التنمية في عصر الأزمة المتعددة

تصاحب النظرة الاستعمارية إلى العالَـم هذه العقلية الميكانيكية. وبرغم أن المستعمرات الرسمية لم يعد لها وجود، فقد نشأت المؤسسات العالمية في عصر شهد وجودها. كان القرن العشرين فترة من الهيمنة الغربية، حيث مارس الرجال الأميركيون والأوروبيون قوة احتكارية في تصميم قواعد النظام العالمي وإملاء القواعد الفكرية. وكان الافتراض…

بقلم: يوين يوين أنج

واشنطن، العاصمة- أصبح مصطلح “الأزمة المتعددة” العبارة الشائعة في عشرينيات القرن الحادي والعشرين. وهو يشير إلى الطبيعة المترابطة التي تتسم بها التهديدات التي تواجه البشرية اليوم، من الانحباس الحراري الكوكبي، والجوائح الـمَـرَضية، والتفاوت الشديد إلى تآكل الديمقراطية والصراع المسلح. وفي ظل قلة الحلول المعروضة، تفاعل الخبراء وصناع السياسات مع التقاء الأزمات على هذا النحو بالخوف والتهلكة.

تتمثل استجابة معتادة في العويل والشكوى من مشكلاتنا العديدة، ورسم مخططات خيالية تصور كيف من الممكن أن ينهار العالم، والتوصل إلى استنتاج غامض مفاده أن الهدف ليس تقديم منظور مصيري على الرغم من التنبؤات “بـمستقبل رهيب”.

لا يشك إلا قِـلة من الناس في أن العالم المرتبك يحتاج إلى تغييرات جهازية، ومع ذلك، في الممارسة العملية، تكافئ المؤسسات والجهات المانحة النخبوية الحلول الجزئية. في عام 2019، ذهبت جائزة نوبل في الاقتصاد إلى ثلاثة من علماء الاقتصاد لطريقتهم في تفكيك الفقر العالمي إلى مشكلات “أصغر وأكثر قابلية للإدارة” ومن الممكن معالجتها بتدخل صغير واحد في كل مرة.

السبب الذي يجعل المحادثات الدائرة حول الأزمة المتعددة تبدو دائما وكأنها تصل إلى طريق مسدود واضح وبسيط: فهي تفشل في إدراك النموذج الصناعي الاستعماري الذي أفضى إلى أزماتنا في المقام الأول.

في تحذيره من الأزمة المتعددة، أدرج المنتدى الاقتصادي العالمي “المخاطر العشرة الأولى” التي تقض مضاجع نُـخَـب العالم الغني. يعزز هذا التأطير العقلية الصناعية القائمة على “المجازفة” (مشكلة محتملة في المستقبل) والسيطرة. لكننا نواجه حالة من انعدام اليقين (احتمالات مجهولة، قد تكون جيدة أو سيئة) ــ وهو مفهوم مختلف عن المجازفة ــ والذي ينبغي أن يحفز التكيف والتعلم.

على نحو مماثل، ونظرا للطبيعة النخبوية التي تدور حول الغرب والتي يتسم بها الرأي التقليدي الناتج عن هذه العقلية، لا يستطيع المؤيدون أن يتخيلوا حلولا ناشئة من غير النخب ومن أماكن خارج أوروبا وأميركا الشمالية. الصين تقود العالم في مجال الطاقة المتجددة. وشركات أفريقية “تُـبدِع تحت الرادار” بموارد محدودة. ويوضح الناشطون من السكان الأصليين السبل لعلاج الأنظمة البيئية والاجتماعية المتضررة من خلال الاستعاضة عن منطق الرأسمالية الاستخراجية بقيمة المعاملة بالمثل.

في الـفِـكر التنموي التقليدي، يُنظَر إلى الفترة التي بدأت بالثورة الصناعية في إنجلترا باعتبارها عصر التقدم ــ العصر الذي رفع مليارات البشر إلى مستويات معيشة لم يكن من الممكن تصورها من قبل. ولكن على الرغم من كل الإنجازات الجديرة بالثناء التي حققتها العلوم والتكنولوجيات الحديثة، يجب أن يكون “التقدم” مؤهلا. فنحن في نهاية المطاف ورثة عصر الهيمنة، الذي يتميز بالتصنيع (هيمنة الإنسان على الطبيعة) والاستعمار (هيمنة الغرب على كل شيء آخر).

تغرس الأزمة المتعددة الخوف في النخب العالمية لأنها تكشف عن حدود القوتين، والنماذج العقلية الكامنة من ورائهما. فقد روج التصنيع لنظرة ميكانيكية إلى العالَـم، أو ما أطلقت عليه إستر دوفلو، وهي واحدة من الحائزين على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد لعام 2019، وصف “فِـكر الوضع الآلي”. من هذا المنظور، تلقى حتى الأنظمة الطبيعية والاجتماعية المعقدة الديناميكية معاملة الأشياء الميكانيكية (مثل محمصة الخبز)، وهذا يعني ضمنا أن النتائج يمكن تحديدها ببساطة من خلال إيجاد “الزر الذي سيبدأ تشغيل الآلة” ــ السبب الجذري المنفرد وراء المشكلة. ويُـنـظَـر إلى الصفات التكيفية المتعددة السببية المتأصلة في الأنظمة المعقدة (مثل الغابات) على أنها مضاعفات مزعجة يجب التخلص منها.

