كانت تشيلي أولى دول العالم في خصخصة الضمان الاجتماعي، وكانت النتائج مذهلة؛ فقد صار ٩٣ بالمائة من القوة العاملة اليوم مقيدًا في ٢٠ صندوقًا من صناديق التقاعد الخاصة المختلفة. وارتفع متوسط العائدات الحقيقية على استثمارات التقاعد لأكثر من ١٠ بالمائة منذ عام ١٩٨١، عمَّقتْ خطة تشيلي الخاصة للتقاعد سوق…
بقلم: مارك سكاوزن
نحن نصنع ثورة عمالية-رأسمالية من خلال خصخصة الضمان الاجتماعي
خوسيه بينيرا- مهندس منظومة المعاشات التشيلية
في خمسينيات القرن الماضي، وتحت إشراف تيودور شولتز وأرنولد سي هاربرجر، أنشأتْ جامعة شيكاجو برنامجًا للمِنح الدراسية للطلاب من الجامعة الكاثوليكية في تشيلي. جلس عشرات الاقتصاديين التشيليين تحت أقدام ميلتون فريدمان، وجورج ستيجلر، وغيرهما من عمالقة جامعة شيكاجو للتعرُّف على مزايا الأسواق والرأسمالية الديمقراطية. وعادوا إلى تشيلي، وعُرفوا ﺑ «صبية شيكاجو»، لتطبيق منهجٍ يدعم السوق الحرة بهدف معالجة مشكلات أمريكا اللاتينية.
رُبَّ مكافآتٍ عظيمةٍ تنبع من أشياءَ صغيرة؛ فقد أدى هذا البرنامج الصغير إلى ثورةٍ عماليةٍ-رأسماليةٍ عالميةٍ كانت ستدهش كارل ماركس نفسه. وبفضل النجاح الباهر لبرنامج تشيلي للتقاعد المخصخص، حَذَا أكثر من ٣٠ دولة اليوم حذْوَ تشيلي وحوَّلت نمط نُظمها الخاصة بالمعاشات الاجتماعية إلى حسابات تقاعدٍ شخصيةٍ حقيقيةٍ مؤيدةٍ للنمو. وتعكف دول كبرى متقدمة الآن، منها الولايات المتحدة، على مناقشة مسألة تبنِّي نموذج المعاشات التشيلي من عدمه.
كان المهندس الأساسي لهذه الثورة العالمية، خوسيه بينيرا، طالبًا بالجامعة الكاثوليكية بتشيلي في أواخر ستينيات القرن الماضي. وبعد تخرُّجه عام ١٩٧٠، الْتَحق بالدراسات العليا في جامعة هارفارد؛ حيث حصل على درجتَي الماجستير والدكتوراه في العلوم الاقتصادية. عاد بينيرا إلى تشيلي في عام ١٩٧٥ أستاذًا بالجامعة الكاثوليكية بتشيلي، ووجد نفسه في معترك أزمةٍ سياسية؛ فقد كانت تشيلي تعاني من كارثةٍ اقتصاديةٍ كبرى في بداية سبعينيات القرن الماضي تحت حكم أول رئيسٍ ماركسيٍّ منتخبٍ ديمقراطيًّا؛ سلفادور أليندي. فقد خلقت سياسات أليندي الاشتراكية من تأميمٍ ورفعٍ للأجور ورقابةٍ على الأسعار، أزماتٍ وأسواقًا سوداءَ وتضخمًا خارجًا عن السيطرة. وبعد سلسلةٍ من الاحتجاجات الشعبية، قام الجيش بقيادة الجنرال أوجستو بينوشيه بانقلابٍ عسكريٍّ في سبتمبر ١٩٧٣، وانتحر أليندي.
