لقد رأيتُ منذ سنوات أن استمرار المقاومة لنظام بشار الأسد كانت حتمية الظهور، بل وكتبتُ أن ذلك قد يشمل ثورة جديدة، حتى لو قام هذا النظام بتنفيذ إصلاحات واسعة النطاق. ومع ذلك، جاءت أحداث 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 مفاجأة كاملة أذهلت الجميع، مع الهجمات الدراماتيكية والانتصارات التي حققتها “هيئة تحرير الشام” وفصائل المعارضة العسكرية التابعة لـ”الجيش الوطني السوري” في حلب، ثم في مناطق أخرى جنوبا.
ففي غضون أكثر من أسبوع بقليل، أُطيح بنظام الأسد بشكل مذهل في دمشق يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، ليُسدل الستار على أكثر من 61 عاما من حكم “البعث”. كانت سرعة هذا الانهيار صادمة بشكل خاص، ليس فقط لأنها تحدّت التوقعات بحدوث مقاومة شرسة وسفك للدماء، بل أيضا لأن النظام انهار كبيت من ورق، وسقط كتفاحة ناضجة، بل متعفنة، من الشجرة. ويبدو أن الرئيس ونخبته الحاكمة قد خلصوا إلى قرار بأن الفرار بأرواحهم من دمشق كان أفضل من استمرار حرب دموية بلا آفاق مستقبلية إيجابية.
بعد حرب أهلية استمرت 13 عاما، باتت البلاد في حالة خراب، وشعبها يعاني من الفقر الشديد، دون أي آفاق سوى البؤس والفساد والقمع. ومع سقوط النظام، قد يتغير هذا الوضع جذريا، رغم وجود الكثير من العقبات الخطيرة التي يجب التغلب عليها.
ويملك الحكام الجدد ومؤيدوهم فرصة ذهبية للمساهمة في بناء “سوريا جديدة” أفضل بكثير. لكن يبقى السؤال: هل هم قادرون ومستعدون للقيام بذلك؟ يحتاج الأمر إلى الكثير من الحكمة والتنازلات، كما أنهم بحاجة إلى دعم أنصارهم على الرغم من الضغائن المفهومة لديهم.
واجه أولئك الذين أشاروا إلى إمكانية بقاء نظام الأسد لفترة طويلة، اتهامات تتراوح بين تأييد الأسد ومعاداة الديمقراطية. ومع تصاعد الأزمة، أصبح تقديم تقارير موضوعية عن الأوضاع في سوريا أكثر صعوبة وخطورة
وكانت قوى المعارضة السورية قد اتفقت بالفعل في عام 2016 على خصائص وأهداف لتحقيق السلام في سوريا في إعلان المجلس الأعلى للمفاوضات، الذي نص على: “نظام سياسي قائم على الديمقراطية والتعددية والمواطنة، يضمن حقوقا وواجبات متساوية لجميع السوريين دون تمييز على أساس اللون أو الجنس أو اللغة أو العرق أو الرأي أو الدين أو الأيديولوجيا”.
لم تكن “هيئة تحرير الشام” طرفا في صياغة هذا الاتفاق، لكن البيانات التي أصدرتها حتى الآن تتوافق معه. في عام 2016، لم يكن بالإمكان تحقيق هذه الرؤية لأن المعارضة العسكرية- أو بالأحرى الجماعات العسكرية الكثيرة التي كانت منقسمة بعمق فيما بينها- فشلت في هزيمة النظام. هذه المرة، قد يكون الوضع مختلفا.
الأولوية للمثل الأخلاقية على السياسة الواقعية
منذ انطلاقة الثورة السورية في عام 2011، هيمنت الأماني والتطلعات على النهج الغربي تجاهها. فقد جرى تقديم المثل الديمقراطية والقيم الأخلاقية على السياسة الواقعية. كانت مواقف الكثير من الساسة الغربيين تتشكل بفعل ردود أفعالهم على المشهد السياسي المحلي اليومي، بدلا من اعتماد رؤية طويلة الأمد أو نهج برغماتي ضروري للإسهام بشكل فعال في حل الصراع.
