من عمق 54 سنة من الألم تدفق فرح السوريين بانهيار نظام الأسد وزواله ليلة 8 ديسمبر/كانون الأول الجاري. وهو كان طوال هذه السنين نظاما للشر واللؤم، للقتل والسجون والتعذيب والجريمة، ليعمّ بين الناس الشك والريبة والخوف والمهانة والبؤس والفقر والإملاق. ومن هذا كله شيد نظام الأسد عالم سوريا الخاوي إلا من الكمد والكتمان والصمت، لتقتصر حياة البشر فيه على تلبية حاجاتهم البيولوجية، في مقابل عبادة “قائد”- وثن، جعل الأبد من صفاته.
ولم تكن هذه حال سوريا وحدها مع نظام، إذا لم يجد فرصة لاستدخال أفعاله هذه في البلدان والمجتمعات المشرقية المجاورة، عمل على خلقها وممارستها فيها: ساهم في التمهيد لإغراق لبنان ثم العراق في حروب أهلية، وعمل على ديمومتها. واستعمل مأساة فلسطين ذريعة لغرس الشّقاق بين الدول والبلدان المشرقية وجماعاتها، ومن ثم لتخوينها وابتزازها. وهزائمه في حروبه مع إسرائيل التي احتلت أراضي سوريا، سماها انتصارات، طالما أن الجيش الإسرائيلي لم يصل إلى دمشق ويقوّض نظام استعباد السوريين واستعمارهم الداخلي، لتستعبدهم وتستعمرهم طغمة النظام الأمني السوري استعمارًا أشد بكثير من استعمار إسرائيل لفلسطين 1948.
وحين شاعت موجة الكفاح الوطني الفلسطيني المسلح بين اللاجئين الفلسطينيين المطرودين من بلادهم، أعمل النظام السوري الشِّقاق في المنظمات الفلسطينية لاستتباعها والاستيلاء على ما سُمي “القرار الوطني الفلسطيني”. ومن ثم ساوم قوى إقليمية ودولية على ذبح الفلسطينيين وإيقاف حروب لبنان الأهلية، فيما هو يعمل على تأجيجها وإذكائها… والحق أن هذا كله ليس سوى غيض من فيض استعمار هذا النظام سوريا وجعلها سجنا كبيرًا لشعبها وتحويله جيشًا بائسًا من المجندين تجنيدا إجباريا لبعث الخراب السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي في المشرق العربي.
الكوابيس الأحدث زمنًا في لبنان كانت قد بلغت أشدّها- وخصوصا على الجماعة الشيعية فيه- في الشهرين الأخيرين من سنة الحرب بين إسرائيل و”حزب الله” بعد عملية “طوفان الأقصى”
وبزوال نظام “البعث” الأسدي يزول كابوس مشرقي مديد، من سوريا أولا، ولبنان ثانيا، والعراق ثالثا… وقد يكون لزواله تأثير في إيران التي كانت بؤرة مركزية وأساسية لإرساء نفوذ نظامها المدمر في المشرق العربي، من صنعاء إلى بيروت، مرورًا ببغداد ودمشق.
قد لا يكون لتدفق فرح السوريين بزوال 54 سنة من كوابيسهم وآلامهم المتأرثة من جيل إلى جيل، مثيل في أي مكان من العالم اليوم. فنصيب اللبنانيين مثلا من الكوابيس والآلام، عندما كان بلدهم مرتع نظام الأسد طوال عقود، يكاد يكون ضئيلًا مقارنة بتلك التي عاشها السوريون في بلادهم.
والحق أن الكوابيس الأحدث زمنًا في لبنان كانت قد بلغت أشدّها- وخصوصا على الجماعة الشيعية فيه- في الشهرين الأخيرين من سنة الحرب بين إسرائيل و”حزب الله” بعد عملية “طوفان الأقصى”. ولما توقفت هذه الحرب في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، دخل لبنان في حال من الخمول، بعدما عاش عاصفة الدم والتدمير والهلع طوال شهري حرب الانتقام الإسرائيلية من حزب حرب “المساندة” و”المشاغلة” ومما يسمى بيئته الحاضنة، التي انطلقت في سماء ضاحيتها جنوب بيروت موجات من الرصاص، فور توقف الانتقام الإسرائيلي منها. وفُسّرت المشاعر والانفعالات التي لابست إطلاق الرصاص تفسيرين متناقضين: قال البعض إنها أشبه بـ”عويل” غاضب وأليم حيال مشاهد الدمار في تلك الضاحية. وقال آخرون إنها تعبير عن “الانتصار” الذي أعلن “حزب الله” عن تحقيقه في الحرب.
