صندوق النقد يثقل كاهل اقتصاد مصر وموازنة المصريين

انتهت بعثة صندوق النقد الدولي قبل أيام من المراجعة الرابعة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المصري، الهادفة الى تحديد السياسات والإصلاحات المتبقية، التي تسمح بصرف الشريحة الرابعة البالغة 1.3 مليار دولار، من أصل القرض المتفق عليه بقيمة ثمانية مليارات دولار. وعلى الرغم من التقدم المحقق، لم يستجب الصندوق إلى المطالب المصرية بتخفيف الضغوط على الحكومة والمواطنين، في ظل الوضع الصعب الذي تعيشه مصر نتيجة للتوترات الجيوسياسية التي أثرت في إيرادات قناة السويس فخفضتها بنسبة 70 في المئة.

حض الصندوق الحكومة المصرية على تسريع خطط بيع الأصول التي تسيطر عليها الدولة، و”تنشيط الإصلاحات لتحقيق التوازن في السوق، وتقليص دور الدولة في الاقتصاد، وخفض الإنفاق على المشاريع العامة، وتعزيز المنافسة، وإفساح المجال في شكل أكبر للقطاع الخاص”. لكن مع تغير النبرة التي كان الصندوق يستخدمها سابقاً تجاه مصر واقتصادها، والتي طالما طالبت بتحرير سعر صرف الجنيه، لم تُلزِم هذه المراجعة الحكومة تعويم العملة كما كان متوقعاً. بدلاً من ذلك، أوصى الصندوق بالاستمرار في سياسة مرونة سعر الصرف.

وفي المقابل، دعا إلى تقليص بعض الإعفاءات الضريبية، خصوصاً في ما يتعلق بضريبة القيمة المضافة، لزيادة الإيرادات. كذلك اتفق على ضرورة تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي في مصر، مع خفض الدعم على المحروقات والطاقة، والتحول من الدعم العيني إلى الدعم النقدي.

 

أشاد الصندوق بالتزام المصرف المركزي الحفاظ على نظام سعر الصرف المرن “لحماية الاقتصاد من الصدمات الخارجية”، وكذلك بالإصلاحات الاقتصادية الرئيسة

 

 

وعلى رغم تدارك الحكومة العديد من الشروط وتنفيذ غالبية ما طُلِب منها خلال المراجعة الثالثة، التي اعتُبِرت الأصعب على المصريين بسبب الضغوط الكبيرة التي مارسها الصندوق في ما يتعلق بملكية الأصول، منح الصندوق الحكومة مساحة أكبر من المرونة في ما يخص بيع الأصول. كذلك أتاح لها مرونة أكبر في تحريك سعر الصرف، الذي ظل يتأرجح بين الارتفاع والانخفاض من دون أن يتجاوز حاجز 50 جنيهاً للدولار الأميركي حتى الآن. ومع ذلك، يتوقع خبراء الاقتصاد أن يشهد الدولار ارتفاعاً جديداً عقب المراجعة الخامسة المزمعة في مارس/آذار 2025، مما قد يؤدي إلى تحريك أكبر لسعر الصرف، وقد يولّد ضغوطاً معيشية لا يتقبلها الشارع المصري، وسط رفض شعبي واضح لأي زيادات جديدة في الأسعار، تشكّل تحدياً كبيراً وتثير مخاوف من تصعيد محتمل.

إشادة بالمصرف المركزي المصري

وأشاد الصندوق بالتزام المصرف المركزي المصري الحفاظ على نظام سعر الصرف المرن “لحماية الاقتصاد من الصدمات الخارجية”، وكذلك بالإصلاحات الاقتصادية الرئيسة التي نفذتها مصر للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي الكلي.

وأشارت رئيسة البعثة، إيفانا فلادكوفا هولار، إلى “إحراز تقدم كبير” في المناقشات بين الحكومة والصندوق في شأن استكمال المراجعة الرابعة في إطار برنامج دعم الاقتصاد المصري الموسع بقيمة ثمانية مليارات دولار، الذي أُقِرّ في مارس/آذار الماضي. وتناول البيان التوترات الجيوسياسية المتعددة في المنطقة وأثرها السلبي في الاقتصاد المصري، موضحاً أن الحرب الإسرائيلية على غزة والتوترات التجارية في البحر الأحمر تتسبب بانخفاض كبير في عوائد قناة السويس بنسبة تصل إلى 70 في المئة، وهي مصدر رئيس للعملة الأجنبية.

