أعاد ناشطون على مواقع التواصل نشر تغريدة للوزير والنائب اللبناني السابق سليمان فرنجية يقول فيها: “أنا أملك شيئاً لا يملكه الكثيرون، وهو ثقة (حزب الله) وثقة الرئيس السوري بشار الأسد. وأنا أستطيع أن أنجز معهم ما لا يستطيع أن ينجزه آخرون”، كتأكيد على ارتفاع حظوظه في انتخابه رئيسا للجمهورية بما أنه يحوز ثقة زعيمي القوتين المهيمنتين على السياسة اللبنانية.
لم تمض على التغريدة المنشورة في 23 أبريل/نيسان 2023 سنة ونيف حتى تحولت أقوال الرجل إلى مادة للسخرية، وهناك من ذهب إلى القول إن فرنجية فقد حظوظه حتى في ترؤس لجنة المبنى الذي يقيم فيه.
ليس المقصود هنا التقليل من شأن زعيم “تيار المردة” ولا الإساءة إليه، بل تسليط الضوء على الطبيعة العاصفة للتغيرات التي شهدها المشرق العربي منذ أن كتب فرنجية تغريدته… “حزب الله” وبشار الأسد كانا عمادين من أعمدة السياسة اللبنانية لا يمكن تجاوزهما في الوقت الذي نشر فرنجية أقواله. أما اليوم فلم يعودا كذلك، بل إن الأسد اختفى عن المشهد كليا فيما لا يمكن التنبؤ بالموقع الذي قد تحتله دمشق في المستقبل في لبنان ومصيره.
فبعد نشر التغريدة بستة شهور شنت “حماس” عمليتها “طوفان الأقصى” في غزة وبدأ تفاعل متسلسل من الأحداث التي لم تتوقف: تدخل “حزب الله” اللبناني الذي كان يُنظر إليه على أنه أقوى حركة مسلحة غير حكومية في العالم، تحول في سبتمبر/أيلول من “حرب إسناد” لحلفائه في “حماس” إلى حملة شاملة حاول “الحزب” مع إيران تفاديها بكل الوسائل، على الرغم من أن انخراطه فيها كان بعد حسابات أخذت في الاعتبار أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سيكون في غاية السعادة إذا اندلعت حرب في لبنان للأسباب التي أطنب في الحديث عنها من أزمات داخلية وفقدان الهدف من الحرب في غزة وما شابه.
دخول القوات السورية الى بيروت في الاول من نوفمبر 1976
المفاجآت الأمنية التي صدمت إسرائيل “الحزب” بها كتفجير أجهزة النداء “البيجر” واغتيال أمينه العام حسن نصرالله وقيادات الصفين الأول والثاني في أقل من عشرة أيام، انعكست أداءً متواضعا عسكريا على الجبهات في الجنوب وسط ملاحقة إسرائيلية لكل مسؤولي “الحزب” حتى العاملين في أجهزته المالية والإدارية والإعلامية. الغارات الجوية الإسرائيلية ألحقت دمارا هائلا في كل مناطق لبنان وامتدت إلى العاصمة السورية دمشق ومواقع قيل إن “حزب الله” كان يستخدمها في مناطق نائية من سوريا تصل إلى الحدود العراقية في البوكمال ناهيك عن مناطق القصير وأرياف حمص وحماة والساحل السوري.
الردود على قصف القنصلية الإيرانية في دمشق ثم اغتيال رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” إسماعيل هنية في طهران والقصف المستمر لمقرات “الحرس الثوري” المنتشرة في سوريا وبعد ذلك اغتيال نصرالله، من خلال إطلاق الصواريخ والمسيرات على إسرائيل، لم تكن متناسبة مع مستوى التحدي الذي رفعه الإسرائيليون في وجه القيادة الإيرانية التي ظهرت بمظهر المتخوف من الانزلاق إلى حرب ليست مستعدة لها ولا هي على مستوى مواجهتها على الصعد الاستخبارية والتقنية بعد دخول الذكاء الاصطناعي والجمع الكثيف للمعلومات وتصنيفها وتوظيفها في اختيار الأهداف كأسلوب معتمد في القتال.
في ظروف أسابيع قليلة بدا أن تهديدات “حزب الله” بتدمير القاعدة الصناعية الإسرائيلية في مدينة حيفا ومحيطها “في نصف ساعة” كما ورد على لسان نصرالله في واحد من خطاباته، ليس لها مكان في العالم الحقيقي وأن قدرات “الحزب” العسكرية والأمنية لم تشهد التطور الذي طالما تغنى به وادعاه وأنه لم يدرك أن الإسرائيليين تعلموا دروس حرب يوليو/تموز 2006 وطوروا قدراتهم في غفلة من “الحزب” والإيرانيين. وقد لاحظ هؤلاء أن “التفكيك المنهجي للمحور الإيراني” الذي تحدث عنه نتنياهو، أمر حقيقي وأنه يستند إلى موافقة دولية تتجاوز الولايات المتحدة وأوروبا.