أما موجة إطلاق الرصاص الغزير في سماء مدينة طرابلس الشمالية بعد 10 أيام، أي في ليلة 8 ديسمبر/كانون الأول، فلم يختلف اثنان على تفسيرها: فرحة طرابلسية عارمة بانهيار النظام السوري الذي تأكد زواله صبيحة النهار التالي، ليحتفل شبان أحياء طرابلس وفئات من أهلها بفرار بشار الأسد وقوات نظامه والميليشيات الإيرانية الحليفة له من سوريا. هذا فيما لم يفصح أهالي وشبان أحياء بيروت في تلك الليلة عن مشاعرهم وانفعالاتهم حيال الحدث السوري الكبير. واقتصر أثر سقوط الأسد على مرور سيارة أو اثنين في محلة الطريق الجديدة البيروتية، تصدح منهما أغانٍ عن القلمون والقصير ويبرود في سوريا. وهي من الأغاني التي كان صخبها عارمًا في شوارع بيروت ضد مشاركة “حزب الله” في الحروب السورية ما بعد عام 2012.
لكن شبان الطريق الجديد ساروا مئات في شوارع أحيائهم نهار الأحد 8 ديسمبر/كانون الأول الجاري هاتفين “يلّه ارحل يا بشار” الذي كان قد فرّ من سوريا. وانطلقت في المنطقة زخات رصاص ابتهاج متفرقة، فيما أحياء ضاحية بيروت الجنوبية غارقة في الكمد والصمت، وينشغل أهلها في تسكين جراحهم وآلامهم وانتظار لجان التخمين التي شكلها “حزب الله” لتقدير التعويضات عن الأضرار التي أحدثتها الحرب الإسرائيلية في بيوتهم.
أما أهالي الأحياء والمناطق المسيحية، وخصوصًا منطقة الأشرفية البيروتية، فكانوا طوال أيام الحدث السوري الكبير منشغلين بالتحضير لأعياد الميلاد ورأس السنة. وكانت مطاعم ومتاجر الأشرفية تغصّ بالزبائن وشوارعها بالسيارات. فبدا كأنما أهلها يستعيدون شعار حركة 14 مارس/آذار 2005، بعد اغتيال رفيق الحريري: “نحن نحب الحياة” ضد “ثقافة الموت” التي كرسها “حزب الله”. لكن انفعالات “الرأي العام المسيحي”
لم تخلُ من التوجس والتحفظ حيال ما يحدث في سوريا. فمنذ دخول فصائل المعارضة السورية المسلحة مدينة حلب، ترددت في بعض الأوساط المسيحية أصداء الخوف من وصول “الإسلام الجهادي المتطرف” إلى حمص ثم إلى طرابلس. وهو الخوف الذي كان قد فجّره قويًا زحف مقاتلي “حزب الله” إلى سوريا بين عامي 2013 و2016، حينما راجت تسمية طرابلس “قندهار لبنان” بصفتها معقلًا لـ”التطرف الإسلامي”.
لكن المناطق المسيحية كانت على موعد ضربه حزب “القوات اللبنانية” نهار الأحد 8 ديسمبر/كانون الأول، لاحتفالات “شعبية” في مناطق عدة يتكاثف فيها جمهور “القوات”: جونية، الأشرفية، جزين، دير الأحمر، بشري، وسواها. ونقلت المحطة التلفزيونية المقربة من “القوات” مشاهد هذه الاحتفالات.
وبصمت تعاطفت فئات درزية لبنانية مع دروز جبل العرب والسويداء الذين حرّروا مناطقهم من جيش النظام السوري وأجهزته الأمنية، وزحفوا مع أهالي درعا نحو ريف دمشق والعاصمة السورية. وعبّر الزعيم وليد جنبلاط عن موقف صريح داعم لسقوط نظام الأسد. ومنذ عام 2007 لا تزال تتردد أصداء عبارة جنبلاط التي أشار فيها إلى اغتيال النظام السوري والده كمال جنبلاط عام 1978. وقال جنبلاط الابن إنه يجلس على ضفة النهر الذي لا بد أن يشاهد يومًا ما جثة القاتل تطفو عابرة على مياهه.
لكن بشار الأسد فرّ إلى روسيا بوتين الذي أجّل انهيار نظامه عقدًا من السنوات. وقد فرَّ تاركًا البلاد التي أراد توريثها لابنه، حافظ الثاني، حرة طليقة تبكي فرحًا خلاصها من 54 سنة من الكوابيس والألم المتأرثين في صدور السوريين.