حين أدى الركود التضخُّمي العالمي إلى تفاقم المشكلات في تشيلي، قام بينوشيه باستدعاء بينيرا وصبية شيكاجو لإعادة تنظيم الاقتصاد، وحثُّوا على إجراء خفضٍ حادٍّ في الإنفاق الحكومي، وإلغاء التأميم، وإصلاح النظام الضريبي، وتوسيع التجارة، ووضع رقابةٍ صارمةٍ على النقد المتداول. تأثر بينوشيه تأثرًا جيدًا بخطط بينيرا للإصلاح الاقتصادي التي، كما وعد، ستزيد بشكلٍ كبيرٍ من معدل النمو في تشيلي.
تم تعيين بينيرا وزيرًا للعمل والتضامن الاجتماعي (١٩٧٨–١٩٨٠)، ثم وزيرًا للتعدين (١٩٨٠-١٩٨١) في حكومة بينوشيه. وقام بتنفيذ أربعة إصلاحاتٍ كبرى في تشيلي؛ فوضع أولَ نظامٍ مخصخصٍ للتقاعد في العالم، وبرنامجًا للتأمين الصحي الخاص، وإعادة تأسيس النقابات العمالية الديمقراطية، وقانونًا دستوريًّا بتأسيس حقوق الملكية في مجال التعدين. وكان أيضًا مؤيدًا بارزًا لدستور ١٩٨٠ الجديد الذي وضع ميثاقًا للحقوق ومسارًا انتقاليًّا تدريجيًّا من أجل العودة إلى الديمقراطية.
اشتُهر بينيرا بإصلاحه الجذري لمنظومة الضمان الاجتماعي في تشيلي، وهو برنامج تمَّت محاكاته في جميع أنحاء العالم. وبينيرا هو رئيس المركز الدولي لإصلاح المعاشات، ومتفرغ للخطابة وتقديم الاستشارات في هذا الموضوع حول العالم. والْتقى شخصيًّا بمعظم قادة العالم لإقناعهم بتغيير برامجهم للمعاشات الحكومية.
كيف يعمل نظام تشيلي الخاص للمعاشات؟
أدرك بينيرا، بصفته وزيرًا للعمل في تشيلي، أن نظام صرف الاستحقاقات أولًا بأول كان مفلسًا. وقرر صبية شيكاجو السير في اتجاهٍ مختلفٍ وربْط الاستحقاقات الفردية بالاشتراكات الفردية (مبدأ المساءلة). بموجب البرنامج الجديد، تُوجَّه الأموال المستثمَرة من قِبل العمال إلى الحسابات الفردية التي يمتلكها العمال. وكان الموظفون مطالَبين بالتبرُّع ﺑ ١٠ بالمائة من أجورهم، ولكن يمكنهم استثمار حتى ٢٠ بالمائة طواعية. وكما في دولٍ أخرى، تُخصم الاشتراكات من الضرائب، وعائدات الحسابات الخاصة معفاة من الضرائب إلى حين سحبها عند التقاعد. وعند بلوغ سن التقاعد -الذي يحدده العامل؛ إذ لا توجد سِنٌّ محددة للتقاعد في تشيلي- يمكن للعامل أن يُحوِّل قيمة حسابه إلى معاشٍ سنويٍّ من خلال شركة تأمينٍ معتمدةٍ تدفع له دخلًا ثابتًا لبقية حياته. وعلى ذلك لا داعيَ للمتقاعد الذي يحيا حياةً طويلةً أن يقلق بشأن نفاد الأموال، ولكن لديه ميزة إدارة استثماراته خلال سنوات ادخاره.
يمكن للموظفين إدارة حساباتهم التقاعدية عن طريق الاختيار من بين ٢٠ صندوقًا مشتركًا تديرها شركاتُ استثمارٍ خاصةٌ تُعرف باسم إيه إف بي (وهو اسم مأخوذ من الإسبانية بمعنى مديري صناديق المعاشات). ويمكنهم الاختيار بين الأسهم والسندات والدَّين الحكومي والأسهم الأجنبية، وهي الأحدث. ولهم مطلق الحرية في التحوُّل من صندوق معاشاتٍ لآخر. وتتميز شركات إيه إف بي بالتنظيم الشديد، ولم يحدث أن تعرَّضتْ أيٌّ منها للإفلاس. ويُلزَم العمال بتنويع استثماراتهم على نحوٍ جيد، ولا يمكنهم تركيز استثماراتهم بشكلٍ مكثفٍ في صندوقٍ واحد.