خلال اجتماع الحكومة الانتقالية في دمشق في 10 ديسمبر
منذ البداية، كان الكثير من هؤلاء الساسة مهووسين بفكرة أن الحل الوحيد للأزمة السورية يكمن في إزالة الأسد من المشهد، وكان الاعتقاد السائد حينها أن النظام سينهار في غضون فترة قصيرة نسبيا. حتى إن بعض الدبلوماسيين في دمشق ذهبوا إلى حد التنبؤ برحيل الأسد بحلول صيف عام 2012. بيد أنهم كانوا لا يدركون حقيقة قدرة النظام على الصمود. ويعود ذلك، جزئيا، إلى الجهل وقلة الفهم للديناميكيات الداخلية للنظام السوري، وجزئيا أيضا إلى تفاؤل مفرط لم يكن في محله.
واجه أولئك الذين أشاروا إلى إمكانية بقاء نظام الأسد لفترة طويلة، بمن فيهم أنا، اتهامات تتراوح بين تأييد الأسد ومعاداة الديمقراطية. ومع تصاعد الأزمة، أصبح تقديم تقارير موضوعية عن الأوضاع في سوريا أكثر صعوبة وخطورة. وغالبا ما كان الأكاديميون والصحافيون والسياسيون يُصنَّفون بسرعة ودون تمحيص، إما كأنصار للنظام أو معارضين له. وفي الوقت نفسه، اشتعلت حرب دعائية شرسة عبر وسائل الإعلام.
المصادمة بين الديمقراطية والسياسة الواقعية
قليلون فقط هم من تقبلوا الحقيقة الأساسية بأنه لا يمكن تحقيق أهداف واسعة النطاق في ظل غياب الإرادة والموارد الكافية. ومع ذلك، فإن إصرار الدول الأجنبية المتورطة في الصراع على اتخاذ مواقف توصف بأنها “أخلاقية” و”صائبة سياسيا”، دون أن يكونوا مستعدين لتقديم التزامات حقيقية لتوفير الموارد الضرورية لتحقيق تلك الأهداف، لم يؤدِ إلا إلى إطالة أمد الحرب. وكانت النتائج كارثية، حيث قُتل أكثر من نصف مليون شخص، وشُرّد أكثر من عشرة ملايين لاجئ، وبات بلد بأسره غارقا في الدمار الشامل.
كان يمكن اعتبار حرب المعارضة ضد النظام أمرا “يستحق العناء”، لأنها ربما كانت ستفضي إلى تحسينات جذرية في واقع سوريا. ولكن، لم تتحقق هذه الرؤية، إذ عجزت المعارضة العسكرية عن تحقيق الانتصار على النظام
اعتقد كثيرون أنهم يدعمون المعارضة السورية، لكن عواقب ما يسمى الصوابية الأخلاقية حملت بُعدا غير أخلاقي. فمن خلال التمسك رسميا بمبادئ أخلاقية صارمة ورفض تبني نهج أكثر برغماتية، ساهموا دون قصد في تفاقم إراقة الدماء والدمار على نطاق واسع.في الواقع، كان من الممكن أن يحمل النهج الأكثر برغماتية، والذي قد يسهم فعليا في تحقيق حل سياسي، قيمة أخلاقية أسمى مقارنة بالمواقف النظرية التي لم تسفر سوى عن المزيد من المعاناة والدمار.
منذ بداية الثورة السورية، أكدت أن الحل للصراع يجب أن يمر عبر الحوار بين النظام والمعارضة. بحلول عام 2012، كان عدد القتلى قد تجاوز عشرة آلاف، وكنت أتوقع أن هذا الرقم قد يرتفع إلى مئات الآلاف إذا لم يجر التوصل إلى تسوية سياسية.لكن معظم المشاركين في النقاش حول الأزمة السورية كانوا يعارضون هذا الطرح بشدة. ففي ذلك الوقت، كان الحوار مع الأسد مرفوضا بشكل قاطع.
