رغم أن الكيان الصهيونى المحتل والولايات المتحدة الأمريكية يدعوان إلى التهدئة، المنطقة مقبلة على مرحلة أخرى من الإرهاصات، يخيم عليها قلق الاضطرابات والفوضى التي قد تعصف بها، مع وفرة الحاضنات الارهابية التي قد تنشط وخاصة في العراق فهو أرض رخوة لتحريك المياه الراكدة. بعد تداول أخبار في واشنطن…
في مقال نُشِر على صحيفة نيويورك تايمز في ٤ كانون الثاني ٢٠٢٤ بعنوان (مع تحدي الأسد، فإن دفعة لخفض علاقات سوريا وإيران تنمو بشكل غير مرجح أكثر)، (With Assad Challenged, a Push to Cut Syrias Ties to Iran Grows More Unlikely)، تسرّب السي آي أي محاولاتها الحثيثة لفصل ارتباط نظام بشار الاسد عن الجمهورية الاسلامية في ايران، مع إغراءات ووعود كبيرة لدمشق.
استمرت هذه المحاولات حتى قبل وقف إطلاق النار بين الكيان الصهيوني المحتل ولبنان. فبعد أن فشلت تلك المحاولات، كان آخر الحلول هو إسقاط النظام السوري، من قبل شخص مصنّف ارهابياً، ابو محمد الجولاني. في لقاءه على قناة سي أن أن قبل أيام، صرّح الإرهابي أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) بأن هيئة تحرير الشام ستدافع عن التنوع الاجتماعي في سوريا، وستحمي الأقليات الدينية والعرقية، ولن تتبنى تصدير الثورة إلى الدول المحيطة لسوريا كما كانت تسعى الدولة الاسلامية في العراق وسوريا (داعش) أو جبهة النصرة، الامتداد الطبيعي لداعش.
كان اللقاء بمجمله رسائل طمأنينة إلى المجتمع الدولي والدول المحاذية لسوريا على وجه الخصوص، حتى نشرت صفحة وول ستريت جورنال مقالاً في ٢ كانون الثاني ٢٠٢٤، بعنوان كيف انتقل أحد الثوار السوريين من سجن أميركي إلى الاستيلاء على حلب، (How a Syrian Rebel Went From an American Jail to Seizing Aleppo). صور المقال ابو محمد الجولاني على انه الودود واللطيف مع السوريين والمنقذ لهم من حكم الدكتاتور بشار الأسد. تحدث عن خطط لتشكيل حكومة قائمة على المؤسسات ومجلس يختاره الشعب، في عملية ديمقراطية لإدارة البلد.
كان أبو مصعب الزرقاوي المنظر الروحي للجولاني. بعد مقتل الزرقاوي، انتقل الجولاني إلى لبنان في عام ٢٠٠٦ ليُشرِف على تدريب تنظيم جند الشام الإرهابي، ثم عاد إلى العراق. قضى ابو محمد الجولاني سنوات من الاعتقال في سجن بوكا والذي كانت تديره الولايات المتحدة في العراق. اشتهر سجن بوكا بكونه مكاناً خصباً لتطور الأيديولوجيات المتطرفة. عاد الجولاني إلى سوريا في عام ٢٠١١ بصفته ممثلاً عن أمير داعش الارهابية، ابو بكر البغدادي، ليؤسس مع القيادي العراقي ميسرة الجبوري (أبو ماريا القحطاني) والسوري أبو أحمد زكور جبهة النصرة الارهابية في كانون الثاني ٢٠١٢. وصل الجولاني، السعودي المولد، السوري الجنسية، إلى سوريا بحقائب مليئة بالنقود، ومهمة نقل الحركة المتطرفة داعش إلى العالمية. أول انقلاب على داعش، أعلن الجولاني رفضه الاندماج معها بعد ان طلب ابو بكر البغدادي توحيد التنظيمين، جبهة النصرة و داعش في عام ٢٠١٣. بدل ذلك، أعلن الجولاني ولائه لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، لكن لن يستمر الزواج مع القاعدة حتى أعلن الجولاني قطع علاقته بتنظيم القاعدة في تموز ٢٠١٦، ليُعلن عن إسم تنظيمه الجديد جبهة تحرير الشام.
