التصرفات العقلائية واللاعقلائية

العقل أهم من الحياء والدين وإنما أهميتهما منوطة بالعقل، فإذا جردا من العقل كانا كمثل من يملك مالاً كثيراً ولكنه محجور عليه لسفه أو غير ذلك، فلا تنفعه كثرة ماله. فالعقل هو رأس الفضائل كلها، فالذي يملك العقل السليم يستطيع أن يختار العقيدة الحقّة ولا تتفرق به السبل ولا يضل…

وظيفة العقل

قال اللّه العظيم في كتابه الحكيم: (أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ * وَيَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلۡعَذَابِ وَلَن يُخۡلِفَ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥۚ وَإِنَّ يَوۡمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلۡفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ)(1).

لقد اهتم القرآن الكريم بالعقل كثيراً، وورد ذكر العقل والعقلاء في كتاب اللّه عزّ وجلّ والأحاديث الشريفة بشكل ملحوظ.

يقول تعالى في الآيتين الشريفتين (أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ) أي: هؤلاء الكفار المكذبون بنبوتك يا رسول اللّه (فِي ٱلۡأَرۡضِ) اليمن والشام، وسائر البلاد التي أهلك أهلها لما كذبوا الرسل، حتى يعتبروا ويعقلوا عن غيّهم. (فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ) ما يرون من العبر، وآثار الخرائب التي بقيت بعد إهلاك الأمم السابقة، الذين كذّبوا نبياءهم (أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ) أخبار الأمم السابقة، فإن الإنسان إذا سافر، سمع من أهل البلاد أخبار الماضين منهم، وأنهم كيف كانوا، وكيف ماتوا، حتى يحكوا لهم أن أسلافهم هلكوا حيث كذبوا الأنبياء (عليهم السلام) وعملوا بالكفر والمعاصي (فَإِنَّهَا) الضمير للشأن والقصة، ويأتي هذا الضمير للإلفات والتنبيه إلى أن ما بعده أمر مهم، فإذا كان مذكراً، سمي ضمير الشأن، وإن كان مؤنثاً سمي ضمير القصة، والجملة ما بعد الضمير مفسرة له (لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ) الناظرة إذ البصر ينظر ويرى (وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ) وتنفلق عن الهدى (ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ) والإتيان بهذا الوصف للتعميم، كقوله: (وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَٰٓئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيۡهِ)(2).

(وَيَسۡتَعۡجِلُونَكَ) يا رسول اللّه، أي: هؤلاء الكفار، فقد كانوا يطلبون من الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يأتي به (بِٱلۡعَذَابِ) الذي وعدهم، استهزاءً به (صلى الله عليه وآله)، لكن اللّه سبحانه لا يأتي بالعذاب إلّا في الوقت المحدد له، حسب حكمته ومصلحته (وَلَن يُخۡلِفَ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥۚ) فقد وعد بالعذاب فيأتيه، كما وعد لهم مدة معينة، فلا يأخذهم قبل انقضائها (وَإِنَّ يَوۡمًا) وهو يوم القيامة (عِندَ رَبِّكَ) أي: في حسابه (كَأَلۡفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ) وهذا تهديد، أي: أن وراءهم يوماً يعادل ألف سنة، بحساب الإنسان، وإن كان عند اللّه سبحانه يعد يوماً واحداً، وهذا كما تقول للمجرم: سيأتي وقتك، وفي حساب الحكومة لك يوم هو عشرون سنة في حسابك، تريد أن عليه الحبس تلك المدة. إنهم كيف يستعجلون بالعذاب، ألم يعلموا ماذا صنع بمن كان قبلهم من الأمم المكذبة؟!(3).

ومن الواضح الإرجاع إلى العقل ودوره في حياة الإنسان في الآية الكريمة حيث قال عزّ وجلّ: (يَعۡقِلُونَ بِهَآ).

وفي كتاب (التبيان في تفسير القرآن) للشيخ الطوسي (رحمه الله) قال:

لما أخبر اللّه تعالى عن إهلاك الامم الماضية جزاءً على كفرهم ومعاصيهم، نبّه الذين يرتابون بذلك. فقال: (أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ) إذا شاهدوا آثار ما أخبرنا به، وسمعوا صحة ما ذكرناه عمن أخبرهم بصحته من الذين عرفوا أخبار الماضين، وفيها دلالة على أن العقل هو العلم؛ لأن معنى (يَعۡقِلُونَ بِهَآ) يعلمون بها، مدلول ما يرون من العبرة.