إذا رفضت التعامل مع الطرف الآخر– الطرف الأكثر قوة– في صراع، أو وضعت شروطا غير قابلة للتحقيق، فإن فرص التوصل إلى حل سياسي تصبح شبه معدومة. بالنسبة لي، بدا هذا الطرح حجة منطقية لا تقبل الجدل، لكن قلة فقط شاركوني هذا الرأي، بينما قوبل برفض شديد من الكثيرين.
ربما كان الانتصار العسكري على النظام خيارا بديلا في ظل غياب الحوار، ولكن بما أن الحرب التي شنت لتحقيق هذا الهدف أثبتت استحالة نجاحها في ذلك الوقت، فقد تقلصت الخيارات المتاحة بشكل كبير، إن لم تكن قد تلاشت تماما. وكما هو متوقع، لم يؤدِّ عزل النظام إلى تحقيق أي نتائج إيجابية ملموسة. وبالمثل، بقيت البيانات السياسية حسنة النية، سواء تلك الصادرة عن مجلس الأمن الدولي أو عن الحكومات الفردية، عاجزة عن إحداث أي تأثير حقيقي على أرض الواقع.
لم تكن الجماعات المسلحة المعارضة، التي سيطرت على أجزاء واسعة من المدن السورية، بما فيها حلب، في المراحل الأولى من الثورة السورية، قد جاءت بناء على “دعوة” من سكان تلك المدن لـ”تحريرها” من قبضة النظام الديكتاتوري. ورغم أن الكثير من السكان كانوا يرغبون في التحرر، فإنهم لم يكونوا مستعدين لدفع الثمن الفادح الذي فُرض عليهم. كم من الأبرياء السوريين سقطوا ضحايا لحرب لم يكونوا ليؤيدوها لو أدركوا مسبقا عواقبها المدمرة؟ وفي الواقع، كان من السهل جدا التنبؤ بهذه النتائج الكارثية.
ربما كان الوضع ليأخذ مسارا مختلفا تماما لو تمكنت القوى العسكرية والمدنية المعارضة من تحقيق السلام وبناء “سوريا جديدة” وفق الرؤيةالتي حددها المجلس الأعلى للمفاوضات في الرياض عام 2016. رؤية تتبنى نظاما سياسيا قائما على الديمقراطية والتعددية والمواطنة، يكفل حقوقا وواجبات متساوية لجميع السوريين دون أي تمييز على أساس اللون، الجنس، اللغة، العرق، الرأي، الدين، أو الأيديولوجيا.
في ظل هذا السيناريو، كان يمكن اعتبار حرب المعارضة ضد النظام أمرا “يستحق العناء”، لأنها ربما كانت ستفضي إلى تحسينات جذرية في واقع سوريا. ولكن، لم تتحقق هذه الرؤية، إذ عجزت المعارضة العسكرية- أو بالأحرى، الفصائل العسكرية المتعددة التي تفتقر إلى الوحدة وتعاني انقسامات عميقة فيما بينها- عن تحقيق الانتصار على النظام.
فشل المجتمع الدولي فشلا ذريعا في التعامل مع الأزمة السورية. ففي ظل الحرب بالوكالة التي اجتاحت البلاد، سعت الدول المختلفة لتحقيق مصالحها الخاصة، متجاهلة إلى حد كبير العواقب الكارثية على الشعب السوري. كانت روسيا وإيران مصممتين على عدم خسارة حليفهما السوري، أما المملكة العربية السعودية فسعت إلى كبح نفوذ إيران الإقليمي.