وفي ذلك يقول بينيرا: «لقد كان مُزمعًا لخُطَّتنا أن تكون جذرية (وثورية) في الأسلوب، ومتحفظة وحكيمة في التنفيذ. نحن نثق بالقطاع الخاص، ولكننا لسنا ساذجين. لقد كنا نعرف أنه كانت هناك شركات قد تستثمر في المشتقات المالية وتخسر الكثير من الأموال. ولم نكن نريد أن تستثمر صناديقُ المعاشات أموالَ العمال في المشتقات المالية في سنغافورة.»1
كيف تَوصَّل صبية شيكاجو إلى فكرة إنشاء نظام معاشاتٍ تنافسيٍّ بإدارةٍ خاصة؟ من المدهش أنها لم تكن فكرةَ ميلتون فريدمان. لقد جادل في كتابه، الصادر عام ١٩٦٢ بعنوان «الرأسمالية والحرية»، ضد نظام الضمان الاجتماعي لأسبابٍ اقتصاديةٍ وأخلاقية، ولكنه لم يُقدِّم بديلًا.2 وبحسب أرنولد هاربرجر، الأستاذ بجامعة شيكاجو، فقد نبعت فكرة الخصخصة من خطط المعاش السنوي للمعلمين، المعروفة باسم رابطة التأمين والمعاشات السنوية للمعلمين/صناديق أسهم المتقاعدين بالكليات، بجامعة شيكاجو؛ حيث يُعرَض على أعضاء هيئة التدريس الاختيار بين مجموعةٍ من صناديق الأسهم والسندات. ورأى الأساتذة والخريجون التشيليون كيف كانت المعاشات السنوية للمعلمين ناجحة، وتبنَّى بينيرا الفكرة.3
كانت هناك فترة تحوُّلٍ إلى النظام الجديد، فقد كانت الحكومة التشيلية تعرض أدنى حدٍّ من الضمان على معاشِ كلِّ عاملٍ متقاعد. وكان العاملون الذين لا يزالون في الخدمة والذين كانوا يتبرَّعون للمنظومة الحكومية لسنواتٍ عدةٍ يُمنحون خيارَ البقاء في المنظومة. أما من كانوا ينتقلون إلى المنظومة الجديدة، فكانوا يحصلون على سند إقرارٍ كان يقرُّ باشتراكاتهم في المنظومة القديمة. وعندما كان هؤلاء العمال يتقاعدون، كانت الحكومة تصرف لهم سنداتهم نقدًا.
تم تدشين خطة الضمان الاجتماعي المخصخص في ١ مايو ١٩٨١، الذي يوافق يوم عيد العمال في تشيلي ومعظم بلاد العالم. كان يفترض أن تُدشَّن في ٤ مايو، ولكن بينيرا غيَّر الموعد في آخر لحظةٍ ليصبح ١ مايو. وعن ذلك قال: «حين تساءل زملائي عن السبب، أوضحتُ لهم أن يوم ١ مايو يُحتفل به في جميع أنحاء العالم كيومٍ للمواجهة الطبقية، حين يحارب العمال أصحاب العمل وكأن مصالحهم متضاربة تمامًا. وأخبرتُ زملائي: «لنبدأْ هذه المنظومة في ١ مايو، حتى يمكن في المستقبل الاحتفال بيوم العمال كيومٍ حرَّر فيه العمالُ أنفسَهم من الدولة وانتقلوا إلى منظومة رسملةٍ بإدارةٍ خاصة».»4
مزايا اتباع النموذج التشيلي
كانت تشيلي أولى دول العالم في خصخصة الضمان الاجتماعي، وكانت النتائج مذهلة؛ فقد صار ٩٣ بالمائة من القوة العاملة اليوم مقيدًا في ٢٠ صندوقًا من صناديق التقاعد الخاصة المختلفة. وارتفع متوسط العائدات الحقيقية على استثمارات التقاعد لأكثر من ١٠ بالمائة منذ عام ١٩٨١ (قارن تلك النسبة بنسبة اﻟ ١ بالمائة في منظومة الضمان الاجتماعي الأمريكية). وعلى القدر نفسه من الأهمية، عمَّقتْ خطة تشيلي الخاصة للتقاعد سوق رأس مال الدولة وحفَّزت النمو الاقتصادي. وصعد معدل المدخرات المحلي إلى ٢٦ بالمائة من إجمالي الناتج المحلي، وزاد متوسط معدل النمو الاقتصادي لأكثر من ٥ بالمائة سنويًّا منذ عام ١٩٨٤ فصاعدًا. واليوم يتجاوز إجمالي الصناديق في منظومة تشيلي الخاصة للمعاشات ١٢٠ مليار دولار، بما يمثِّل ٨٠ بالمائة من إجمالي الناتج المحلي لتشيلي.