وفيها دلالة على أن القلب محل العقل والعلوم، لأنه تعالى وصفها بأنها هي التي تذهب عن إدراك الحق، فلولا أن التبيين يصح أن يحصل فيها؛ لما وصفها بأنها تعمى، كما لايصح أن يصف اليد والرجل بذلك.

والهاء في (إِنَّهَا لَا تَعۡمَى) هاء عماد، وهو الاضمار على شروط التفسير، وانما جاز أن يقول: ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، للتأكيد، لئلا يتوهم بالذهاب إلى غير معنى القلب؛ لأنه قد يذهب إلى أن فيه اشتراكاً كقلب النخلة، فإذا قيل هكذا كان أنفى للبس بتجويز الاشتراك، وأما قوله: (يَقُولُونَ بِأَفۡوَٰهِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡۚ)(4) فلأن القول قد يكون بغير الفم. والمعنى في الآية: أن الأبصار وإن كانت عمياً، فلا تكون في الحقيقة كذلك، إذا كان عارفاً بالحق. وإنما يكون العمى عمى القلب الذي يجحد معه معرفة اللّه ووحدانيته. ثم قال: (وَيَسۡتَعۡجِلُونَكَ) يا محمد (صلى الله عليه وآله) (بِٱلۡعَذَابِ) أن ينزل عليهم ويستبطؤونه، وإن اللّه لا يخلف ما يوعد به. (وَإِنَّ يَوۡمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلۡفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ) قيل: يوم من أيام الآخرة يكون كألف سنة من أيام الدنيا. وقيل: إنه أراد يوماً من الايام التي خلق اللّه فيها السماوات والأرض. والمعنى: (وَإِنَّ يَوۡمًا عِندَ رَبِّكَ) من أيام العذاب، في الثقل والاستطالة (كَأَلۡفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ) في الدنيا، فكيف يستعجلونك بالعذاب لولا جهلهم؟! وهو كقولهم: أيام الهموم طوال، وأيام السرور قصار… وقيل: (وَإِنَّ يَوۡمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلۡفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ) في طول الإمهال للعباد لصلاح من يصلح منهم، أو من نسلهم، فكأنه ألف سنة لطوال الأناة. وقيل: (وَإِنَّ يَوۡمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلۡفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ) في مقدار العذاب في ذلك اليوم، أي: إنه لشدته وعظمه كمقدار عذاب ألف سنة من أيام الدنيا على الحقيقة. وكذلك نعيم الجنة، لأنه يكون في مقدار يوم السرور والنعيم، مثل ما يكون في ألف سنة من أيام الدنيا لو بقي ينعم ويلتذ فيها(5).

إذاً، يبين اللّه تبارك وتعالى في هذه الآيات ـ وكثير غيرها ـ إلى أهمية هذه النعمة العظيمة التي تسمى: العقل، أو: اللب، أو: القلب، أو العلم، وضرورة إعمالها في ما يمر على الإنسان في حياته، فعليه أن يتبصر ويدقق في تجارب الآخرين ويعتبر من الأمم السابقة وما مر عليها. وكل ذلك بواسطة نعمة العقل التي وهبها اللّه تبارك وتعالى للإنسان.

فالعقل والعلم من أهم أسباب التصرفات العقلائية، والجهل وترك العقل من أهم أسباب التصرفات اللاعقلائية والتي توجب خسارة الدارين.

العقل في القرآن

هذا وهناك آيات آخر كثيرة تذكِّر وتنبِّه إلى نعمة العقل والعلم وأهميتها عند الإنسان وتركز عليها، كما في قوله تعالى: (وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِۖ وَمَا يَعۡقِلُهَآ إِلَّا ٱلۡعَٰلِمُونَ)(6).

وقوله تبارك اسمه: (إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِي تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ)(7).

وقوله تبارك وتعالى: (فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٞ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِهِمۡ عَرَضٞ مِّثۡلُهُۥ يَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡهِم مِّيثَٰقُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ)(8).

وقال عزّ وجلّ: (وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَشَدُّ مِنۡهُم بَطۡشٗا فَنَقَّبُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ هَلۡ مِن مَّحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ أَوۡ أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ وَهُوَ شَهِيدٞ * وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٖ)(9).

