وتحرّي رضا الله تعالى، يشكّل أهم أساس ومبدأ ومنطلق للتنمية البشرية والاقتصادية والبيئة والمستدامة، كما ويشكّل أهم مقوم من مقوماتها أيضاً، لأنه يوجِد الوازع والحافز الداخلي الذي يدفع الإنسان نحو الوفاء بالوعود، والالتزام بالإتقان والجودة، والامتناع عن الغش والتدليس والسرقة والغصب والاحتكار والاستئثار وشتى ألوان الاقتصاد الأسود…
يمكننا استكشاف أهم مبادئ ومنطلقات ومقوّمات وغايات التنمية(1) من مجمل كلمات الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر، وذلك ضمن الواحد والثلاثين مادةً وبنداً التالية:
رضا الخالق
1 ـ تحرّي المسؤولين على مستوى الاقتصاد الكلي، والتجار والمستثمرين ومختلف أطراف العملية الإنتاجية والتبادلية والتوزيعية والاستهلاكية على مستوى الاقتصاد الجزئي، لرضا الله تعالى، وهو مبدأ المبادئ وغاية الغايات، كما أنه المنطلق أيضاً، إذ يقول (عليه السلام): (“تَحَرَّ رِضا اللّهِ، وَتَجَنَّبْ سَخَطَهُ”، وَلَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ، وَلَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ “فَإِنَّهُ لا مَلجَأَ لَكَ مِنْهُ إلّا إلَيهِ)(2).
وتحرّي رضا الله تعالى، يشكّل أهم أساس ومبدأ ومنطلق للتنمية البشرية والاقتصادية والبيئة والمستدامة، كما ويشكّل أهم مقوم من مقوماتها أيضاً، لأنه يوجِد الوازع والحافز الداخلي الذي يدفع الإنسان نحو الوفاء بالوعود، والالتزام بالإتقان والجودة، والامتناع عن الغش والتدليس والسرقة والغصب والاحتكار والاستئثار وشتى ألوان الاقتصاد الأسود، كما يحجزه تحري رضا الله تعالى عن الإضرار بالبيئة والطبيعة والحيوان والإنسان، وحتى الإضرار بنفسه وبثرواته وممتلكاته بدءاً من الإسراف وصولاً إلى الانتحار.
إضافة إلى ذلك فإن رضا الله تعالى يكون، في جملة أهم ما يكون، في النفع لعباد الله فقد ورد في الحديث: (خَصْلَتَانِ لَيْسَ فَوْقَهُمَا مِنَ الْبِرِّ شَيْءٌ، الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَالنَّفْعُ لِعِبَادِ اللَّهِ)(3)، وقال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ)(4)، وقال (عليه السلام): (وَخَيْرُ النَّاسِ مَنِ انْتَفَعَ بِهِ النَّاسُ)(5).
الرحمة والمحبة والإحسان
2 ـ المحبة للناس، وهي منطلق. قال (عليه السلام): (وَلَا يَسْلَمُ لَكَ قَلْبُكَ حَتَّى تُحِبَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ)(6)، و: (من أَرَادَ أَن ينصف النَّاس من نَفسه فليحب لَهُم مَا يحب لنَفسِهِ)(7).
3 ـ والرحمة بهم، وهي مبدأ ومنطلق. قال (عليه السلام): (بِبَذْلِ الرَّحْمَةِ تُسْتَنْزَلُ الرَّحْمَةُ)(8)، و: (أبْلَغُ مَا تُسْتَدَرُّ بِهِ الرَّحْمَةُ أنْ تُضْمِرَ لِجَميعِ النّاسِ الرَّحْمَةَ)(9).
4 ـ والإحسان إليهم، وهو مقوّم لعملية التنمية. قال (عليه السلام): (علَيكَ بالإحْسانِ، فإنَّهُ أفْضَلُ زِراعَةٍ، وأرْبَحُ بِضاعَةٍ)(10)(11).
