السيدة فاطمة الزهراء (ع) قدوة العالمين

كانت مثالا للتواضع والزهد، حيث عاشت حياة بسيطة بعيدة عن الترف والبذخ، متمسكة بالقيم الإسلامية التي تدعو إلى القناعة والرضا بما قسمه الله، فالغنى الروحي والنفسي هو ما يجعل الإنسان يشعر بالاكتفاء والرضا، ويمنحه القوة لمواجهة تحديات الحياة بثبات وإيمان. فالعمل بما يحب الله ويرضى هو من أعظم الأهداف…

تعتبر السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من أعظم الشخصيات في التاريخ الإسلامي، حيث جسدت في حياتها أسمى معاني التقوى والعبادة، وكانت مثالا يحتذى به في الصبر والتحمل والاهتمام بالأسرة، والكرم والعطاء، لم تكن حياتها مليئة بالدروس والعبر للنساء فقط، بل للرجال أيضا، مما يجعلها نموذجا مثاليا يستفاد منه في بناء مجتمع متماسك ومستقر.

التقوى والعبادة

من خلال عبادتها الصادقة ودعائها الخاشع، علمتنا السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن العبادة ليست مجرد طقوس، بل هي وسيلة للتقرب إلى الله عز وجل وكيف لنا ان ندعو الله بإخلاص وتواضع، وان نثق في استجابة دعائنا، مما يعزز من إيماننا ويقوي علاقتنا بالله حتى ورد في احد ادعيتها تقول: (اللهم إني أسئلك الهدى والتقى والعفاف والغنى والعمل بما تحب وترضى اللهم إني أسئلك من قوتك لضعفنا، ومن غناك لفقرنا وفاقتنا، ومن حلمك وعلمك لجهلنا، اللهم صل على محمد وآل محمد، وأعنا على شكرك وذكرك، وطاعتك وعبادتك برحمتك يا أرحم الراحمين)(1)

هذا الدعاء الجميل يعبر عن طلب العبد من الله تعالى أن يمنحه الهداية والتقوى والعفاف والغنى، وأن يوفقه للعمل بما يحب ويرضى ففي اللغة العربية، يستخدم مصطلح (الهدى) للإشارة إلى الهداية التي تأتي من الله عز وجل، والتي تقود الإنسان إلى الصواب في أمور الدين والدنيا، الهداية الإلهية هي التي تنير درب المؤمن وتوجهه نحو الإيمان والعمل الصالح، كما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: (قل إن هدى الله هو الهدى) (2)، مما يؤكد أن الهداية التي يمنحها الله هي الهداية الحقيقية والصحيحة.

فالهداية تشمل جوانب متعددة من حياة الإنسان، فهي ليست مقتصرة على الأمور الدينية فقط، بل تمتد لتشمل كل ما يتعلق بحياة الإنسان اليومية، وهي تقود الإنسان إلى اتخاذ القرارات الصائبة، وتجنب الأخطاء، والسير على طريق الحق والعدل، إنها نعمة عظيمة تتطلب من الإنسان الشكر والامتنان، والسعي الدائم لطلب المزيد منها، وهذا لا يكون الا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى.

في الجملة الثانية من الدعاء، طلبت السيدة الزهراء (عليها السلام) من الله أن يرزقها التقى بقولها: (اللهم إني أسألك التقى)، إذا تأملنا في مفهوم التقى في اللغة العربية، نجد أنه يعبر عن الخوف من الله والالتزام بأوامره واجتناب نواهيه، مما يجعله من الصفات الحميدة التي تمدح في الإنسان، فالتقى ليس مجرد شعور بالخوف، بل هو التزام عملي يظهر في سلوك الإنسان وأفعاله اليومية.

وهو يعكس حالة من الوعي الدائم بحضور الله ومراقبته، مما يدفع الإنسان إلى التصرف بحذر وحرص على الالتزام بما يرضي الله عز وجل، ففي القرآن الكريم، وردت كلمة (التقى) لتعبر عن هذا المعنى السامي، كما في قوله تعالى: (وسيجنبها الأتقى) (3)، مما يشير إلى أن التقى هو الذي يجنب الإنسان من الوقوع في المعاصي ويقوده إلى طريق الصلاح.