في المحصلة، أدت الحرب على لبنان إلى تغيير عميق في التوصيف الوظيفي لـ”حزب الله” وإنهاء دوره الإقليمي الذي استنزف الكثير من إمكاناته في مغامرات للدفاع عن بشار الأسد حيث سقط لـ”الحزب” آلاف القتلى وكشفته أمنيا وعسكريا أمام أعدائه.
ولإضافة الجرح إلى الإهانة، شنت “هيئة تحرير الشام” هجومها الصاعق في 27 نوفمبر/تشرين الثاني لتكتسح المدن السورية بسهولة لم تجد لها تفسيرا مقنعا حتى الآن. ولا ريب في أن سقوط بشار الأسد وآلته الأمنية والإعلامية وامتداداتها في لبنان في نواحي تبييض وتهريب الأموال وتصنيع المخدرات واستيراد السلع الفاخرة وغير ذلك الكثير، ستكون له ارتدادات على قطاعات واسعة من السياسيين اللبنانيين الذين خدموا نظام بشار الأسد وأبيه حافظ منذ عقود.
أدت الحرب على لبنان إلى تغيير عميق في التوصيف الوظيفي لـ”حزب الله” وإنهاء دوره الإقليمي الذي استنزف الكثير من إمكاناته في مغامرات للدفاع عن بشار الأسد
ولا تعني بيانات النأي بالنفس و”التوضيحات” و”التمنيات لسوريا بالسلام والازدهار” التي صدرت عن أحزاب وقوى لطالما استقوت بالنفوذ السوري وبنت لنفسها أدوات بطش وقمع محلية، سوى إدراك عمق التغيير الذي حصل. لقد اكتسى شعار “وحدة المسار والمصير” الذي قرع به موالي النظام السوري في لبنان رؤوس مواطنيهم، طابعا مخيفا يسعى حلفاء الأسد إلى تجنبه بأي ثمن. وبات الأمل هو تجنب مصير بشار ونظامه والفضيحة المدوية التي سقط بها وأظهرته كعملاق بقدمين من فخار، لا قدرة له على الوقوف ما لم تسنده قوى الخارج كروسيا وإيران، والتناقضات الداخلية بين السوريين.
شعار “وحدة المسار والمصير” جدير بالتوقف عنده، ربما أكثر من غيره من الثرثرات التي أنتجها نظام الممانعة في دمشق وأنصاره في بيروت. فقد استخدم الشعار لتبرير استيلاء نظام الأسدين، الأب والابن، على كل مظاهر الاستقلال والسيادة اللبنانيين على علاتهما ونواقصهما. فمنع لبنان، تحت وطأة الشعار هذا، من انتهاج طريق مستقل في المفاوضات العربية–الإسرائيلية التي أعقبت مؤتمر مدريد في 1991 حيث اعتبر حافظ الأسد أن مجرد تفكير اللبنانيين بالابتعاد عن الطريقة التي يدير بها هو المفاوضات، خيانة موصوفة. وامتد الموقف هذا ليشمل حتى تعيين الموظفين في الإدارات العامة اللبنانية وتجويف القوى النقابية والسيطرة على وسائل الإعلام وتجويف كل الاجتماع اللبناني-اللبناني الذي قاوم قدر الاستطاعة فيما كانت بعض أجزائه تستمرئ لعبة الولاء لدمشق والخضوع لمشيئة النظام الطائفي الأقلوي هناك.
مسلحون سوريون يساعدون مواطنيهم على العبور الى سوريا في 10 ديسمبر أ ف ب
ومعروف أن العلاقات اللبنانية–السورية لم تكن يوما علاقات سوية وندية. فـ”عقدة لبنان” لا زالت (وستبقى في المستقبل المنظور) تسيطر على تفكير الكثير من السياسيين والمتعاطين في الشأن العام من السوريين. والمقولة التي تقوم على أن لبنان كيان اصطنعه الاستعمار وسلبه من سوريا، تجد هوى كبيرا في نفوس بعض السوريين حتى اليوم، حيث لم تترسخ حتى الآن قناعة أن دولة مضى على قيامها أكثر من مئة عام، بواسطة الاستعمار وهي تتساوى بذلك مع كل دول المشرق وخصوصا مع سوريا، قد بنت شخصيتها المستقلة وأنها رغم مصائبها المتكررة، لا ترغب في الانضمام إلى الدولة السورية، بل إن حافظ الأسد ذاته رفض اقتراح بعض المتملقين بتوحيد سوريا ولبنان لمعرفته أن الفائدة التي يجنيها نظامه من لبنان المستقل تعلو علوا شاهقا عن محافظة سورية تسمى لبنان.