وفي ذلك كله يقول (عليه السلام): (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، “وَالإحْسَانَ إِلَيْهِمْ وَلا تُنِلْهُمْ حَيْفاً”(12))(13)، وذلك بعد أن حدد مسؤولية مالك الأشتر كحاكم لمصر في (اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا):
وإذا اعتبر المسؤولون الرحمة هي الأصل الأصيل والقاعدة العامة وانطلقوا من منطلق محبة الناس جميعاً، واتخذوا اللطف بهم والإحسان إليهم منهجاً، سار قطار التنمية البشرية والاقتصادية والمستدامة والشاملة بشكل سليم، في أُولى خطواته، ثم بنحو متسارع طوال مسيرته.
ثم إن هذه الأربعة كبعض لواحقها، تندرج إما في مقاصد الشريعة، أو في مقاصد المقاصد(14).
العدل كشِعار ودِثار
5 ـ العدل، وهو مبدأ من أهم المبادئ والمنطلقات والمقومات، فيجب طوال المسيرة التنموية اتخاذ العدل شعاراً ودثاراً، ومنهجاً وطريقاً، ويجب تجنب الظلم بشتى ألوانه وأشكاله، إذ يقول (عليه السلام):
(عَلَيْكَ بِالْعَدْلِ فِي حُكْمِكَ إِذَا انْتَهَتِ الْأُمُورُ إِلَيْكَ)(15)، و: (الْعَدْلُ قِوَامُ الْبَرِيَّةِ)(16)، و: (مَا عُمِّرَتِ الْبِلَادُ بِمِثْلِ الْعَدْلِ)(17).
ويقول (عليه السلام): (وَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ مِنْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ)(18).
ويقول (عليه السلام): (وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلَاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلَادِ وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ)(19)، و: (الْعَدْلُ أَقْوَى أَسَاسٍ)(20)، و: (العدل أقوى جيش)(21).
ويقول (عليه السلام): (فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ؛ وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ. وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ، مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ المَظْلُومينَ، وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ)(22)(23).
رضا الناس، كمحور للسياسات الاقتصادية وغيرها
6ـ اتخاذ رضا الناس، أي عامة الناس وإن لم يمكن فالأكثرية، المحور للسياسات العامة: الاقتصادية والتنموية و السياسية وغيرها، وهو مبدأ ومنطلق ومقوّم، إذ يقول: (وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَالْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ)، ويقول: (وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ… أَجْمَعُهَا “لِطَاعةِ الرَّبِّ، و” لِرِضَى الرَّعِيَّةِ؛ فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ)(24).
وهذا المبدأ يعارض منح أي امتياز أو حتى شرعية للنخبة المستأثرة أو المسيطرة، كما يلغي دور البِطانة والطبقة الارستقراطية وأنواع الكوربوقراطيات، كما يعني أن أكثرية الناس لو رجّحت السلم والصلح مثلاً فإن على الحاكم والمسؤولين الالتزام بذلك وإن كانوا يرون المصلحة في الحرب مثلاً، كما فصّلناه في كتاب آخر(25).
منفعة الشعب كمنطلق
7 ـ اتخاذ (المنفعة لعامة الناس) غاية وهدفاً ومنطلقاً، إذ يقول (عليه السلام): (وَاعْمَدْ لِأعَمِّ الأُمُورِ مَنْفَعَةً، وَخَيْرِهَا عَاقِبَةً)(26)، وهذا النص يشمل بإطلاقه صورة تزاحم منفعة أكثر الناس ومصالحهم مع منفعة شريحة منهم كشريحة الصناعيين أو المزارعين، وصورة تضارب المصالح بين قطاع الزراعة مع قطاع الخدمات أو الصناعة، أو مع مصالح جماعات الضغط(27).
ويعضد النص السابق نص آخر يعتبر (الأعم في العدل)، هو المعيار إذ يقول (عليه السلام): (وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا “لِطَاعةِ الرَّبِّ، و”(28) لِرِضَى الرَّعِيَّةِ؛ فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ)(29).
