اقتصاد ترمب المستحيل

لنتأمل وعود ترمب بخفض الضرائب وتوزيع كثير من المزايا الأخرى على أولئك الذين ساعدوا في انتخابه. مثل هذه التدابير، مع بقاء كل شيء آخر ثابتا، من شأنها أن تعزز الطلب المحلي؛ وإذا جرى تطبيقها جنبا إلى جنب مع الرسوم الجمركية، فسوف تزيد من تكلفة المعيشة. الواقع أن التضخم…

بقلم: جيم اونيل

لندن- في ضوء ترشيحات دونالد ترمب لمناصب وزارية رئيسية حتى الآن، يبدو أن رئيس الولايات المتحدة المنتخب عازم على الأقل على محاولة الوفاء بعدد كبير من وعود حملته الانتخابية. إذا كان الأمر كذلك، فربما تحمل دورة الأخبار الحالية مفاجأة سارة لأولئك الذين سئموا من الزعماء المنتخبين الذين يبذلون وعودا لا يعتزمون الوفاء بها. ولكن بصفتي طالبا وممارسا لهذا العلم الكئيب (الاقتصاد) لفترة طويلة، لا أرى أي سبب يدعونا إلى الاعتقاد بأن سياسات ترمب قد تُـفضي إلى ما يتصور هو وأنصاره أنها ستفعل.

على سبيل المثال، قد يكون فرض قوانين الهجرة في أي بلد بقوة فكرة طيبة. لكن ملاحقة المهاجرين غير الشرعيين المتواجدين بالفعل في البلاد بقوة مسألة أخرى، وإذا جرى ذلك بطريقة تثبط عزيمة المهاجرين في عموم الأمر، فقد تخسر الولايات المتحدة واحدة من المزايا الرئيسية التي تتمتع بها على العديد من نظيراتها من الاقتصادات المتقدمة. فمع الاتجاهات الديموغرافية التي تفرض على شعوب أوروبا واليابان وبلدان أخرى عديدة ضغوطا تدفع أعدادها إلى الانخفاض، يتعين على الولايات المتحدة أن تكون حريصة على عدم الانضمام إليها. لابد من العثور في مكان ما على عمال إضافيين قادرين على الحفاظ على حجم قوة العمل.

لنتأمل هنا وَعدَي الحملة الرئيسيين الآخرين اللذين أطلقهما ترامب: تخفيضات ضريبية كبيرة ورسوم جمركية جديدة تتراوح بين 10% و20% على الواردات من بقية العالم، مع ارتفاع المعدل إلى 60% على السلع القادمة من الصين. على الرغم من سهولة وجود خبراء اقتصاد يختلفون مع بعضهم بعضا في أي مسألة تقريبا تتعلق بالسياسة الاقتصادية، فإن الرسوم الجمركية ربما تكون الاستثناء الكبير الوحيد. إذ يعتقد قِلة من خبراء الاقتصاد أنها فكرة جيدة، ويرجع هذا في الأساس إلى انعدام وجود أي دليل يشير إلى أنها قد تساعد في خفض العجز التجاري لدى أي دولة. الأسوأ من ذلك أن كل التكاليف الإضافية وغير ذلك من العواقب السلبية التي تنتجها معروفة تمام المعرفة.

في تعليق حديث، يستعرض مارتن وولف من صحيفة فاينانشال تايمز هذا الأمر بوضوح. وكما يشرح، فإن ميزان المدفوعات في أي بلد يشكل هوية محاسبية (معادلة لابد وأن تتوازن دائما). وبالتالي، فإن أي عجز في التجارة (والذي يهيمن عادة على ميزان الحساب الجاري) لابد وأن يقابله فائض من تدفقات رأس المال إلى الداخل. بهذه الطريقة يصبح التوازن الإجمالي منضبطا.