ظهرت إلى السطح تنظيمات جهادية سلفية متشددة في سوريا كجبهة فتح الشام، جبهة أنصار الدين، جيش السنّة ولواء الحق، حركة نور الدين الزنكي، حركة أحرار الشام، علاوة على جبهة تحرير الشام الذي ينتمي اليه ابو محمد الجولاني. لتبنيها أيديولوجيات متفاوتة بالشدة والعنف، حصلت معارك طاحنة بين هذه التنظيمات، حتى خسرت آلاف القتلى في صفوفها، فظهرت الحاجة لتوحيد قواها تحت راية تنظيم واحد أسمه هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمد الجولاني في ٢٨ كانون الثاني ٢٠١٧. انتقل ابو محمد الجولاني إلى مرحلة اكثر براغماتية، يركز على الدبلوماسية والحكم المحلي، بعيداً عن تصدير الثورة وجعلها عالمية.
في مقابلته مع سي أن أن، كان واضحاً جداً بأنه تخلى عن أهداف القاعدة في الجهاد العالمي. كان همه إسقاط نظام بشار الأسد وإقامة نظام إسلامي سنّي على غرار النظام الإسلامي في إيران. أكد قائلا: كانت شراكتنا مع القاعدة أمراً من الماضي، كانت حقبة وانتهت. أضاف قائلاً: إنه حتى في ذلك الوقت عندما كنا مع القاعدة، كنا ضد الهجمات الخارجية وكان من المخالف تماماً لسياساتنا تنفيذ عمليات خارجية تنطلق من سوريا لاستهداف الأوروبيين أو الأمريكيين، لم يكن هذا جزءاً من حساباتنا على الإطلاق، ولم نفعل ذلك على الإطلاق.
قال آرون زيلين، زميل بارز في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ومؤلف كتاب صدر مؤخرًا عن هيئة تحرير الشام: إن انفصال الجولاني وجماعته عن الدولة الإسلامية والقاعدة حقيقي للغاية. لم يكونوا جزءًا من هذه الكيانات لفترة أطول من فترة وجودهم معهم. الآن مر ما يقرب من ٨ سنوات ونصف السنة منذ أن تخلوا عن الجهاد العالمي. (راجع كتاب عصر الجهادة السياسية: دراسة عن حياة تحرير الشام، The Age of Political Jihadism: A Study of Hayat Tahrir al-Sham، آيار ٢٠٢٢)، رغم تصنيف الولايات المتحدة الأمريكية الجولاني بالارهابي، عرضت مبلغ ١٠ ملايين دولاراً مقابل أي معلومات تساعدها على اعتقاله، مما دفع الجولاني إلى تسويق نفسه كزعيم مدني، محاولاً الابتعاد عن الصورة المرتبطة بالإرهاب الدولي.
هذا جاء مطابقاً لما تتبناه حركة طالبان الافغانية. بعد أن سقط النظام الشيوعي في افغانستان، أسس الملا محمد عمر، مع مجموعة من الطلبة من قندهار، حركة طالبان في ايلول ١٩٩٤. كانت بصمة المخابرات الباكستانية واضحة في تدريب وتنظيم عمل الحركة. سعى الملا محمد الى تطبيق الشريعة الإسلاميّة فيها. ثم ائتلف مع تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. بعد ١١ أيلول ٢٠٠١، تعرضت حركة طالبان لضربات موجعة من قبل القوات الأمريكية. أتُهمت حركة طالبان بارتكاب مجازر ضد المدنيين في ظل حكمها ما بين ١٩٩٦ – ٢٠٠١. اتخذت سياسة الارض المحروقة، وقضت على مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة، ودمرت عشرات الآلاف من المنازل. في تموز ٢٠١٥، أعلنت حركة طالبان وفاة الملا محمد عمر. ثم جاء الملا أختر محمد منصور ليقود حركة طالبان. تم قتله في غارة جوية أمريكية في أيار ٢٠١٦.