النظام السوري لم يكن “نظاما علويا” كما يُوصف غالبا، بل هو ديكتاتورية يهيمن عليها العلويون، حيث شُغلت المناصب الأساسية بشكل غير متناسب من قبل أبناء هذه الطائفة
وبالمثل، قدمت قطر دعمها لجماعة “الإخوان المسلمين” ولجماعات أخرى، بهدف تحقيق غايات مشابهة لمنافسيها الإقليميين. وركزت الولايات المتحدة جهودها على حماية موقعها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، خشية أن يتم تقويضه من قبل روسيا وإيران. في الوقت ذاته، انشغلت إسرائيل بمواجهة الوجود الإيراني في سوريا، بينما عارضت تركيا أي تعزيز للأكراد السوريين، خصوصا أولئك المرتبطين بـ”حزب العمال الكردستاني”.
وهكذا استمرت الأمور. في البداية، ركزت معظم الدول التي عارضت النظام السوري على تحقيق هدف “تغيير النظام،” دون إبداء اهتمام كبير بالاحتمال الخطير بأن يؤدي هذا إلى ظهور نظام إسلامي متطرف.
ولكن مع فشل جهودها في الإطاحة بالنظام، تخلت تلك الدول عن هذا الهدف تدريجيا، وبدأت في إعادة التواصل مع دمشق واستعادة العلاقات معها.
حمام الدم السوري كان متوقعا
كان حمام الدم السوري متوقعا قبل سنوات طويلة. في الطبعة الثانية من كتابي “الصراع على السلطة في سوريا”، الذي نُشر عام 1981– قبل ثلاثة عقود من اندلاع الثورة السورية في عام 2011– توقعت أن أي محاولة للإطاحة بنظام البعث السوري ستؤدي إلى حمام دم كبير.
بالنسبة لأولئك الذين يعرفون خلفية النظام السوري وتاريخه، لم يكن من الصعب التنبؤ بهذه النتيجة.
كان النظام السوري يتمتع بتنظيم شديد، مما جعل الإطاحة به أمرا بالغ الصعوبة. فقد سيطر أفراد من الأقلية العلوية، التي تشكل نحو 10 في المئة من السكان، على المناصب القيادية في الجيش وأجهزة الأمن. هؤلاء الأفراد كانوا يرتبطون بشبكة متماسكة من العلاقات المبنية على الثقة المتبادلة، والتي كانت تزداد قوة في أوقات الأزمات. ومع كل تهديد خارجي يواجهونه، كان هذا التضامن يتعزز، مدفوعا بإصرار على البقاء في السلطة مهما كان الثمن، تجنبا لأي سيناريو قد يهدد وجودهم. وأي شكوك في ولاء من يُطلق عليهم “أنصار النظام” كانت تُواجَه بسرعة وحزم، من خلال السجن لفترات طويلة أو الإعدام. أما المعارضون الصريحون، فقد تعرضوا لإجراءات أكثر قسوة.
النظام ليس “علويا” بل ديكتاتورية يهيمن عليها العلويون
من المهم التأكيد على أن النظام السوري لم يكن “نظاما علويا” كما يُوصف غالبا، بل هو ديكتاتورية يهيمن عليها العلويون، حيث شُغلت المناصب الأساسية بشكل غير متناسب من قبل أبناء هذه الطائفة. وكما هو الحال في معظم الديكتاتوريات، يعاني السكان كافة من القمع، باستثناء نخبة صغيرة داخل النظام وأقربائهم المقربين.
في هذا السياق، لم يكن العلويون في سوريا بمعزل عن المعاناة، إذ تحملت الطائفة عبئا ثقيلا نتيجة سياسات النظام، واضطرت لتقديم أعداد كبيرة من “الوقود البشري” لدعم المجهود الحربي. هذا الأمر خلق استياء واسعا داخل الطائفة العلوية نفسها تجاه النظام.