ولعل أهم ما يحقق العدل ويوفر المنفعة للناس ويكسب رضاهم أيضاً هو: توفير فرص العمل لهم؛ فإن (العمل يعد غاية ووسيلة في آن واحد، فهو غاية ترتبط بإنسانية الإنسان في الجماعة، وهو أحد مكونات الكرامة الإنسانية التي يتشرف بها المرء خلال حياته، وهو وسيلة لأنه العنصر الحاسم في منظومة عوامل الإنتاج والقادر على الاستغلال الأفضل لبقية العوامل)(30)، مضافاً إلى ذلك (فإن للعمل أبعاداً إنسانية ومجتمعية تجعله من أهم العمليات الاجتماعية الإنسانية التي تطور المجتمع إنتاجاً وفناً وثقافة، فهو الشكل الجوهري للنشاط الإنساني والساحة المفتوحة لتحرير الإنسان وتنمية قدراته إذا لم تحدها وتغلقها المحددات البنائية خصوصاً العلاقات الإنتاجية والانقسامية والتمايزية، التي أنتجت تقسيماً للعمل باعد بين العقل والفكر وفتّت وحدة العمل الإنساني وشموله الاجتماعي)(31)(32).
المساواة العادلة
8 ـ وللمساواة أنواع وصور:
أولاً: المساواة بين الناس في الحقوق الإنسانية والقانونية، من غير فرق بين جميع ألوان الناس وأنواعهم، وهي مبدأ ومنطلق ومقوّم، قال (عليه السلام): (وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، وَيُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ)(33)، والمساواة هي الأصل إلا أن تصطدم بالعدل فيتقدم عليها، كما فصّلناه في بحث سابق(34).
المسؤولون وغيرهم، في المزايا سواء
وثانياً: المساواة بين الحاكم (ومختلف أصناف المسؤولين) والرعية؛ فإن المساواة بينهما هي الأصل الأصيل، بل العجب كل العجب ممن يرى غير ذلك! وذلك بحسب تعبير الإمام (عليه السلام) إذ يقول (عليه السلام): (أَمَّا بَعْدُ؛ فَإنَّ الْعَجَبّ كُلَّ الْعَجَبِ مِنْكَ إذْ تَرَى لِنَفْسِكَ في بَيْتِ مَالِ اللهِ مِنَ الْحَقِّ أَكْثَرَ مِمَّا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمينَ!. وَقَدْ عَلِمْتَ بِسَوَابِقِ أَهْلِ بَدْرٍ؛ وَمَا كَانُوا يَأْخُذُونَ غَيْرَ مَا فُرِضَ لَهُمْ)(35)، وذلك في رسالته إلى عبد الله بن العباس عامله على البصرة.
وقد لخّص بعض المعاصرين إحدى مواقف الإمام علي (عليه السلام) بقوله: (بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) إلى اليمن، لأخذ الزكاة منهم، وبعدما أخذها منهم، طلب جماعة من مرافقيه أن يركبوا إبل الزكاة ليريحوا إبلهم، فأبى ذلك، وقال لهم (عليه السلام): (إنما لكم منها سهم كما للمسلمين)، ثم لام العامل الذي أذن لهم أن يركبوها في غيبته، وهو منصرف إلى الحج، وشاعت هذه القصة، لأن أناساً شكوه إلى الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله)، فأنكر شكواهم منه، وقال (صلى الله عليه وآله): (لقد علمت أنه جيش في سبيل الله)(36)).