وقع الاختيار على هبة الله أخوند لقيادة طالبان. يمتاز هبة الله بانفتاحه على المجتمع الدولي وتحسين العمل المؤسساتي في افغانستان. كما فكّ ارتباطه عن القاعدة فأصبح اكثر براغماتية، ملتزماً بالحلول الدبلوماسية، مع دفاعه عن التنوع والأقليات الدينية والعرقية، ورفضه تصدير الثورة خارج الحدود، حتى اعترفت امريكا بحكمه، في ٢١ آب ٢٠٢١. كان الملا محمد اشد قساوة على الأقليات الدينية والعرقية حيث تعرّضت الشيعة للاضطهاد خلال حكم طالبان. أما هبة الله أخوند فكان اكثر انفتاحاً على الشيعة. تتكون الشيعة في أفغانستان من قبيلة الهزارة وقبائل أخرى، والتي يبلغ مجموع سكانها ما يقرب من ١٠ بالمئة من سكان أفغانستان. دَعَمَ عدد قليل من الإسلاميين الشيعة حكم طالبان، مثل الأستاذ محمد أكبري. في السنوات الأخيرة حاولت حركة طالبان مغازلة الشيعة وتعيين رجل دين شيعي حاكمًا إقليميًا، وتجنيد الشيعة الهزارة لمحاربة تنظيم الدولة الاسلامية، لمحو تاريخهم الوحشي والقمعي ضد الشيعة، وتحسين العلاقات مع الحكومة الشيعية في إيران.
كإرهاب حركة طالبان، في أيامها الأولى، شاركت هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً، بقتل الأقليات وذبح المسيحيين والشيعة والدروز، حتى تبنّت نهجاً أكثر انفتاحاً بعد ٢٠٢٠. سيطرت على محافظة إدلب وادارت الحكم فيها لأربع سنين. توجهت إلى محافظة حلب لإسقاطها، وتبعها حماه وحمص، إلى ان وصلت إلى دمشق دون مواجهة تُذكر مع الجيش السوري، وهذا كله بتخطيط ودعم المخابرات التركية. يقول فواز جرجس، أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط والحركات الإسلامية والجهادية: أصبح موثقا، إذا نظرنا للقوى الفاعلة، أن الدعم التركي اللوجستي والعسكري والتدريب لعب دورا مهما ليس فقط بالنسبة لهيئة تحرير الشام، بل للقوى المعارضة السورية الأخرى وخاصة تلك ضد القوى الكردية في العديد من المناطق السورية. هذا يدل على أن تركيا تريد تغيير ميزان القوى في سوريا.
يستطرد قائلاً: الرؤية التركية تنظر إلى القوات الكردية (بككه) على أنها تشكل خطرا وجوديا على الدولة التركية أهم من الأسد، هم لا يتخوفون منه لأنه أصبح بطة عرجاء عسكريا، لكنهم يتخوفون من التعاون الوثيق بين القوات الكردية وبين الولايات المتحدة ومن هنا محاولة استخدام هذه الهزات الأرضية من أجل الضغط على القوات الكردية ومحاولة استعادة الكثير من المناطق ليصبح لتركيا نوع من القدرة على السيطرة على الحدود التركية السورية لمسافات طويلة تعطيها عملية ردع استراتيجي.