عندما جرى تطبيق فِـكر الوضع الآلي على الزراعة، أفضى ذلك إلى زيادة الإنتاج من خلال التوحيد والكفاءة؛ ولكن في الأمد البعيد، تسببت خسارة التنوع البيولوجي والإفراط في استخدام المواد الكيميائية الضارة في إحداث أضرار بيئية شديدة، بما في ذلك “موت الغابات” المنتشر الذي يعمل على تسريع وتيرة الانحباس الحراري الكوكبي. الواقع أن أزمة المناخ هي التذكير النهائي بأن البشر لا يمكنهم اختزال الطبيعة في نماذج ميكانيكية تبسيطية.

تصاحب النظرة الاستعمارية إلى العالَـم هذه العقلية الميكانيكية. وبرغم أن المستعمرات الرسمية لم يعد لها وجود، فقد نشأت المؤسسات العالمية في عصر شهد وجودها. كان القرن العشرين فترة من الهيمنة الغربية، حيث مارس الرجال الأميركيون والأوروبيون قوة احتكارية في تصميم قواعد النظام العالمي وإملاء القواعد الفكرية. وكان الافتراض المحفز في دوائر التنمية هو أن الديمقراطيات الرأسمالية الغربية تجسد نقطة نهاية التطور البشري، وأن بقية العالم ما عليه سوى محاولة “اللحاق” والاستيعاب.

جرى تنظيم هذا الاستيعاب من خلال إصلاحات “الحكم الرشيد” التي تناسب الجميع والتي تقدمت بها المنظمات الدولية بقيادة الغرب مثل البنك الدولي. ولكن كما أفضت مُـجانَـسة الغابات من خلال الزراعة الصناعية إلى تدمير تنوعها وقدرتها على الصمود، يلاحظ الخبير الاقتصادي لانت بريتشيت وعالم الاجتماع مايكل وولكوك أن “مُـحاكاة أشكال تنظيمية تخص الدنمارك بعينها على سبيل المثال (و/أو التبني من خلال الميراث الاستعماري) كان في الواقع السبب الجذري وراء المشكلات العميقة التي تواجهها البلدان النامية”.

أنا شخصيا أرى ثلاث فرص للفِـكر الجديد والبحث والعمل. أولا، ينبغي لنا أن نستعيض عن فِـكر الوضع الآلي بنموذج “الاقتصاد السياسي التكيفي”. يعترف هذا النهج بحقيقة أساسية: فالعالمان الطبيعي والاجتماعي لا يتألفان من أشياء معقدة (مثل محمصات الخبز)، بل أنظمة معقدة (مثل الغابات). تتكون الأنظمة المعقدة من أجزاء عديدة متحركة تتكيف على نحو مستمر، وتتعلم، وتتصل ببعضها بعضا في سياق نظام ناشئ أكبر. وفرض نماذج ميكانيكية على مثل هذه الأنظمة مضلل، إن لم يكن مدمرا.

من الممكن أن تساعدنا دراسة كيفية عمل الأنظمة المعقدة، وخاصة في الجنوب العالمي، في استخلاص رؤى وحلول جديدة في عالم مشوه بسبب تقديس الآلة وروايات مخلخلة حول النمو الغربي. وقد وَجَـدَ عملي الخاص في دراسة التنمية الاقتصادية كعملية غير خطية (تطورية مشتركة) في الصين ونيجيريا أن المؤسسات المناسبة لمرحلة مبكرة من التنمية تبدو وتعمل بشكل مختلف عن تلك المناسبة للاقتصادات الناضجة. وبوسع الناس أن يعيدوا توظيف المؤسسات “الضعيفة” من الناحية المعيارية لبناء أسواق جديدة، ولكن فقط إذا لم تكن حبيسة النموذج الواحد الذي يناسب الجميع الذي يحتفي به التيار الاقتصادي السائد.

ثانيا، يجب أن يتضمن النموذج التكيفي بعدا شاملا وأخلاقيا. وهذا يعني استبدال منطق الاستيعاب الاستعماري بالشعار البليغ: “استخدم ما لديك”. كل يوم في البلدان النامية، يرتجل الناس ويستخدمون على نحو مبدع كل ما هو متاح لهم لحل المشكلات. نجح المزارع أبا هاوي في إلهام حركة اجتماعية جديدة في إثيوبيا عندما أحيا تقنيات الحفاظ التقليدية لتجديد الأرض. على نحو مماثل، كانت التنمية في الصين منذ ثمانينيات القرن العشرين نتيجة “ارتجال موجه”، وليس التخطيط من أعلى إلى أسفل (الذي فشل بشكل بائس في عهد ماو).

ثالثا، بدلا من التذبذب بين النقيضين من الأسواق غير المقيدة واقتصادات القيادة والسيطرة، ينبغي للحكومات في القرن الحادي والعشرين أن توجه العمليات التكيفية. وهذا يستلزم تنسيق وتحفيز شبكة لامركزية من القوى الفاعلة، واكتشاف النتائج الناجحة ولكن ليس تحديدها مسبقا، والاستفادة إلى أقصى درجة من التجريب والمردود من القاعدة إلى القمة ــ تدابير تتجاوز نطاق السياسات الصناعية التقليدية.

إن الأزمة المتعددة لا تصيب بالشلل إلا أولئك الذين يتشبثون بالنظام القديم. أما أولئك الذين لا يتشبثون به، فإنها تقدم لهم ما أسميه “الوحدة المتعددة” التي من شأنها أن تبشر بنماذج جديدة تُـبـطِـل الطريقة التي نفكر بها في عملية التنمية، ومصادر الحلول، ودور الدولة.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M