ونص ما رُوي أنه: (بعَثَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ) عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) إِلَى الْيَمَنِ(37)، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَكُنْتُ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَهُ، فَلَمَّا أَخَذَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ سَأَلْنَاهُ أَنْ نَرْكَبَ مِنْهَا وَنُرِيحَ إِبِلَنَا، فَكُنَّا قَدْ رَأَيْنَا فِي إِبِلِنَا خَلَلًا، فَأَبَى عَلَيْنَا، وَقَالَ: إِنَّمَا لَكُمْ مِنْهَا سَهْمٌ كَمَا لِلْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ، وَانْطَلَقَ مِنَ الْيَمَنِ رَاجِعًا، أَمَّرَ عَلَيْنَا إِنْسَانًا وَأَسْرَعَ هُوَ فَأَدْرَكَ الْحَجَّ، فَلَمَّا قَضَى حَجَّتَهُ(38) قَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ): ارْجِعْ إِلَى أَصْحَابِكَ حَتَّى تَقْدَمَ عَلَيْهِمْ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَقَدْ كُنَّا سَأَلْنَا الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ مَا كَانَ عَلِيٌّ مَنَعَنَا [إِيَّاهُ] نَفْعَلَ، فَلَمَّا جَاءَ عَرَفَ فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ أَنْ قَدْ رُكِبَتْ، رَأَى أَثَرَ الْمَرْكَبِ، فَذَمَّ الَّذِي أمّره وَلَامَهُ فَقُلْتُ: أَنَا إِنْ شَاءَ اللهُ إِنْ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ لَأَذْكُرَنَّ لِرَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلم) وَلَأُخْبِرَنَّهُ مَا لَقِينَا مِنَ الْغِلْظَةِ وَالتَّضْيِيقِ.
قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ) أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ مَا كُنْتُ حَلَفْتُ عَلَيْهِ، فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ خَارِجًا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ) فَوَقَفَ مَعِي وَرَحَّبَ بِي وَسَأَلَنِي وَسَأَلْتُهُ، وَقَالَ: مَتَى قَدِمْتَ؟ قُلْتُ: قَدِمْتُ الْبَارِحَةَ، فَرَجَعَ مَعِي إِلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ) فَدَخَلَ فَقَالَ: هَذَا سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الشَّهِيدِ، قَالَ: ائْذَنْ لَهُ، فَدَخَلْتُ فَحَيَّيْتُ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ) وَجَاءَنِي وَسَلَّمَ عَلَيَّ وَسَأَلَنِي عَنْ نَفْسِي وَعَنْ أهلي فأحفى الْمَسْأَلَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَقِينَا مِنْ عَلِيٍّ مِنَ الْغِلْظَةَ وَسُوءِ الصُّحْبَةِ وَالتَّضْيِيقِ، فَانْتَبَذَ رسول الله (صلى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ) وَجَعَلْتُ أَنَا أُعَدِّدُ مَا لَقِينَا مِنْهُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي وَسَطِ كَلَامِي ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ) عَلَى فَخِذِي، وَكُنْتُ مِنْهُ قَرِيبًا ثُمَّ قَالَ: سَعْدُ بْنَ مَالِكٍ الشَّهِيد! مَهْ، بَعْضَ قَوْلِكَ لِأَخِيكَ عليّ، فو الله لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ أَخْشَنُ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ سَعْدُ بْنَ مَالِكٍ أَلَا أُرَانِي كُنْتُ فِيمَا يَكْرَهُ مُنْذُ الْيَوْمِ، وَمَا أَدْرِي لَا جَرَمَ وَاللهِ لَا أَذْكُرُهُ بِسُوءٍ أَبَدًا سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً)(39).
المساواة في تقسيم العطاء
ونشهده (عليه السلام) في موقع آخر حسبما يرد به أبو الأسود الدؤلي: (لما ظهر علي (عليه السلام) يوم الجمل، دخل بيت المال بالبصرة في ناس من المهاجرين والأنصار، وأنا معهم، فلما رأى كثرة ما فيه، قال: غرّي غيري، مراراً، ثم نظر إلى المال، وصعد فيه بصره وصوب وقال: اقسموه بين أصحابي خمسمائة خمسمائة، فقسم بينهم، فلا والذي بعث محمداً بالحق ما نقص درهماً ولا زاد درهماً، كأنه كان يعرف مبلغه ومقداره، وكان ستة آلاف ألف درهم، والناس اثنا عشر ألفاً.