قال روبرت فورد، السفير الأمريكي السابق في سوريا وزميل في معهد الشرق الأوسط: كان المسلحون جاهزين لفترة من الوقت. أظن أن الأتراك كانوا يعيقونهم. لكن الآن، بمجرد انتهاء وقف إطلاق النار لبنان، لم يعد الهجوم على حلب مثل تركيا تقاتل عدوًا لإسرائيل. وجه الشبه الآخر بين طالبان افغانستان وهيئة تحرير الشام هو سيطرة طالبان على العاصمة كابول عشية إعلان ترامب الانسحاب من افغانستان، فقد سبقت الحركة إلى السيطرة على الحكم قبل ان تسبقها المنظمات المسلحة الأخرى.
كانت إحدى العوامل التي دفعت هيئة تحرير الشام هجومها المباغت وسقوط سوريا الدراماتيكي هو علم المخابرات التركية بتخطيط دونالد ترامب الانسحاب من سوريا، فاستبقت الهيئة الحدث لكي لا تسمح للتنظيمات الارهابية المسلحة في سوريا السيطرة على مفاصل الحكم، وهذا ما سيتأكد بعد رجوع ترامب إلى البيت الأبيض في ٢٠ كانون الثاني القادم.
لم تكن واشنطن بعيدةً عن مسرح الأحداث، فهي تعمل بالتنسيق مع تركيا دون توجيه أنظار الآخرين نحوها، فقد مهدت الطريق لهيئة تحرير الشام بالتحرك نحو دمشق، ولم تطلق صاروخاً واحدا لاستهدافهم، بينما قصفت، يوم الأحد الماضي، القاذفات الأمريكية بي ٥٢ و أف ١٥ التي تحمل أطنان من المتفجرات داعش في اكثر من ٧٥ هدفٍ في سوريا. كما أصدر الجنرال مايكل إريك كوريلا، رئيس القيادة المركزية الأميركية، تحذيرا واضحا للجماعات السورية بضرورة تجنب مساعدة تنظيم الدولة الإسلامية، في حين تكافح البلاد لتشكيل حكومة جديدة بعد رحيل الأسد. قال كوريلا في بيان: لا ينبغي أن يكون هناك شك في أننا لن نسمح لداعش بإعادة تشكيل نفسها والاستفادة من الوضع الحالي في سوريا. يجب أن تعلم جميع المنظمات في سوريا أننا سنحاسبها إذا انضمت إلى داعش أو دعمتها بأي شكل من الأشكال. في إشارة إلى إطلاق العنان لهيئة تحرير الشام بتشكيل حكومة دون منغصّات المنظمات الارهابية المتصارعة في سوريا.
الملف الأكثر سخونةً هو تعرّض قوات سوريا الديمقراطية للخطر فيما إذا أمر ترامب الانسحاب من سوريا. في عام ٢٠١٧، طلب ترامب من البنتاغون سحب القوات الأمريكية من شمال سوريا، لكن جنرالات في البنتاغون ومستشاري ترامب نصحوه بعدم الإقدام على هكذا خطوة. تغيرت الاحداث اليوم، وقد يطلب ترامب انسحاب فوري للقوات الأمريكية من سوريا، لتدخل قسد في مخاضٍ عسير. كما أن وجود ٩٠٠٠ إرهابي في سجونها سيفتح تكهنات كبيرة عن مستقبل سوريا.
رغم أن الكيان الصهيونى المحتل والولايات المتحدة الأمريكية يدعوان إلى التهدئة، المنطقة مقبلة على مرحلة أخرى من الإرهاصات، يخيم عليها قلق الاضطرابات والفوضى التي قد تعصف بها، مع وفرة الحاضنات الارهابية التي قد تنشط وخاصة في العراق فهو أرض رخوة لتحريك المياه الراكدة. بعد تداول أخبار في واشنطن عن إلغاء المكافأة المالية، ١٠ مليون دولار، في القبض على الإرهابي ابو محمد الجولاني، هل ستدعم واشنطن هيئة تحرير الشام في إدارة الحكم كما فعلت مع حركة طالبان افغانستان، ونشهد طالبان سوريا؟ يبدو الأمر كذلك.