فالتقى يتجلى في حياة الإنسان من خلال التزامه بالأخلاق الحميدة، والصدق، والأمانة، والعدل، والإحسان إلى الآخرين، إنه يعبر عن حالة من الطهارة القلبية والنقاء الداخلي، التي تنعكس في كل جوانب حياة المؤمن، وتجعل منه قدوة حسنة في المجتمع.

في الجملة الثالثة من الدعاء، طلبت السيدة الزهراء (عليها السلام) من الله أن يرزقها العفاف بقولها: (اللهم إني أسئلك العفاف)، فالعفاف هو جوهر الطهارة والنقاء في السلوك والأخلاق، وهو من الصفات الحميدة التي تميز الإنسان المؤمن كما روي عن امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام حيث قال: (أفضل العبادة العفاف)(4)

اذ يعبر العفاف عن الامتناع عن كل ما لا يليق قولا أو فعلا، والابتعاد عن الفواحش والمحرمات، مما يعكس التزام الشخص بالقيم والمبادئ الأخلاقية، فكانت الزهراء (عليها السلام) تعلم النساء من حولها أهمية العفاف والحياء، وكانت تشدد على ضرورة الالتزام بهذه القيم كجزء من الإيمان والتقوى، فروي عنها انها قالت: (خير للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال)(5)، مما يعكس حرصها على حماية النساء من الفتن والابتعاد عن كل ما يمكن أن يخل بعفافهن.

في مجتمعنا، يعتبر العفاف ركيزة أساسية لبناء علاقات صحية ومستقرة، حيث يسهم في تعزيز الاحترام المتبادل والثقة بين الأفراد، إن العفاف ليس مجرد سلوك ظاهري، بل هو انعكاس لروح نقية وقلب طاهر يسعى دائما للخير والفضيلة كما جاء في قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله)(6) (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم)(7) هذه الآيات تبرز أهمية العفاف في حياة المؤمنين، وتشدد على ضرورة الالتزام بالعفاف كجزء من الإيمان والتقوى.

في الجملة الرابعة من الدعاء، تطلب السيدة الزهراء (عليها السلام) الغنى من الله عز وجل بقولها: (اللهم إني أسألك الغنى)، هذا الدعاء يعكس فهمها العميق لمعنى الغنى في الإسلام، حيث يكون الإنسان غنيا بروحه وقلبه، وليس فقط بماله وممتلكاته، فالغنى في اللغة العربية يعني الاكتفاء واليسر، وهو حالة من الوفرة والثراء التي تجعل الشخص غير محتاج للآخرين.

واذا تعمقنا في مفهوم الغنى نجده ليس مجرد تكديس للثروات المادية، بل هو حالة من الرضا الداخلي والسكينة النفسية، السيدة الزهراء (عليها السلام) كانت تدعو بهذا الدعاء طلبا للغنى الروحي والنفسي، حيث يكون الإنسان راضيا بما قسمه الله له، ويشعر بالطمأنينة والسكينة الداخلية، هذا النوع من الغنى يجعل الإنسان يعيش حياة بسيطة ومتواضعة، متمسكا بالقيم الإسلامية في كل جوانب حياته.

فكانت مثالا للتواضع والزهد، حيث عاشت حياة بسيطة بعيدة عن الترف والبذخ، متمسكة بالقيم الإسلامية التي تدعو إلى القناعة والرضا بما قسمه الله، فالغنى الروحي والنفسي هو ما يجعل الإنسان يشعر بالاكتفاء والرضا، ويمنحه القوة لمواجهة تحديات الحياة بثبات وإيمان.

وفي الجملة الخامسة من دعائها (عليها السلام) تقول: (اللهم إني أسئلك العمل بما تحب وترضى) فالعمل بما يحب الله ويرضى هو من أعظم الأهداف التي يسعى المؤمن لتحقيقها في حياته، وهذا المفهوم يشمل جميع جوانب الحياة، من العبادات إلى المعاملات، وأن يكون الإنسان ملتزما بتعاليم الدين الإسلامي في كل ما يقوم به، ساعيا لتحقيق رضا الله في كل أفعاله وأقواله.