غالبا ما بدت تصورات كثير من المراقبين غير واقعية. كانوا يدركون دكتاتورية النظام السوري الشديدة وقمعه الوحشي، ومع ذلك تبنوا سيناريوهات تفترض أن النظام سيقدم تنازلات تتعارض تماما مع طبيعته
من جهة أخرى، دأبت المعارضة على وصف النظام بـ”النظام العلوي”، معتبرة إياه ليس فقط ديكتاتورية عنيفة بل شكل من أشكال القمع الطائفي. وبالنسبة للعلويين، كانت الروابط القبلية والعائلية غالبا أكثر تأثيرا من الروابط الدينية. وفي المقابل، لعب الدين دورا محوريا لدى الأغلبية السنية في سوريا، حيث اعتبر الكثير من السنة أن العلويين “غير مسلمين ومهرطقون”.
هذا التباين في التصورات خلق فجوة كبيرة، فبينما رأى السنة أن الديكتاتورية قمع طائفي ديني من قبل العلويين، لم يكن النظام، ذو التوجه العلماني، يعطي أهمية كبيرة للدين. ومع ذلك، أخذ النظام بعين الاعتبار الدوافع الدينية لمعارضيه من غير العلويين، خاصة الإسلاميين السنة، الذين كان يُخشى أن يؤدي انتصارهم إلى انتقام ضد الطائفة العلوية بعد سقوط النظام الذي تهيمن عليه هذه الطائفة نفسها.
خلق آمال زائفة
في اجتماع عُقد في جنيف عام 2016، حضرتُه مع وفد التفاوض التابع للمعارضة السورية ومبعوثين خاصين بسوريا، طرح “كبير المفاوضين” في الهيئة العليا للمفاوضات آنذاك، محمد علوش- وهو أيضا قائد “جيش الإسلام”- سؤالا محوريا حول الإجراءات التي ستتخذها الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن لتنفيذ القرار 2254. فقد كان هذا القرار ركيزة أساسية لاستمرار المفاوضات.
وجّه علوش سؤاله تحديدا إلى ممثلي الدول الثلاث الدائمة العضوية في مجلس الأمن الحاضرين في الاجتماع (الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا). جاء الرد سريعا ومطمئنا من أحدهم الذي قال بثقة: “نحن ملتزمون”. ربما قال ذلك للتعبير عن سياسة حكومته، لكن في الواقع، كان هذا الوعد مجرد كلمات جوفاء. فتنفيذ القرار 2254 كان يتطلب تدخلا عسكريا، وهو أمر لم تكن أي من هذه الدول مستعدة للقيام به.
بعد الاجتماع، تحدثت بشكل سري مع رئيس الوفد السوري، يحيى القضماني، وشاركته تقييمي للوضع. أوضحت أن تنفيذ هذا القرار يعتمد بشكل أساسي على التدخل العسكري، وهو أمر مستبعد تماما في ظل الظروف الراهنة. وبالتالي، كان من الواضح أن شيئا لن يحدث على أرض الواقع.
كان هذا الموقف مجرد مثال على الكيفية التي خلقت فيها آمال زائفة لدى المعارضة. الأمر نفسه ينطبق على تصريحات السياسيين الغربيين الذين دعوا إلى إنشاء مناطق آمنة، أو مناطق حظر طيران، أو ممرات إنسانية. ورغم أن هذه التدابير كانت ضرورية للغاية ومبررة- خصوصا لمنع النظام من استهداف المدنيين في مناطق المعارضة وتوفير ملاذات آمنة للاجئين السوريين- كان واضحا أن تنفيذها يتطلب تدخلا عسكريا.
السياسيون المعنيون لم يكونوا مستعدين لاتخاذ هذه الخطوة، ورغم ذلك، أطلقوا تصريحات أدت إلى رفع سقف التوقعات لدى المعارضة. هذه التصريحات، رغم أنها بدت مشجعة، لم تكن مدعومة بأي التزامات عملية، مما جعلها مجرد وعود واهية لا تسندها أفعال.
الصراحة والواقعية أفضل أشكال الصداقة
لطالما اعتقدتُ أن تقديم تقييم واقعي وصادق هو أفضل شكل من أشكال الصداقة تجاه الشعب السوري، مقارنة بإطلاق وعود فارغة وخلق توقعات زائفة.