وروى حبة العرني قال: قسم علي (عليه السلام) بيت مال البصرة على أصحابه خمسمائة خمسمائة، وأخذ خمسمائة درهم كواحد منهم، فجاءه إنسان لم يحضر الوقعة، فقال: يا أمير المؤمنين كنت شاهداً معك بقلبي، وإن غاب عنك جسمي، فأعطني من الفيء شيئاً، فدفع إليه الذي أخذه لنفسه، وهو خمسمائة درهم ولم يصب من الفيء شيئا)(40).
وذلك كله على العكس من سياسة الذين سبقوه، أما عثمان فأمره أشهر من أن يذكر(41)، وأما ابن الخطاب فقد (قرر أن لا يجعل من قاتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) كمن قاتل معه، فصنّف الناس حسب أدوارهم، فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وحاجته في الإسلام، وكانت العطاءات التي أقرها تتباين بين (2000-5000) درهم سنوياً(42).
وقيل: إنه عزم على تغيير سياسة التمييز في أواخر خلافته، حيث ظهر أن التفاوت في العطاء، قد أدى إلى ظهور طبقة من الأغنياء والمترفين في المجتمع الإسلامي، فقد روى أبو يوسف في كتاب الخراج، أن عمر بن الخطاب لما رأى أن المال قد كثر قال: (لو عشت إلى هذه الليلة من قبل (أي من العام القادم) لألحقن آخر الناس بأذلهم حتى يكونوا في العطاء سواء) ولكنه توفي قبل أن ينفذ ما عزم عليه(43))(44).
عدم محاباة الأقرباء
ومن أروع الصور التي تجسد العدالة الاقتصادية في حكومة الإمام (عليه السلام) والتي تجلت في صيغة المساواة بين أقرباء الحاكم وسائر الناس في الحقوق، أنه (قدم عليه أخوه عقيل بن أبي طالب، من المدينة، فقال له علي (عليه السلام): مرحباً بك وأهلاً، ما أقدمك يا أخي؟
قال: تأخّر العطاء عنّا وغلاء السّعر ببلدنا، وركبني دَين عظيم، فجئت لتصلني.
فقال الإمام (عليه السلام): واللَّه ما لي ممّا ترى شيئاً إلّا عطائي، فإذا خرج فهو لك.
فقال عقيل: وإنّما شخوصي من الحجاز إليك من أجل عطائك؟ وماذا يبلغ منّي عطاؤك؟ وما يدفع من حاجتي؟
فقال الإمام (عليه السلام): هل تعلم لي مالاً غيره؟ أم تريد أن يحرقني اللَّه في نار جهنّم في صلتك بأموال المسلمين؟ وما بقي من نفقتنا في ينبع غير دارهم مضرورة، والله يا أخي إني لأستحي من الله أن يكون ذنب أعظم من عفوي، أو جهل أعظم من حلمي، أو عورة لا يواريها ستري، أو خلة لا يسدها جودي.
فلما ألح عقيل عليه، قال لرجل: خذ بيد أخي عقيل وانطلق به إلى حوانيت أهل السوق، فقل له، دق هذه الأقفال وخذ ما في هذه الحوانيت، فقال عقيل: أتريد أن تتخذني سارقاً؟
قال الإمام: وأنت تريد ان تتخذني سارقاً؟ أن آخذ من أموال المسلمين فأعطيكها دونهم)(45).
وأما نص الرواية بحسب نهج البلاغة فهي: (… فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ، أَتَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَلَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى)(46).
وفي قضية أخرى قال خالد بن معمر الاوسي لعلباء بن الهيثم، وكان من أصحاب الإمام (عليه السلام): (اتق الله يا علباء في عشيرتك، وانظر لنفسك ولرحمك، ماذا تؤمل عند رجل أردته على أن يزيد في عطاء الحسن والحسين دريهمات يسيرة ريثما يرأيان بها ظلف عيشهما، فأبى وغضب فلم يفعل)(47).