وقال سبحانه: (وَأُزۡلِفَتِ ٱلۡجَنَّةُ لِلۡمُتَّقِينَ غَيۡرَ بَعِيدٍ * هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٖ * مَّنۡ خَشِيَ ٱلرَّحۡمَٰنَ بِٱلۡغَيۡبِ وَجَآءَ بِقَلۡبٖ مُّنِيبٍ)(10).

وقال تبارك اسمه: (وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ)(11).

وقال سبحانه وتعالى: (يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ)(12).

وقال عزّ وجلّ: (إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ)(13).

العقل في الأحاديث الشريفة

أما ما ورد في العقل وأهميته وفضله في الأحاديث الشريفة، فكثير جداً…

قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «ما قسم اللّه للعباد شيئاً أفضل من العقل؛ فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث اللّه نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل، ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته، وما يضمر النبي (صلى الله عليه وآله) في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدى العبد فرائض اللّه حتى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أولو الألباب الذين قال اللّه تعالى: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ)»(14)(15).

وقال (صلى الله عليه وآله) أيضاً ـ في حديث ـ: «… يا علي، العقل ما اكتسبت به الجنة، وطلب به رضا الرحمن. يا علي، إن أول خلق خلقه اللّه عزّ وجلّ العقل، فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر. فقال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك، بك آخذ وبك أعطي، وبك أثيب وبك أعاقب…»(16).

وقال (صلى الله عليه وآله): «إنما يدرك الخير كله بالعقل ولا دين لمن لا عقل له»(17).

وأثنى قوم بحضرته (صلى الله عليه وآله) على رجل حتى ذكروا جميع خصال الخير، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «كيف عقل الرجل؟» فقالوا: يارسول اللّه، نخبرك عنه باجتهاده في العبادة وأصناف الخير، تسألنا عن عقله؟! فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم»(18).

وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «إن أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق…»(19).

وعن أبي جعفر الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «لما خلق اللّه العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر. ثم قال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلّا فيمن أحب. أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب»(20).

بشارة لأهل العقل

قال هشام بن الحكم: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام):

«يا هشام، إن اللّه تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال: (فَبَشِّرۡ عِبَادِ * ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ)(21).

يا هشام، إن اللّه تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين (عليهم السلام) بالبيان، ودلهم على ربوبيته بالأدلة، فقال: (وَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِي تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ)(22).

يا هشام، قد جعل اللّه ذلك دليلاً على معرفته بأن لهم مدبراً، فقال: (وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ)(23) وقال: (هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخٗاۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبۡلُۖ وَلِتَبۡلُغُوٓاْ أَجَلٗا مُّسَمّٗى وَلَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ)(24) وقال: إن في (ٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن رِّزۡقٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا)(25)، (وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ)(26)، وقال: (يُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ)(27).

وقال: (وَفِي ٱلۡأَرۡضِ قِطَعٞ مُّتَجَٰوِرَٰتٞ وَجَنَّٰتٞ مِّنۡ أَعۡنَٰبٖ وَزَرۡعٞ وَنَخِيلٞ صِنۡوَانٞ وَغَيۡرُ صِنۡوَانٖ يُسۡقَىٰ بِمَآءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ)(28) وقال: (وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ يُرِيكُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَيُحۡيِۦ بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَآۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ)(29) وقال: (قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ)(30) وقال: (هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ فَأَنتُمۡ فِيهِ سَوَآءٞ تَخَافُونَهُمۡ كَخِيفَتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ)(31).

يا هشام، ثم وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة، فقال: (وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا لَعِبٞ وَلَهۡوٞۖ وَلَلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ)(32).

يا هشام، ثم خوف الذين لا يعقلون عقابه فقال تعالى: (ثُمَّ دَمَّرۡنَا ٱلۡأٓخَرِينَ * وَإِنَّكُمۡ لَتَمُرُّونَ عَلَيۡهِم مُّصۡبِحِينَ * وَبِٱلَّيۡلِۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ)(33) وقال: (إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰٓ أَهۡلِ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِ رِجۡزٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ * وَلَقَد تَّرَكۡنَا مِنۡهَآ ءَايَةَۢ بَيِّنَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ)(34).

يا هشام، إن العقل مع العلم فقال: (وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِۖ وَمَا يَعۡقِلُهَآ إِلَّا ٱلۡعَٰلِمُونَ)(35).