في حين قد تستخدم الولايات المتحدة الرسوم الجمركية لتقليص وارداتها من الدولة (أ)، فسوف تضطر إلى زيادة الاستيراد من الدولتين (ب) و(ج) ما لم تعمل أيضا على خفض الاستهلاك، أو الاستثمار، أو الإنفاق الحكومي الذي يحرك الطلب على هذه الواردات في المقام الأول. الواقع أن هذا هو بالضبط ما حدث بعد أن فرضت الولايات المتحدة رسوما جمركية على الواردات من الصين خلال فترة ولاية ترمب السابقة. فقد استمرت الولايات المتحدة في استيراد ذات السلع، ولكن من دول أخرى، وكثير منها زادت وارداتها من الصين. وإذا مضى ترمب قدما وفرض تعريفات عقابية على تلك الدول أيضا، فسوف يتكرر النمط ذاته حتما.

لا توجد طريقة للالتفاف حول هذا: فإذا كانت الولايات المتحدة تريد حقا خفض وارداتها الكلية، فسوف تضطر إلى خفض الطلب المحلي الإجمالي؛ أو بتعبير أدق، سوف تضطر إلى زيادة المدخرات المحلية نسبة إلى احتياجاتها الاستثمارية، وهو ما يعني بدوره تلقي رأس مال صاف أقل من الخارج.

الآن، لنتأمل وعود ترمب بخفض الضرائب وتوزيع كثير من المزايا الأخرى على أولئك الذين ساعدوا في انتخابه. مثل هذه التدابير، مع بقاء كل شيء آخر ثابتا، من شأنها أن تعزز الطلب المحلي؛ وإذا جرى تطبيقها جنبا إلى جنب مع الرسوم الجمركية، فسوف تزيد من تكلفة المعيشة. الواقع أن التضخم الذي أثار حنق كثيرين من الناخبين على إدارة جو بايدن هدأ بدرجة ملموسة، لكن أجندة ترمب قد تدفع الأسعار إلى الارتفاع مرة أخرى إلى عنان السماء. وهذا قبل احتساب الانتقام من قِـبَـل دول أخرى، والتي ستفرض أغلبها رسوما جمركية من جانبها لإلحاق الأذى بالمصدرين الأميركيين (كما فعلت الصين ودول أخرى في السابق عندما استهدفت الزراعة الأميركية).

ولكن ماذا قد يتعلم قادة دول أخرى من تجربة أميركا الغريبة؟ مع رواج نهج ترمب غير التقليدي في السياسة الآن، يمكننا أن نتوقع رؤية مزيد من مبادرات ترمب المصغرة تظهر فجأة في مختلف أنحاء العالم. ولكنها بقدر ما تحاكي طريقة ترمب، فسوف تفشل هي أيضا في تحقيق الأغراض المقصودة منها. ولأن كل البلدان الأخرى لديها ذات هوية ميزان المدفوعات مثل الولايات المتحدة، فإن تلك التي لديها فوائض تجارية كبيرة تصدر بالضرورة قدرا أكبر من رأس المال نسبة إلى احتياجاتها الاستثمارية المحلية الحالية.

في مواجهة عودة ترمب، سوف يبدأ الزعماء الأجانب الحكماء في التفكير في كيفية التصدي للتحديات الاقتصادية المحلية التي تواجهها بلدانهم منذ فترة طويلة. على سبيل المثال، يتعين على البلدان التي لديها مدخرات زائدة أن تفكر في كيفية تعزيز الاستثمار في الداخل أو خفض معدل الادخار المحلي. ونظرا لمشاكلهما الحالية، فإن ألمانيا والصين سوف تستفيدان كثيرا من مثل هذه الاستراتيجية. فهي لن تعزز اقتصاديهما وتزيد من جاذبية قادتهما فحسب؛ بل إنها ستقلل أيضا من صادراتهما من رأس المال إلى بقية العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة.

بعد ذلك، قد تأتي تغييرات سياسية بنّـاءة أخرى كثيرة. على سبيل المثال، تستطيع الصين إصلاح قطاعها المالي والسماح لعملتها باكتساب مزيد من السمات التي كانت محورية لتعزيز قدرة أميركا على اجتذاب رأس المال من بقية العالم. وقد يكون قادة الولايات المتحدة في المستقبل أقل تعجرفا في إملاء شروطهم على آخرين، خاصة وأن الآخرين لن يستمروا في اعتمادهم إلى هذا الحد على الولايات المتحدة وعُملتها.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M