 

رويترز رويترز

مقر البنك المركزي المصري الجديد في العاصمة الإدارية، شرق القاهرة، 26 ديسمبر 2023. 

وأشار البيان أيضاً إلى الضغوط المالية المتزايدة التي تواجهها مصر نتيجة ارتفاع أعداد اللاجئين، مما يضع أعباء إضافية على الخدمات العامة، ولا سيما في مجالي الصحة والتعليم. وفي الوقت ذاته، أثنى الصندوق على الإصلاحات التي نفذتها الحكومة المصرية لمواجهة هذه التحديات الخارجية. واتفق الطرفان على أهمية بذل مزيد من الجهود لتعبئة الإيرادات المحلية، واحتواء الأخطار المالية، ولا سيما تلك المتعلقة بقطاع الطاقة، بالإضافة إلى توسيع شبكة الأمان الاجتماعي.

 

بيان المراجعة الرابعة ركز على بحث الفرص والتحديات في الأجل المتوسط، وتدابير الإصلاحات الإضافية المطلوبة، مع الإقرار بالتوترات الجيوسياسية والظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها المنطقة ومصر

 

خبراء اقتصاديون

ومن أبرز مطالب الصندوق في مراجعاته المتكررة، تسريع خطط بيع الممتلكات الحكومية، وتقليص دور الدولة في الاقتصاد، وتنشيط الإصلاحات لتحقيق التوازن في السوق. ويطالب الصندوق بتقليص معظم الإعفاءات الضريبية أو إلغائها، وتوسيع القاعدة الضريبية لزيادة الإيرادات، وتحسين العدالة الضريبية. أضف إلى ذلك، يدعو إلى خفض الدعم على المحروقات والمواد الغذائية، ما من شأنه أن يفرض أعباءً إضافية على المواطنين.

تقييم الخبراء لمراجعة الصندوق ومطالبه

وتعليقا على انتهاء زيارة البعثة، قال خبراء اقتصاديون لـ”المجلة” إنهم سبق واستبعدوا أن تفرض المراجعة الرابعة لصندوق النقد، التي انتهت أخيراً، متطلبات أو اشتراطات جديدة، خصوصاً بعدما كانت المراجعة الثالثة الأصعب بسبب حزمة الإجراءات الصارمة التي التزمتها الدولة المصرية. وشملت تلك الإجراءات رفع أسعار الطاقة والمحروقات، وتنفيذ تخارج الدولة من الاقتصاد، وإعادة ترتيب السياسة النقدية، واعتماد مرونة في سعر الصرف.

وأشاروا إلى أن بيان المراجعة الرابعة ركز على بحث الفرص والتحديات في الأجل المتوسط، وتدابير الإصلاحات الإضافية المطلوبة، مع الإقرار بالتوترات الجيوسياسية والظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها المنطقة ومصر خصوصا. كذلك نبهوا إلى الآثار التضخمية الناجمة عن التناقض بين السياسة التقييدية التي اتبعها المصرف المركزي، والسياسة المالية العامة التي شملت ضبط الموازنة ورفع أسعار الطاقة، مما ساهم في استمرار ارتفاع معدّل التضخم بدلاً من انخفاضه.

وطالب الخبراء الحكومة بمواصلة العمل على خفض الديون الخارجية والدين العام الداخلي، مع تعزيز شبكة الضمان الاجتماعي. كما توقعوا أن تعلن الحكومة، مع مطلع عام 2025، حزمة جديدة من الدعم الاجتماعي تشمل التحويلات النقدية المشروطة، التي تهدف إلى استبدال الدعم السلعي العيني بالدعم النقدي. وشددوا على أهمية إعادة هيكلة دور الدولة في الاقتصاد خلال المرحلة المقبلة.

 

يساوي الحد الأدنى للأجور120 دولارا، وتشير التقديرات إلى أن العديد من الموظفين لا يحصلون حتى على هذا الحد الأدنى، مما يدفعهم إلى البحث عن وظائف إضافية لتلبية احتياجات أسرهم

 

 

وعلى رغم الإصلاحات القاسية التي فرضها الصندوق، أبدى بعض الاقتصاديين تخوفهم من آثارها السلبية، مشيرين إلى التجارب السابقة لدول لجأت إلى صندوق النقد وواجهت فوضى نتيجة “شروطه المجحفة”. وذكّروا بالدور السياسي الذي يؤديه الصندوق، باعتباره أداة في يد الإدارات الأميركية والأوروبية، تُستخدَم لفرض إملاءات اقتصادية على الدول التي لا تتوافق معها سياسياً.

اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء

في ظل هذه الأوضاع، يظل المصريون ينتظرون تحسناً ملموساً في مستوى معيشتهم ونتائج إيجابية للإصلاحات الاقتصادية، في وقت تتسع فيه الفجوة بين فئتين: الأغنياء الذين يُتَّهمون بالجشع، والموظفون الذين يعانون من تدني الأجور مقارنة بتكاليف المعيشة. يساوي الحد الأدنى للأجور ستة آلاف جنيه (120 دولاراً)، بينما يُحدَّد الحد الأدنى لخط الفقر دولياً بـ160 دولاراً. وتشير التقديرات إلى أن العديد من الموظفين لا يحصلون حتى على هذا الحد الأدنى، مما يدفعهم إلى البحث عن وظائف إضافية لتلبية احتياجات أسرهم في ظل ارتفاع تكاليف البضائع، والنقل، والطاقة.

 

.أ.ف.ب .أ.ف.ب

رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، يلقي كلمة خلال فعاليات مؤتمرالأطراف (COP29) في باكو، 13 نوفمبر 2024. 

اعتاد المواطنون على مواجهة ارتفاعات مستمرة في الأسعار من دون أن تقابلها زيادات كافية في الدخول. وحتى عندما تقر الدولة زيادات متفرقة في الأجور، كثيراً ما تفوقها ارتفاعات في الأسعار، إذ يتجه بعض التجار إلى تسعير البضائع بأسعار تفوق سعر الدولار في المصارف المصرية.

وهم يأملون أن يمتلك الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب أدوات تفاوضية أفضل مع الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، بما يؤثر إيجابا على المنطقة، وتاليا على أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية. لكن منذ لجوء مصر إلى صندوق النقد في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 وحتى الآن، لم تلمس غالبية المواطنين أي تحسن حقيقي، وفق آراء بعض الاقتصاديين، إذ تستمر المراجعات التي يجريها الصندوق في فرض مزيد من الضغوط.

 

باتت الزيادات في الأسعار والرسوم جزءاً من الحياة اليومية للمصريين. ارتفعت رسوم خدمات مثل الهواتف المحمولة والإنترنت مرتين في العام نفسه

 

 

مساعٍ وبرامج حكومية

في محاولة لتخفيف تلك الضغوط، تسعى الدولة إلى إيجاد مصادر أخرى للاقتراض، وتحديد سقف معين للديون. كذلك تعمل على تقنين الاستيراد، ولا سيما للبضائع الفاخرة التي يسميها المصريون “استفزازية” مثل السيارات وبعض أنواع الأجبان. وعلى رغم هذه الجهود، لا تزال مطالب صندوق النقد تحمل في طياتها مزيداً من الصعوبات التي لا تصب في مصلحة المواطن أو الدولة، مما يتسبب بتوترات بين الجانبين.

في ظل هذه الأوضاع، باتت الزيادات في الأسعار والرسوم جزءاً من الحياة اليومية للمصريين. ارتفعت رسوم خدمات مثل الهواتف المحمولة والإنترنت مرتين في العام نفسه، مما أثار سخطاً واسعاً على وسائل التواصل الاجتماعي. وتأتي هذه الزيادات نتيجة لضغوط صندوق النقد، الذي يطالب بتقديم الخدمات وفق الأسعار العالمية، على رغم أن دخول المواطنين لا تتماشى مع هذه الأسعار. وفي الواقع، تشكل هذه الأعباء المتزايدة استقطاعاً كبيراً من دخول الأسر، مما يزيد معاناتهم اليومية ويحد من قدرتهم على تلبية احتياجاتهم الأساسية.

في محاولة لرأب الصدع وكسب ثقة الشارع المصري، تتجه الحكومة حالياً إلى مصالحة بعض فئات المجتمع، وخصوصا محدودي الدخل ومتوسطي الدخل، من خلال طرح برامج اجتماعية مثل برامج الإسكان الاجتماعي. تأتي هذه الخطوة استجابة لشعور الدولة بآلام الشارع المصري وتزايد شكاوى المواطنين من الأوضاع الحالية. كذلك تحاول الحكومة بين الحين والآخر تقديم برامج رعاية تستهدف تحسين الأوضاع الاجتماعية، لكن هذه البرامج كثيراً ما تفيد الفئات الأدنى دخلاً، من خلال مبادرات مثل “تكافل وكرامة”، بينما لا تستفيد منها الطبقة المتوسطة، التي انزلقت بدورها إلى الطبقات الأدنى.