يا هشام، ثم ذم الذين لا يعقلون فقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَآ أَلۡفَيۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَآؤُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ شَيۡ‍ٔٗا وَلَايَهۡتَدُونَ)(36).

وقال: (وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ)(37) وقال: (وَمِنۡهُم مَّن يَسۡتَمِعُونَ إِلَيۡكَۚ أَفَأَنتَ تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ وَلَوۡ كَانُواْ لَا يَعۡقِلُونَ)(38) وقال: (أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا)(39) وقال: (لَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرٗى مُّحَصَّنَةٍ أَوۡ مِن وَرَآءِ جُدُرِۢۚ بَأۡسُهُم بَيۡنَهُمۡ شَدِيدٞۚ تَحۡسَبُهُمۡ جَمِيعٗا وَقُلُوبُهُمۡ شَتَّىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ)(40) وقال: (وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ)(41).

يا هشام، ثم ذم اللّه الكثرة، فقال: (وَإِن تُطِعۡ أَكۡثَرَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ)(42).

وقال: (وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ)(43) وقال: (وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ مَوۡتِهَا لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ)(44).

يا هشام، ثم مدح القلة فقال: (وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ)(45) وقال: (وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ)(46) وقال: (وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ)(47) وقال: (وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ)(48) وقال: (وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ)(49) وقال: (وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ)(50) وقال: وأكثرهم لا يشعرون(51).

يا هشام، ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر، وحلّاهم بأحسن الحلية، فقال: (يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ)(52).

وقال: (وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ)(53) وقال: (إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ)(54).

وقال: (أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ)(55) وقال: (أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا يَحۡذَرُ ٱلۡأٓخِرَةَ وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ)(56) وقال: (كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ)(57) وقال: (وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡهُدَىٰ وَأَوۡرَثۡنَا بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱلۡكِتَٰبَ * هُدٗى وَذِكۡرَىٰ لِأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ)(58) وقال: (وَذَكِّرۡ فَإِنَّ ٱلذِّكۡرَىٰ تَنفَعُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ)(59) يا هشام، إن اللّه تعالى يقول في كتابه: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ)(60) يعني: عقل، وقال: (وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا لُقۡمَٰنَ ٱلۡحِكۡمَةَ)(61) قال: الفهم والعقل..

يا هشام، إن لقمان قال لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس، وإن الكيس لدى الحق يسير. يا بني، إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى اللّه، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل، وقيّمها العقل، ودليلها العلم، وسكانها الصبر.

يا هشام، إن لكل شيء دليلاً ودليل العقل التفكر، ودليل التفكر الصمت، ولكل شيء مطية ومطية العقل التواضع، وكفى بك جهلاً أن تركب ما نهيت عنه.

يا هشام، ما بعث اللّه أنبياءه ورسله إلى عباده إلّا ليعقلوا عن اللّه، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر اللّه أحسنهم عقلاً، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام، إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأما الظاهرة: فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وأما الباطنة: فالعقول.

يا هشام، إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره.

يا هشام، من سلط ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله: من أظلم نور تفكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.

يا هشام، كيف يزكو عند اللّه عملك وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك، وأطعت هواك على غلبة عقلك؟!

يا هشام، الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن اللّه اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند اللّه، وكان اللّه أنسه في الوحشة وصاحبه في الوحدة وغناه في العيلة ومعزه من غير عشيرة.

يا هشام، نصب الحق لطاعة اللّه، ولا نجاة إلّا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد(62)، ولا علم إلّا من عالم رباني، ومعرفة العلم بالعقل.

يا هشام، قليل العمل من العالم مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود.

يا هشام، إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا؛ فلذلك ربحت تجارتهم.

يا هشام، إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب، وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض.

يا هشام، إن العاقل نظر إلى الدنيا وإلى أهلها، فعلم أنها لا تنال إلّا بالمشقة، ونظر إلى الآخرة، فعلم أنها لا تنال إلّا بالمشقة، فطلب بالمشقة أبقاهما.

يا هشام، إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة؛ لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة، والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته.

يا هشام، من أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين، فليتضرع إلى اللّه عزّ وجلّ في مسألته بأن يكمل عقله؛ فمن عقل قنع بما يكفيه، ومن قنع بما يكفيه استغنى، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبداً.