الإنصاف
9 ـ الإنصاف، وهو منطلق من المنطلقات، إذ يقول (عليه السلام): (أَنْصِفِ اللَّهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ)(48)، وبذلك يلغي الإمام (عليه السلام) مختلف أنواع المحاباة في المناقصات وفي المنازعات وفي مختلف القرارات، وقال (عليه السلام): (زَكَاةُ الْقُدْرَةِ الْإِنْصَافُ)(49)، بل قال (عليه السلام): (إنَّ مِن العَدلِ أن تُنصِفَ في الحُكمِ وتَجتَنِبَ الظُّلمَ)(50)، وقال (عليه السلام): (عامِلْ سائِرَ النَّاسِ بِالْانْصافِ وَعامِلِ الْمُؤْمِنينَ بِالْايثارِ)(51) (52).
العفو كأصل عام
10 ـ العفو والصفح، وهو مقوّم من مقوِّمات التنمية، قال (عليه السلام): (الْعَفْوُ زَكَاةُ الْقُدْرَةِ)(53)، والزكاة تعني النمو والزيادة والطهارة أيضاً، وقال (عليه السلام): (الْعَفْوُ يُوجِبُ الْمَجْدَ [الْحَمْدَ])(54)، فمن الضروري اتخاذ العفو والصفح منهجاً في تعامل الحكومة مع الناس، وفي ذلك يقول (عليه السلام): (فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ؛ وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَابْتَلَاكَ بِهِمْ)، ثم قال (عليه السلام): (وَلَا تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ وَلَا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ)(55).
وكذلك الأمر في تعامل مدراء الشركات والمؤسسات والمصانع والمعامل مع الموظفين والعمال، وقال (عليه السلام): (الْعَفْوُ زَيْنُ الْقُدْرَةِ)(56)، وقال (عليه السلام): (شَيئَانِ لا يُوزَنُ ثَوابُهُما، الْعَفْوُ وَالْعَدْلُ)(57).
التشاور مع العلماء والخبراء والعامة
11 ـ اتخاذ المشورة:
وذلك على عدة مستويات:
أولاً: مع العلماء والحكماء، كمنهج وطريق لاستكشاف وجوه مصالح البلاد والعباد، وكسبيل لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وهو منطلق ومقوّم، إذ يقول (عليه السلام): (وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ، وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ، فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلَادِكَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ؛ “فَإِنَّ ذلِكَ يُحِقُّ الحَقَّ ويَدفَعُ الباطِلَ، ويُكتَفى بِهِ دَليلاً ومِثالاً”)(58)(59)، وذلك لأن التنمية عملية مستمرة متواصلة مستدامة تحتاج إلى تثبيت ما كان منها صالحاً، وإقامة ما كان منها نافعاً، وإحقاق ما كان منها حقاً، وإبطال ما كان منها باطلاً، ولا يمكن ذلك إلا عبر الإكثار من مدارسة العلماء والخبراء ومناقشة ذوي الحِجى والحكماء.
ثانياً: مع الخبراء الميدانيين وذوي التجربة، إذ يقول (عليه السلام): (“فَاجمَع إلَيكَ أهلَ الخَراجِ مِن كُلِّ بُلدانِكَ، ومُرهُم فَليُعلِموكَ حالَ بِلادِهِم، وما فيهِ صَلاحُهُم ورَخاءَ جِبايَتِهِم، ثُمَّ سَل عَمّا يَرفَعُ إلَيكَ أهلُ العِلمِ بِهِ مِن غَيرِهِم”)(60).