فيجب أن تكون نية الإنسان خالصة لله في كل عمل يقوم به، سواء كان ذلك في العبادة أو في العمل اليومي، كما قال النبي محمد (صلى الله عليه وآله): (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)(8)، فالالتزام بتعاليم النبي محمد (صلى الله عليه وآله) في جميع جوانب الحياة يساعد على تحقيق رضا الله سبحانه وتعالى، حيث تقدم السنة النبوية نموذجا عمليا لكيفية العيش بما يرضي الله عز وجل، فأداء الفرائض والسنن بانتظام، مثل الصلاة والصيام، يعزز من علاقة الإنسان بالله ويساعده على تحقيق رضاه، القيام بالأعمال الصالحة، مثل مساعدة الآخرين، والصدق، والأمانة، يعكس التزام الإنسان بالقيم الإسلامية ويساهم في تحقيق رضا الله، وتجنب ما نهى الله عنه من المعاصي والذنوب هو جزء أساسي من العمل بما يرضي الله، كما قال الله تعالى: (واتقوا الله لعلكم تفلحون)(9). فالإنسان ليس معصوما من الخطأ، لذا فإن التوبة والاستغفار عن الذنوب والمعاصي يساعدان على تطهير النفس وتحقيق رضا الله.

الاهتمام بالأسرة

كانت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) زوجة وأما مثالية، حيث كانت تهتم بأسرتها وتربي أبناءها على القيم الإسلامية الصحيحة، فتعلمنا أن الأسرة هي نواة المجتمع، وأن الاهتمام بها يساهم في بناء مجتمع قوي ومستقر.

دورها كزوجة مثالية:

تزوجت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في زواج يعد من أروع الأمثلة على التفاهم والمحبة والاحترام المتبادل في التاريخ الإسلامي، لم يكن هذا الزواج مجرد اتحاد بين شخصين، بل كان نموذجا يحتذى به في كيفية بناء علاقة زوجية قائمة على القيم الإسلامية الصحيحة.

فكان التفاهم والمحبة بين السيدة الزهراء والإمام علي (عليهما السلام) واضحا في كل جوانب حياتهما، فكانا يتشاركان في الأفراح والأحزان، ويدعمان بعضهما البعض في مواجهة التحديات، كانت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تظهر حبها لزوجها من خلال الاهتمام به ورعايته، وكان الإمام علي عليه السلام يبادلها نفس المشاعر، مما خلق جوا من الألفة والمحبة في بيتهما.

الاحترام المتبادل كان من أهم أسس العلاقة بينهما، فكانت تقدر دور زوجها كزوج وأب، بالمقابل، كان الإمام يظهر احترامه لزوجته من خلال الاستماع إليها وتقدير آرائها ومشاعرها، هذا الاحترام المتبادل ساهم في بناء علاقة زوجية قوية ومستقرة، فكانت تشارك زوجها في تحمل المسؤوليات والأعباء اليومية، تقوم بأعمال المنزل وتعتني بأبنائها، وفي نفس الوقت تدعم زوجها في مهامه ومسؤولياته، وكان الإمام يقدر جهودها ويشاركها في بعض الأعمال المنزلية، مما يعكس روح التعاون والشراكة بينهما.

كل هذه العناصر من التفاهم والمحبة والاحترام المتبادل وتحمل المسؤوليات والدعم المتبادل ساهمت في بناء علاقة زوجية قوية ومستقرة بينهما، فكانت حياتهما الزوجية مثالا يحتذى به في كيفية بناء علاقة قائمة على القيم الإسلامية الصحيحة، وكيف يمكن للزوجين أن يكونا شريكين حقيقيين في الحياة.

دورها كأم مثالية:

السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت أما لخمسة أبناء: الحسن، والحسين، وزينب، وأم كلثوم، ومحسن عليهم السلام. إلا أن محسن عليه السلام سقط في حادثة أليمة، رغم هذه الفاجعة، كانت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) نموذجا للأم المثالية التي تربي أبناءها على القيم الإسلامية الصحيحة.

فكانت (عليها السلام) تهتم بتربية أبنائها، وتعلمهم مبادئ الدين والأخلاق، وتحرص على أن يكونوا ملتزمين بتعاليم الإسلام في كل جوانب حياتهم، فغرست فيهم حب الله ورسوله، وتعلمهم أن يكونوا صادقين وأمناء ومتواضعين.

كما كانت تهتم بتعليم أبنائها القرآن الكريم والسنة النبوية، وتحرص على أن يتعلموا تلاوة القرآن وفهم معانيه، وتطبيق تعاليمه في حياتهم اليومية، بالإضافة إلى ذلك، كانت تعلمهم الأحاديث النبوية وتفسر لهم معانيها، مما يساعدهم على فهم الدين بشكل أعمق.