مخاوف الخبراء والشارع

ويشير الخبراء إلى أن المراجعة الرابعة لصندوق النقد تحمل آثاراً اقتصادية واجتماعية قد تُفاقِم الأوضاع المعيشية. وعلى رغم محاولة المصرف المركزي الحفاظ على مرونة سعر الصرف، يظل تطبيق هذه السياسة تحدياً كبيراً في ظل الظروف الجيوسياسية الراهنة، مثل انخفاض إيرادات قناة السويس بنسبة 70 في المئة. ومع ذلك، تواصل الدولة تطبيق سياسات الإصلاح الاقتصادي، بما في ذلك التزام تحركات أكثر شفافية في سعر الصرف. لكن هناك تخوفات جدية من أن يؤدي التحرير الكامل لسعر الصرف وفق آليات العرض والطلب إلى ارتفاع غير مسبوق في سعر الدولار، مما قد يؤدي إلى انهيار قيمة الجنيه. ويُعزَى ذلك إلى الممارسات الخاطئة في السوق الموازية، مما يجعل المواطنين يواجهون صعوبات أكبر في تغطية احتياجاتهم المعيشية الأساسية.

 

يعتقد البعض أن هذه التصريحات تعكس توجهاً جديداً لدى الحكومة للبحث عن بدائل آمنة للاقتراض وتمويل المشاريع، من خلال شراكات مع صناديق استثمار عربية

 

 

من جهة أخرى، يلفت خبراء الاقتصاد الانتباه إلى مسألة الضرائب في الموازنة العامة للدولة، التي تشكل أكثر من 85 في المئة من إيراداتها. يتزايد ضغط صندوق النقد لإجراء إصلاحات ضريبية شاملة، بما في ذلك تحقيق المساواة الضريبية، وتوسيع قاعدة الضرائب لتشمل الاقتصاد غير الرسمي، الذي لا يزال خارج المنظومة الضريبية. ومع ذلك، يبقى إدماج هذا القطاع تحدياً كبيراً أمام الحكومة، ولا سيما في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تتطلب سياسات متوازنة تضمن تحقيق العدالة الاجتماعية من دون الإضرار بالطبقات الأكثر تضرراً.

 

صندوق النقد الدولي صندوق النقد الدولي

رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي في مصر إيفانا فلادكوفا هولار. 

قبل زيارة بعثة صندوق النقد بأسابيع، أشارت الحكومة المصرية إلى سعيها لمراجعة بنود الاتفاق مع الصندوق، مع التأكيد أنها لن تتخذ قرارات تفرض أعباء مالية إضافية على المواطنين في الفترة المقبلة. جاء هذا الإعلان في إشارة إلى تجميد أي زيادات محتملة في أسعار المحروقات والخدمات، مما بعث شعوراً لدى المصريين بأن أصوات معاناتهم قد وصلت إلى أعلى المستويات في السلطة.

بدائل التمويل العربية

ويعتقد البعض بأن هذه التصريحات تعكس توجهاً جديداً لدى الحكومة للبحث عن بدائل آمنة للاقتراض وتمويل المشاريع، من خلال شراكات مع صناديق استثمار عربية، ولا سيما من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. ومع ذلك، يرى آخرون أن هذه التصريحات جاءت كوسيلة لتهدئة الرأي العام ومنع حدوث انفجار شعبي، ولا سيما بعد القرارات التي أصدرتها المحكمة الدستورية في شأن قانون الإيجار القديم، والذي يُعَدّ خطوة مثيرة للجدال، إذ يُعتقَد أنه يهدف إلى زيادة إيرادات الدولة، وإن كانت نتائجه قد تُفسَّر على أنها تأتي على حساب المواطن.

يزداد الجدال في ظل الزخم التشريعي والقانوني الذي تشهده مصر، بما في ذلك قوانين تتعلق بحق اللجوء، وعودة الخصخصة، وقانون تسريح العمالة، الذي يُخشَى أن يؤدي إلى ارتفاع نسب البطالة. ومع هذه التطورات، أعلنت الحكومة المصرية أخيراً أن أي عقود حكومية جديدة لن تُوقَّع إلا بموافقة رئيس الجمهورية، في إطار تعزيز الشفافية والوضوح. لكن هذا التوجه، على رغم وضوحه، يتطلب آليات تنفيذ دقيقة لا تستهدف فقط تلبية مطالب صندوق النقد، وإنما تحقيق مصلحة الاقتصاد المصري.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M