ثالثاً: ومع عامة الناس أيضاً، إذ يقول (عليه السلام): (فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ، أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ، وَلَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي، إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي)(61)، وبذلك يحدد الإمام (عليه السلام) إحدى أهم القواعد التي تهندس كعلاقة الحاكم بالمحكوم، وهو أن لا يترفّع عن النقد، ولا يأنف عن الاعتراف بالخطأ، ثم تصحيح المسار، بل الظاهر أنّ ذلك يشكّل حقاً من حقوق الناس على الحاكم، ومن حقوق الحاكم على الناس.
والظاهر أنّ إطلاق كلام الإمام (عليه السلام) يؤسس لحرية الصحافة والإعلام في نقد المسؤولين والحكام، كما يؤكد كلامه (عليه السلام) المسؤولية في إسداء النصح لهم، والقول بالحق وإن كان مذاقه مرّاً عليهم.
وقال (عليه السلام): (وَقَدْ خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ)(62)، و: (مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، وَمَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا)(63)، فالاستبداد هو العدو الأول للتنمية بأنواعها: الاقتصادية، البشرية، البيئية… على العكس من المشورة فإنه (لَا مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ)(64)، و: (وَالِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ)(65)(66).
وعن مقومات المستشار وصفاته يقول (عليه السلام): (وَلَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ، وَلَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ؛ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ)(67).
وهذه الثلاثة (البخل والجبن والحرص) تشكل أخطر ثلاثي على التنمية الاقتصادية والبشرية فيما إذا اتصفّ بأحدها حكام البلاد ووزراء التخطيط والمالية والتجارة والاقتصاد وحاكم البنك المركزي، أو رؤساء الشركات والأحزاب والعشائر وغيرها(68).
ولذلك فإن من الواجب التدقيق في السيرة الذاتية لأي مرشح لأي موقعٍ مسؤولٍ، حتى يطمأن العامة إلى نزاهته عن الثلاثي المشؤوم: الحرص والجبن والبخل(69).
اختيار أشرف القضاة
12ـ اختيار أكثر الناس نزاهةً، وأفضل الناس علماً وحلماً وورعاً وسخاءً و… وتعيينهم حكاماً وقضاة بين الناس، وهو منطلق ومقوّم من أهم مقومات التنمية، إذ يقول (عليه السلام): (فَاختَر لِلحُكمِ بَينَ النّاسِ أفضَلَ رَعِيَّتِكَ في نَفسِكَ، “وأنفُسِهِم لِلعِلمِ وَالحِلمِ وَالوَرَعِ وَالسَّخاءِ”، مِمَّن لا تَضيقُ بِهِ الاُمورُ، ولا يُمَحِّكُهُ الخُصومُ، ولا يَتَمادى فِي “إِثْبَاتِ” الزَّلَّةِ، ولا يَحصَرُ مِنَ الفَيءِ إلَى الحَقِّ إذا عَرَفَهُ، ولا تُشرِفُ نَفسُهُ عَلى طَمَعٍ، “وَلا يَدخُلُهُ إعْجَابٌ”، ولا يَكتَفي بِأَدنى فَهمٍ دونَ أقصاهُ.
أوقَفَهُم فِي الشُّبهاتِ، وآخَذَهُم بِالحُجَجِ، وأقَلَّهُم تَبَرُّماً بِمُراجَعَةِ الخَصمِ، وأصبَرَهُم عَلى تَكَشُّفِ الاُمورِ، وأصرَمَهُم عِندَ اتِّضاحِ الحُكمِ؛ مِمَّن لا يَزدَهيهِ إطراءٌ، ولا يَستَميلُهُ إغراءٌ، “ولا يَصغى لِلتَّبليغِ بأنْ يُقَال: قَالَ فُلانٌ، وقَالَ فُلانٌ).
والغريب أنه (عليه السلام) يشترط في الحكام القضاة صفات تجعلهم أقرب إلى الملائكة، فهذه هي خصيصة الحكومة الإسلامية، وإلا فلا!.