إن تشيلي، بإيجاز، تُقدِّم نموذجًا يُحتذى للخصخصة الناجحة لمنظومة الضمان الاجتماعي الأمريكية. ووفقًا لبينيرا، فإن تحويل نظام الدفعات إلى برنامجٍ حقيقيٍّ للادخار من شأنه زيادةُ تكوين رأس المال وزيادة زخم النمو الاقتصادي بشكلٍ جوهريٍّ في الولايات المتحدة، وإن كان سينطوي صراحةً على مشكلاتٍ انتقاليةٍ خطيرةٍ أفدحَ بكثيرٍ مما واجهتها دولة تشيلي الصغيرة. ولا يزال بعض الاقتصاديين يعارضون خصخصة الضمان الاجتماعي، ولكن معظمهم على استعدادٍ لتجربته على نسبةٍ صغيرةٍ من ضرائب المساهمة في التأمين الفيدرالية ليرَوْا ما يحدث. على سبيل المثال، اقترح الرئيس جورج دبليو بوش أن يتم تحديد نقطتين مئويتين لحسابات الاستثمار الشخصية، ولكن إلى الآن لم يتم اعتماد مشروع القانون.
وقد أيَّدتْ مجموعة كبيرة من وسائل الإعلام النموذجَ التشيلي، من بينها مجلة «تايم» و«بيزنس ويك»؛ فوفقًا لما أوردته «بيزنس ويك» (قصة الغلاف: «النمو الاقتصادي: مقترح»، بتاريخ ٦ يوليو، ١٩٩٦)، فإن تحويل الضمان الاجتماعي إلى خطةِ تقاعدٍ ممولةٍ بالكامل تتمم بحسابات ادخارٍ فردية؛ يمكن أن يعزِّزَ المدخرات القومية ويَزيد الممتلكات والمعدَّات والمصانع الأمريكية بنسبة ٢٥ بالمائة بحلول عام ٢٠٢٠، ومن شأنه أن يزيد معدل النمو الاقتصادي بشكلٍ جوهري. وسيكون من شأن التدفُّق الضخم للأموال في أسواق الأسهم الحدُّ بشكلٍ كبيرٍ من تكلفة رأس المال وتشجيع الاستثمار.
وقد كان الأستاذ الراحل بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، رودي دورنبوش، الذي لم يكن داعمًا قطُّ لاقتصاديات جانب العرض، مؤيدًا لخصخصة الضمان الاجتماعي والتعليم باعتبارهما المصدرين الأساسيين للنمو؛ فوفقًا لدورنبوش، سوف يدعم تكوينُ رأس المال الناتجِ رفعَ الأجور الحقيقية؛ ومن ثَمَّ سيُقدِّم حلًّا طويلَ المدى لمستوى المعيشة الذي يتآكل.»5 ويعتقد خوسيه بينيرا أن الدفعة الكبرى لإصلاح الضمان الاجتماعي سوف تأتي إذا تبنَّتِ الصين نظام الحسابات الخاصة؛ «حينئذٍ ستُضطر الولايات المتحدة إلى التحرك؛ وإلا فستتخلف كثيرًا.»