يا هشام، إن اللّه حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا:

(رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ)(63) حين علموا: أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها، إنه لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه، ومن لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة، يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه، ولا يكون أحد كذلك إلّا من كان قوله لفعله مصدقاً، وسره لعلانيته موافقاً؛ لأن اللّه تبارك اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلّا بظاهر منه وناطق عنه.

يا هشام، كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ما عبد اللّه بشيء أفضل من العقل، وما تم عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتى: الكفر والشر منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، ونصيبه من الدنيا القوت، لا يشبع من العلم دهره، الذل أحب إليه مع اللّه من العزّ مع غيره، والتواضع أحب إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقل كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلهم خيراً منه وأنه شرهم في نفسه، وهو تمام الأمر.

يا هشام، إن العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه.

يا هشام، لا دين لمن لا مروة له، ولا مروة لمن لا عقل له، وإن أعظم الناس قدراً الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطراً، أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلّا الجنة فلا تبيعوها بغيرها.

يا هشام، إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: إن من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سُئل، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء فهو أحمق. إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لا يجلس في صدر المجلس إلّا رجل فيه هذه الخصال الثلاث، أو واحدة منهن، فمن لم يكن فيه شيء منهن فجلس فهو أحمق. وقال الحسن بن علي (عليهما السلام): إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها، قيل: يا ابن رسول اللّه، ومن أهلها؟ قال: الذين قصّ اللّه في كتابه وذكرهم، فقال: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ)(64) قال: هم أولو العقول. وقال علي بن الحسين (عليهما السلام): مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح، وآداب العلماء زيادة في العقل، وطاعة ولاة العدل تمام العز، واستثمار المال تمام المروءة، وإرشاد المستشير قضاء لحق النعمة، وكف الأذى من كمال العقل، وفيه راحة البدن عاجلاً وآجلاً.

يا هشام، إن العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يعد ما لا يقدر عليه، ولا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يقدم على ما يخاف فوته بالعجز عنه»(65).

إلى غيرها من الروايات الكثيرة التي وردت عن أهل البيت (عليهم السلام) في وصف العقل والعقلاء.

العقل رأس الفضائل

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «هبط جبرئيل على آدم (عليه السلام) فقال: يا آدم، إني أُمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث، فاخترها ودع اثنتين. فقال له آدم: يا جبرئيل، وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين.

فقال آدم (عليه السلام): إني قد اخترت العقل، فقال جبرئيل للحياء والدين: انصرفا ودعاه، فقالا: يا جبرئيل، إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان!! قال: فشأنكما، وعرج»(66).

هذه الرواية الشريفة تكشف لنا أهمية العقل، وكذلك تكشف أهمية التصرف العقلائي الذي اتبعه آدم (عليه السلام)، فمن جهة فإن اختيار آدم (عليه السلام) للعقل يدل دلالة واضحة على كونه أهم من الحياء والدين! لا من حيث إن الدين والحياء لا أهمية لهما؛ وإنما أهميتهما منوطة بالعقل، فإذا جردا من العقل كانا كمثل من يملك مالاً كثيراً ولكنه محجور عليه لسفه أو غير ذلك، فلا تنفعه كثرة ماله.

فالعقل هو رأس الفضائل كلها، فالذي يملك العقل السليم يستطيع أن يختار العقيدة الحقّة ولا تتفرق به السبل ولا يضل عن جادة الحق، وفي ذلك قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): «لا دين لمن لا عقل له»(67).

ومن جهة أخرى، فإن هذه الرواية تشير إلى التصرف العقلائي الذي تصرفه أبونا آدم (عليه السلام) في هذه المسألة، فلو كان تصرفه غير عقلائي لخسر الجميع؛ لأنه لو اختار الدين أو الحياء لخسر العقل، وبخسارة العقل يخسر الجميع، لأن الدين والحياء يدوران مدار العقل، فأين ما ذهب يذهبان معه. فتصرفه هذا كان ناشئاً من حكمته ونضجه وعقله.