غالبا ما بدت تصورات الكثير من المراقبين قصيرة النظر أو غير واقعية. كانوا يدركون تماما دكتاتورية النظام السوري الشديدة وقمعه الوحشي، ومع ذلك تبنوا سيناريوهات تفترض أن النظام سيقدم تنازلات تتعارض تماما مع طبيعته. وينطبق الأمر ذاته على بعض جماعات المعارضة، التي كانت تعتقد أن بإمكانها إسقاط النظام من خلال مفاوضات يُفترض أن تؤدي إلى استسلامه الكامل وإحالته إلى المحاكمة.
تبدو “هيئة تحرير الشام”، التي نشأت كفرع لتنظيم “القاعدة” تحت اسم “جبهة النصرة”، وكأنها تمر بتحول جذري أو “تحول شكلي” من جماعة جهادية إسلامية متشددة إلى منظمة أكثر برغماتية واعتدالا
في الواقع، كلا الطرفين كانا يسعيان لتحقيق نصر كامل، وهو أمر يستحيل تحقيقه بالتراضي مع خصومهم. بشار الأسد لم يكن ليوقع على مذكرة إعدامه بإرادته، كما أن جماعات المعارضة لم تكن مستعدة للتخلي عن مطلبها الأساسي المتمثل في إزالة النظام بشكل غير مشروط.
لقد أثبت تاريخ الشرق الأوسط، وأجزاء أخرى من العالم، أن السعي لتحقيق أهداف غير واقعية غالبا ما ينتهي بخيبة أمل كبيرة. في كثير من الحالات، ينتهي المطاف بالطرف الذي يطمح لأكثر مما هو ممكن إلى تحقيق أقل مما كان يطمح إليه بكثير- أو ربما لا يحقق شيئا على الإطلاق.
الحل الوحيد الذي بدا ممكنا هو انتصار أحد الأطراف على الآخر، وهو ما تحقق بالفعل. ومع ذلك، فإن هذا الانتصار لا يعني بالضرورة تحقيق السلام، ذلك لأن الفصائل المسلحة المعارضة الكثيرة التي لعبت دورا في إسقاط نظام الأسد، كانت في السابق متفرقة ومتناحرة فيما بينها.
هل هناك أمل للسلام؟
قد يستغرق تحقيق السلام الحقيقي في سوريا أجيالا، نظرا للأضرار العميقة التي لحقت بالنسيج الاجتماعي للمجتمع السوري. ومعاناة الملايين من السوريين من صدمات نفسية عميقة جراء الأحداث المروعة التي مروا بها تجعل من الصعب التنبؤ بالتأثيرات طويلة الأمد لهذه الصدمات. ومع ذلك، يبدو أن “تطبيع” الوضع في سوريا سيكون مهمة شاقة تتطلب جهودا غير عادية.
مقاتلون من الفصائل في الضريح المحترق للرئيس حافظ الأسد في القرداحة بمحافظة اللاذقية في 11 ديسمبر
إن إعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي بعد سنوات من الفوضى والعنف ليست مهمة سهلة. يتطلب ذلك تفكيك الكثير من الميليشيات- سواء الموالية للنظام أو المعارضة- التي عملت بشكل مستقل طوال هذه السنوات، إلى جانب معالجة الفساد والابتزاز والترهيب المنتشرين على نطاق واسع. لم يتمكن النظام من كبح الفساد المستشري طوال نصف القرن الماضي، وذلك جزئيا لأن معالجته قد تؤدي إلى تقويض ولاء مؤيديه الذين يغلب عليهم الفساد.
إضافة إلى ذلك، تواجه البلاد تحديا هائلا يتمثل في إعادة الإعمار. حتى مع توفر الأموال والمواد اللازمة، تعاني سوريا من نقص كبير في القوى العاملة المؤهلة لتنفيذ هذه العملية. وقد تستغرق إعادة الإعمار عقودا، في حين أن العيش بين الأنقاض لن يسهم في استعادة الاستقرار.
