح الهيدروكربونات: يشكل اصلاح غاز الميثان بالبخار التكنلوجيا المهيمنة لإنتاج الهيدروجين، ويتم استخدام الغاز الطبيعي (الميثان) كمصدر أساسي مع البخار في انتاج الهيدروجين شكلت هذه التقنية نحو 75% من انتاج الهيدروجين النقي المنتج حالياً
– تغويز الفحم والكتلة الحيوية: (عملية تسخين تستخدم لتحويل مادة ما إلى غاز.)
– التحليل الكهربائي: ويختلف التحليل الكهربائي عن الطرق الأخرى، اذ تقوم هذه الطريقة بتقسيم المياه الى هيدروجين واوكسجين وغالباً ما تأتي الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة
وقد استحوذ الهيدروجين النظيف المعروف بإمكاناته في توفير تغيير تدريجي في مشهد الطاقة على اهتمام اللاعبين والشركات العالمية والتي تهدف الى أن تكون رائدة في تبني الهيدروجين الأخضر، إذ تٌشير التقديرات الى إن الهيدروجين النظيف ومشتقاته يمكن أن يساهم بنحو 12٪ من إجمالي الانخفاض في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بحلول عام 2050، ومن المتوقع أن تبلغ حصة الهيدروجين الأخضر في الهيدروجين النظيف نحو 94٪ في عام 2050 (4).
ويمكن للهيدروجين الأخضر تسهيل استخدام الطاقة المتجددة في القطاعات التي يصعب الحد منها إذ تشير تقديرات الوكالة الدولية للطاقة المتجددة IRENA ووفقاً لسيناريو ارتفاع درجات الحرارة عند 1.5 درجة مئوية إلى أن الهيدروجين الأخضر إلى جانب السلع المشتقة من الهيدروجين (الأمونيا والميثانول والحديد والصلب)، لديه القدرة على معالجة جزء يصل الى 14% من الطلب العالمي النهائي على الطاقة في عام 2050 (5).
وعلى مدار السنوات الأربعة الماضية شهدت أسواق الهيدروجين زيادة 7 اضعاف في حجم الاستثمارات، وقد أشار مجلس الهيدروجين العالمي عبر اصداراته المتعلقة بالهيدروجين Hydrogen Insights، الى إن صناعة الهيدروجين العالمية ناشئة وتواجه تحديات مع توسعها، ومع ذلك، بالنظر إلى تطور صناعة الهيدروجين العالمية منذ الإصدار الأول في عام 2021، فإن التقدم الذي تم تحقيقه لا يمكن إنكاره، إذ شهدت مشاريع الهيدروجين النظيف التي وصلت إلى قرار الاستثمار النهائي زيادة كبيرة من 102 مشروع ملتزم في عام 2020 (وهو ما يمثل حوالي 10 مليارات دولار أمريكي) إلى 434 في عام 2024 (نحو 75 مليار دولار أمريكي) وقد نمت الاستثمارات المعلنة حتى عام 2030 بقوة إذ تم الإعلان عن استثمارات بقيمة 680 مليار دولار، بما في ذلك الاستثمارات في المشاريع التي اجتازت قرار الاستثمار النهائي على الرغم من الرياح المعاكسة مثل زيادة التضخم وأسعار الفائدة والاضطرابات في أسواق الطاقة العالمية وتقييد سلاسل التوريد في أعقاب أزمة أوكرانيا وبلغت حصة المشاريع التي تركز على توريد الهيدروجين النظيف أكثر من 60% من إجمالي الاستثمارات في عام 2020، ومن ثم وصلت إلى نحو 75% في عام 2024(6).
وعلى الرغم من ارتفاع تكلفة انتاج الهيدروجين الأخضر مقارنةً بالمصادر الأخرى، إلا إن أحدث تقرير للوكالة الدولية للطاقة المتجددة يُشير الى أن تكلفة توليد الطاقة المتجددة تنخفض بسرعة كبيرة، إذ انخفضت تكلفة الطاقة الشمسية الكهروضوئية وطاقة الرياح البرية والبحرية بنحو 90% و69% و59% على التوالي خلال المدة 2010-2022، كما وتعد الطاقة الشمسية وطاقة الرياح أرخص أشكال توليد الطاقة الجديدة في العديد من مناطق العالم، ومن المحتمل أن تستمر التكاليف في الانخفاض في ظل التطورات التقنية والتكنلوجية التي يشهدها العالم(7). ويوضح الشكل الآتي الدول المرشحة لاحتلال مراكز الصدارة في انتاج الهيدروجين.
شكل (3) الدول المرشحة لتصبح أفضل الدول المنتجة للهيدروجين الخضر على خريطة الطاقة العالمية بحسب استطلاع الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (ايرينا)
الشكل من عمل الباحث بالاستناد الى
– المركز الاحصائي لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الهيدروجين كمصدر وناقل للطاقة النظيفة المستدامة في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، سلسلة ابعاد معلوماتية ومعرفية، سلطنة عمان، 2022، ص16
أما بالنسبة للدول العربية فلديها قدرات كبيرة في إنتاج الهيدروجين الأخضر نظراً لما تتوفر عليه من إمكانيات كبيرة في إنتاج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وطاقة حرارة الأرض. إذ تراهن على تطوير قدراتها في إنتاج الهيدروجين الأخضر بوصفه طاقة المستقبل، كونها تمتلك الشروط اللازمة لإنتاجه وتصديره، وبحسب استطلاع وكالة الطاقة المتجددة الدولية فقد جاءت كل من السعودية والامارات وعُمان وقطر ضمن أفضل 20 بلد لإنتاج الهيدروجين الاخضر، وبحسب تقارير منظمة الدول العربية المصدرة للنفط (أوابك)، فإن قائمة الدول العربية المهتمة بمشروعات إنتاج الهيدروجين توسعت لتشمل الجزائر والعراق ومصر والمغرب وموريتانيا.
وفيما يتعلق بالعراق، فقد بدء يحث الخطى نحو تنويع مصادر الطاقة فقد أعلنت وزارة النفط في سبتمبر/ أيلول 2022 عن افتتاح العراق أول وحدة لإنتاج الهيدروجين بإمكانياته الذاتية، وقد أعلن وزير النفط العراقي في نوفمبر 2024 عن البدء بخطوات انشاء مشروع الهيدروجين الأخضر لصالح شركة مصافي الجنوب بسعة 800 طن سنوياً مع محطة طاقة شمسية بقدرة 130 ميغاواط، مع مشروعين للهيدروجين الأزرق تنفذها شركة توتال انريجي الفرنسية، كما بدأت وزارة النفط العراقية أول مناقصة لتنفيذ مشاريع حفظ الكربون ممولة من سندات الكربون لمشروع حرق الغاز في الحقل الشرقي في بغداد بطاقة 12 مليون قدم مكعب قياسي.
ختاماً، في ظل السباق المحموم نحو تنويع مصادر الطاقة وتبني الاستراتيجيات لإزالة الكربون من غلافنا الجوي، يمثل الاستثمار في الهيدروجين الأخضر استثماراً مسؤولاً مراعياً للبيئة ومستداماً وهو هدفاً طويل الأجل ويرتبط بتحقيق اهداف التنمية المستدامة (الهدف 3و 6 و7 و8 و9 و11 و13) فضلاً عن كونه مصدر لتخزين الطاقة النظيفة، وهو جزء من الحلول والتدابير لمعالجة التغير المناخي لاسيما في القطاعات التي يصعب التخفيف من حدة الآثار المترتبة عليها، ويمكن أن يساهم في تغيير مزيج استهلاك الطاقة وتنويع عائدات التصدير.