ويضيق المجال هنا عن خوض تفاصيل العلاقات المريرة منذ الدخول العسكري السوري الى لبنان في 1976 الذي بدأ بذريعة “انقاذ المسيحيين من المذابح” التي كان يعدها لهم المسلمون اللبنانيون المتحالفون مع منظمة التحرير الفلسطينية، اكتسب لاحقا شرعية عربية تحت غطاء “قوات الردع العربية” او تكليف النظام السوري ادارة تطبيق اتفاق الطائف لانهاء الحرب الاهلية التي كان للنظام السوري اهتماما باستغلالها ضد اعداء شتى، ليست اسرائيل اولهم ولا منظمة التحرير الفلسطينية آخرهم، وصولا الى موجات الاغتيالات والتفجيرات وكان ابرزها اغتيال رئيس الوزراء الاسبق رفيق الحريري حيث اشارت اصابع الاتهام الى تواطؤ بشار الاسد مع “حزب الله” لتنفيذ سلسلة اغتيالات رمت الى تغيير المشهد السياسي اللبناني.
وإذا طُرح سؤال التوازن، فستشير موازين القوى الى اختلالها الواضح لمصلحة سوريا ما شجع العديد من حكوماتها على اعتبار الوصاية على لبنان حقا مفروغا من امره. وتحولت العلاقات الى سعي دائم للوصاية مع وصول حافظ الاسد الى الحكم وانقلاب الدولة السورية الى ما يشبه الشركة العائلية الباحثة عن الغنائم والارباح في كل اتجاه.
العلاقات اللبنانية–السورية لم تكن يوما علاقات سوية وندية. فـ”عقدة لبنان” لا زالت (وستبقى في المستقبل المنظور) تسيطر على تفكير الكثير من السياسيين والمتعاطين في الشأن العام من السوريين
واليوم، يتشارك البلدن في “مصير” واحد، حيث انهارت الدولة في البلدين وتتولى السلطة الفاشلة في لبنان حكومة تفتقر إلى الشرعية وإلى الموارد وإلى الحد الأدنى من الرؤية المستقبلية وتقوم بتصريف الأعمال في انتظار موافقة “حزب الله” الذي أعاق انتخاب رئيس جمهورية منذ انتهاء مدة الرئيس السابق ميشال عون، على رئيس جديد. في الوقت ذاته، بدأت ملامح الفراغ الدستوري والسياسي تلوح في سوريا التي عانت من القمع والاضطهاد طوال 54 عاما متواصلة، وبلغ القمع والاضطهاد هذان حدود الابادة في أعوام ما بعد اندلاع الثورة السورية في 2011.
وليس كشفا كبيرا القول إن البلدين يقفان على شفا تغييرات جذرية بعد تغيير الدور الوظيفي لـ”حزب الله” في الداخل اللبناني وخسارته خطوط إمداده وتمويله والبنية التحتية العسكرية التي أنشأها في سوريا، مقابل تصاعد التململ منه ومن ممارساته السابقة على الحرب واللاحقة لها وظهور الحدود الضيقة لقدراته على تعويض المتضررين ممن فقدوا بيوتهم وأقاربهم على خلاف ما كان الوضع عليه في 2006. وناهيك عن أن قلة المساعدات المالية المتوقعة، ستشكل عنصر ضغط إضافيا لتحجيم “الحزب” وتقليص مصداقية خطابه وإن عمل مؤيدوه على إنكار ذلك.
أما في سوريا التي اعتمد نظامها السابق على لبنان كطريق التفافي على العقوبات الدولية، فإن انفتاح أسواقها أو انغلاقها على التعامل الاقتصادي مع بيروت ستكون له تبعات متعددة قد تساهم في تعافي البلدين معا أو تمديد معاناتهما.
وكما في الاقتصاد، سيكون الأمر في العلاقات السياسية والثقافية والاجتماعية. ذلك أن الكثير سيتعلق بالمواقف والقرارات التي تتخذها السلطات في سوريا للخروج من الكارثة التي خلفها حكم “البعث” وعائلة الأسد على جميع أوجه الحياة. ويبقى الأمل في أن يتعاون الشعبان في تجاوز الأحقاد والكراهية التي زرعها النظام السابق ومعالجتها بما يضمن الرخاء والسلام في لبنان وسوريا في منأى عن وحدة قسرية “للمسار والمصير” أو “الشعب الواحد في دولتين”.