“هيئة تحرير الشام” ومستقبل سوريا
تبدو “هيئة تحرير الشام”، التي نشأت كفرع لتنظيم “القاعدة” تحت اسم “جبهة النصرة”، وكأنها تمر بتحول جذري أو “تحول شكلي” من جماعة جهادية إسلامية متشددة إلى منظمة أكثر برغماتية واعتدالا، على الأقل وفقا لتصريحات قادتها. وبعد سيطرتها على مناطق مثل حلب وحماة، أصدرت الهيئة بيانات تصالحية موجهة نحو الأقليات، بمن في ذلك العلويون والإسماعيليون والدروز والمسيحيون.
من الضروري الآن التركيز على تحسين أوضاع الشعب السوري الذي طال انتظاره لتحقيق الاستقرار وإعادة البناء
ورغم هذه التصريحات، يبقى السؤال: هل يتبنى الأعضاء العاديون في “هيئة تحرير الشام” والجماعات المدعومة من تركيا في “الجيش الوطني السوري” الرؤى نفسها التي تعبر عنها القيادة؟ وما الذي يعنيه هذا التحول عمليا الآن بعد نجاح الهيئة في إسقاط النظام وتولي السلطة؟ الإجابة على هذه التساؤلات تظل غير مؤكدة.
الوضع الجديد يبعث بلا شك أملا لدى الكثير من السوريين الذين أنهكتهم سنوات من الحرب، والفقر، والقمع. هؤلاء السوريون يتطلعون إلى التغيير بحد ذاته، كما تفعل شعوب أي بلد آخر، على أمل تحقيق السلام والازدهار في حياتهم التي عصفت بها الأحداث.
إذا استمرت التطورات في اتباع النمط التقليدي لتاريخ سوريا، فمن المحتمل أن يحل نظام سلطوي جديد محل النظام السابق. ومع ذلك، فإن حقيقة أن سوريا عرفت تاريخيا أنظمة دكتاتورية فقط، لا تعني أن بناء مجتمع أكثر ديمقراطية غير ممكن. هذه الإمكانية موجودة بالتأكيد، لكنها تتطلب دعما عسكريا كافيا من مجموعات تمتلك الإرادة الصادقة والقدرة الفعلية لدعم هذا الهدف. ولكن حتى الآن، فشلت هذه المجموعات في إثبات قدرتها، بسبب انقساماتها العميقة التي أعاقت عملها كقوة موحدة وفعالة. وفي نهاية المطاف، يبقى العامل الحاسم هو من يمتلك القوة الأكبر والتنظيم الأفضل لتحقيق هذا التحول المنشود.
وبغض النظر عن النتيجة، فإن الشعب السوري بأكمله قد دفع ثمنا باهظا لهذه الحرب الطويلة. سواء كانوا مؤيدين للنظام أو داعمين لجماعات المعارضة، فإن معاناتهم المشتركة تجعل الأمة السورية بأكملها ضحية لصراع مدمر. من الضروري الآن التركيز على تحسين أوضاع الشعب السوري الذي طال انتظاره لتحقيق الاستقرار وإعادة البناء. إن أمام المنتصرين في الثورة السورية الجديدة فرصة ذهبية لبناء “سوريا جديدة” أفضل.
* نيقولاوس فان دام: السفير الهولندي السابق لدى العراق، ومصر، وتركيا، وألمانيا، وإندونيسيا.
والمبعوث الخاص لسوريا. وهو مؤلف كتاب “الصراع على السلطة في سوريا” (الطبعة الرابعة، 2011)، و”تدمير وطن: الحرب الأهلية في سوريا” (2017).
تتضمن هذه المقالة مقتطفات من كتابه القادم “رحلاتي الدبلوماسية في العالمين العربي والإسلامي”، الذي يتناول تجاربه في سوريا ولبنان والأردن وفلسطين وليبيا والعراق ومصر وتركيا وألمانيا وإندونيسيا.