تعيين أفضل المسؤولين
13ـ اختيار الولاة والحكام على ضوء مجموعة من المقاييس / المواصفات المثالية، وذلك مع اختبارهم في مؤهلاتهم ومدى امتلاكهم الكفاءة العلمية والتجربة العملية، ومنح دور أساسي للخبراء الممارسين/ التطبيقيين ذوي التجربة الكافية في الإدارة، وذلك يعدّ من أهم منطلقات ومقومات التنمية وآلياتها، إذ يقول (عليه السلام) عن الاختبار والامتحان: (ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلَا تُوَلِّهِمْ “أَمُورَكَ” مُحَابَاةً وَأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَ الْخِيَانَةِ “لله، وإدخالُ الضَّرَرِ عَلَى النّاسِ، ولَيسَت تَصلُحُ الاُمورُ بِالإِدغالِ)(70)، وذلك يعني أن السيرة الذاتية لا تكفي، بل لا بد من التجربة العملية والاختبار والامتحان أيضاً.
ويقول عن صفاتهم الفضلى التي بها ينبغي أن يتحلوا: (فَاصطَفِ لِوِلايَةِ أعمالِكَ أهلَ الفِقْهِ والوَرَعِ وَالعِلمِ وَالسِّياسَةِ”، وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَيَاءِ، مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَدَمِ فِي الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلَاقاً، وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً، وَأَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً، وَأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ نَظَراً)(71).
وفي مقابل ذلك، فإن توزيع المناصب لاعتبارات شخصية ولأجل حب هذا وذاك أو كونه من الأقرباء، ظلم لله تعالى وخيانة للأمة وللأمانة.
وعلى المستوى العملي والفعلي نجده (صلوات الله عليه) يجسد بشخصه الكريم أروع نماذج النزاهة والزهد والورع والإيثار فضلاً عن تصفير الأثرة والطمع، إذ يقول (عليه السلام): (وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ، وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى)(72).
الأولوية للإعمار، والتضحية بالضرائب
14ـ منح الأولوية لإعمار البلاد، والتضحية بالضرائب لصالح العمران، حتى وإن أضرّ ذلك بالميزانية العامة وأدى إلى عجز في الميزانية، دون العكس، لأنه ضرر وعجز مؤقت، والإعمارُ نفعٌ وربحٌ استراتيجي، وهو أكبر استثمار، وهو منطلق ومقوّم أساسي في عملية التنمية، إذ يقول (عليه السلام): (وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلَابِ الْخَرَاجِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلَادَ وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلَّا قَلِيلًا)(73).
ومن أهم الطرق إلى ذلك اتخاذ سياسة مالية توسعية تستهدف التنمية المستدامة وإصلاح القطاع الزراعي، حيث قال (عليه السلام): (“وإن سَأَلوا مَعونَةً عَلى إصلاحِ ما يَقدِرونَ عَلَيهِ بأموالِهِم، فَاكفِهِم مَؤونَتَهُ؛ فَإِنَّ في عاقِبَةِ كِفايَتِكَ إيّاهُم صَلاحاً، إِنْ شَاءَ الله”.
ثم يصرح (عليه السلام) بأن في ذلك ذخراً وربحاً استراتيجياً، وأن مردوداته المادية والاعتبارية والمعنوية والدينية، أكبر بكثير:
(وَلا يَثقُلَنَّ عَلَيكَ شَيءٌ خَفَّفتَ بِهِ عَنهُمُ؛ فَإِنَّهُ ذُخرٌ يَعودونَ بِهِ عَلَيكَ في عِمارَةِ بِلادِكَ، وتَزيينِ وِلايَتِكَ، مَعَ “اقتِنائِكَ مَوَدَّتَهُم و” اسْتِجْلابِكَ حُسنَ نِيّاتِهِم، وَتَبَجُّحِكَ بِاستِفاضَةِ العَدْلِ “والخَيرِ” فيهِمْ، “وما يُسَهِّلُ اللّهُ بِهِ مِن جَلبِهِم)(74).