وقد شرح المازندراني (رحمه الله) هذا الحديث بشرح لطيف نذكره لمزيد الفائدة:

قوله (عليه السلام): «هبط جبرئيل (عليه السلام) على آدم (عليه السلام) » الظاهر أن ذلك كان بعد هبوط آدم (عليه السلام) من الجنة، وبعد قبول توبته «فقال: يا آدم، إني أُمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث»، أي: خصلة واحدة من ثلاث خصال «فاخترها ودع اثنتين، فقال آدم: يا جبرئيل وما الثلاث؟» الظاهر أن الواو لمجرد حسن الارتباط وزيادة الاتصال لا للعطف «فقال: العقل والحياء والدين». العقل هنا، قوة نفسانية وحالة نورانية، بها يدرك الإنسان حقائق الأشياء، ويميّز بين الخير والشر وبين الحق والباطل، ويعرف أحوال المبدء والمعاد. وبالجملة هو نور إذا لمع في آفاق النفوس يكشف عنها غواشي الحجب، فتتجلى فيها صور المعقولات ـ التي يمكن تصورها ـ كما يتجلى في العين صور المحسوسات. والحياء، خلق يمنع من ارتكاب القبيح وتقصير في الحقوق، وقال الزمخشري: هو تغيّر وانكسار يلحق من فعل ما يمدح به، أو ترك ما يذم به، وهو غريزة، وقد يتخلق به من يجبل عليه، فيلتزم منه ما يوافق الشرع…، والدين، هو الصراط المستقيم الذي يكون سالكه قريباً من الخيرات بعيداً عن المنهيات، وهو عبارة عن معرفة مجموع ما يوجب القرب من الرب، والعمل بما يتعلق به الأمر، ومعرفة مجموع ما يوجب البعد عنه، وترك العمل بما يتعلق به النهي «فقال آدم: إني اخترت العقل» لا يقال: اختياره للعقل لم يكن إلّا لملاحظة أن حسن عواقب أموره في الدارين يتوقف عليه، وإن نظام أحواله في النشأتين لا يتم إلّا به، ولا يكون ذلك إلّا لكونه عاقلاً متفكراً متأملاً فيما ينفعه عاجلاً وآجلاً، لأنا نقول: المراد بهذا العقل، العقل الكامل الذي يكون للأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، واختياره يتوقف على عقل سابق يكون درجته دون هذا، وللعقل درجات ومراتب. وقد يقال هذه الأمور الثلاثة كانت حاصلة له (عليه السلام) على وجه الكمال، والتخيير فيها لا ينافي حصولها، والغرض منه إظهار قدر نعمة العقل، والحث على الشكر عليها «فقال جبرئيل (عليه السلام) للحياء والدين: انصرفا ودعاه» أي: انصرفا عن آدم ودعاه مع العقل معه «فقالا: يا جبرئيل» الظاهر أن هذا القول حقيقة بلسان المقال بحياة خلقها اللّه تعالى فيهما، ولا يبعد ذلك عن القدرة الكاملة، وقد ثبت نطق اليد والرجل على صاحبهما، ونطق الكعبة والحجر، وغيرهما. ويحتمل أن يكون ذلك مجازاً بلسان الحال، أو يخلق اللّه سبحانه فيهما كلاماً أسمعه جبرئيل وآدم (عليهما السلام) كما قد خلق ذلك في بعض الأجسام الجمادية وأسمعه من شاء من خلقه «إنا أُمرنا أن نكون مع العقل حيث كان» أي: حيث وجد، أو حيث كان موجوداً، يفهم منه أن العقل مستلزم لهما وهما تابعان له، والأمر كذلك؛ لأن بالعقل يعرف اللّه سبحانه وجلاله وجماله وكماله وتنزهه عن النقايص وإحسانه وإنعامه وقهره وغلبته، بحيث يرى كل جلال وجمال وكمال وإحسان وإنعام وقهر وغلبة مقهوراً تحت قدرته، مغلوباً تحت قهره وغلبته، بل لا يرى في الوجود إلّا هو، فيحصل له بذلك خوف وخشية يرتعد به جوانحه كما قال سبحانه: (إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ)(68) ويحصل له بذلك قوة وملكة تمنعه عن مخالفته طرفة عين، وهذه القوة هي المسماة بالحياء، ثم بتلك القوة يسلك الصراط المستقيم وهو الدين القويم، ومن ههنا ظهر: أن الحياء مستلزم للدين والدين تابع له، ثم جبرئيل (عليه السلام) إن كان عالماً بكونهما مأمورين بذلك كان قوله: «انصرفا ودعاه» محمولاً على نوع من الامتحان، لإظهار شرف العقل ونباهة قدره، وإن لم يكن عالماً كان ذلك القول محمولاً على الطلب «قال: فشأنكما وعرج» الشأن بالهمزة الأمر والحال والقصد، أي: فشأنكما معكما، أو ألزما شأنكما…(69).

للبحث تتمة…

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M