وكانت الزهراء (عليها السلام) تظهر لأبنائها الحب والحنان، وتحتضنهم وتعتني بهم، وتحرص على أن يشعروا بالأمان والراحة في حضنها، فتستمع إلى مشاكلهم وتوجههم بحكمة ولطف، مما يعزز من علاقتهم بها ويجعلهم يشعرون بالحب والاهتمام.

حرصت الزهراء (عليها السلام) على تربية أبنائها تربية صالحة، كانت تعلمهم أن يكونوا قدوة حسنة في المجتمع، وأن يسعوا دائما لفعل الخير ومساعدة الآخرين، وتوجههم ليكونوا أشخاصا صالحين يساهمون في بناء مجتمع قوي ومستقر.

الكرم والعطاء

السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت مثالا رائعا للكرم والعطاء، حيث كانت تفضل الآخرين على نفسها وتعطي مما تملك للفقراء والمحتاجين، وهذا السلوك النبيل يعكس عمق إيمانها وقوة شخصيتها، ويعلمنا أهمية الكرم والعطاء في تعزيز الروابط الاجتماعية والتكافل بين أفراد المجتمع.

فكانت (عليها السلام) تعرف بكرمها وعطائها اللامحدود، وتفضل الآخرين على نفسها حتى في أصعب الظروف، فمن أبرز الأمثلة على كرمها، ما روي عن حادثة إهدائها ثوب زفافها لامرأة فقيرة جاءت تطلب منها المساعدة، رغم أنها كانت بحاجة إلى ذلك الثوب، إلا أنها لم تتردد في إعطائه للمرأة المحتاجة، مما يعكس روح الإيثار والكرم التي كانت تتحلى بها.

فكانت (عليها السلام) تعطي مما تملك للفقراء والمحتاجين، وتخصص جزءا من طعامها ومالها لمساعدة الآخرين، حتى لو كان ذلك يعني أنها ستبقى بدون طعام أو مال، من الأمثلة الشهيرة على ذلك، ما روي عن حادثة إطعامها وأسرتها لفقير ويتيم وأسير، حيث أعطوا طعامهم القليل لهؤلاء المحتاجين رغم حاجتهم الشديدة للطعام، مما يجعلها نموذجا يحتذى به في الكرم والعطاء.

الصبر والتحمل

عانت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من العديد من المصاعب والآلام، سواء في حياتها الشخصية أو بعد استشهاد والدها النبي محمد (صلى الله عليه وآله) ورغم ذلك، كانت تتحلى بالصبر والتحمل، مما يعلمنا أهمية الصبر في مواجهة التحديات والصعوبات.

كان لاستشهاد النبي محمد (صلى الله عليه وآه) أثر كبير وعميق على السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فقد كانت قريبة جدا من والدها، وكانت تربطهما علاقة خاصة مليئة بالمحبة والاحترام، فكان النبي محمد (صلى الله عليه وآله) يعتبرها (أم أبيها)، وكانت هي بدورها تعتبره ليس فقط والدها، بل مرشدها الروحي ونموذجها الأعلى في الحياة فقد كان فقدان والدها صدمة كبيرة لها، و هذه من أصعب الفترات في حياتها.

رغم الحزن العميق الذي شعرت به، أظهرت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) صبرا كبيرا وتحملت هذا الفقدان بروح مؤمنة، فكانت تعلم أن الموت حق، وأن الصبر على المصائب هو جزء من الإيمان، فكانت تستمد قوتها من إيمانها العميق بالله ومن تعاليم والدها النبي محمد (صلى الله عليه وآله) مما يجعلها قدوة للمؤمنين في كيفية التعامل مع المصائب والمحن.

وفي الختام ان هذه السيدة الجليلة قدوة عظيمة للرجال والنساء على حد سواء، حيث أن حياتها مليئة بالدروس والعبر التي يمكن أن يستفيد منها الجميع في بناء مجتمع متماسك ومستقر، من عبادتها الصادقة ودعائها الخاشع، إلى كونها زوجة وأما مثالية ونموذجا رائعا للكرم والعطاء، ومعلمة للصبر في مواجهة التحديات والصعوبات، وأيضا رمزا للتواضع والإيثار، حيث كانت تفضل الآخرين على نفسها وتعمل دائما من أجل رفعة المجتمع وسعادته.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M