تصحيح العقيدة العسكرية: هكذا تُحضِّر إيران وإسرائيل للحرب المقبلة بينهما

  • تشير الدلائل إلى أن مساعي الجانبين الإيراني والإسرائيلي لتصحيح عقيدتهما العسكرية في هذه الآونة، لا يجري من منطلق تعزيز الرّدع الاستراتيجي، بمقدار ما يعني الاستعداد للجولة المقبلة من المواجهة العسكرية المحتومة والوشيكة الوقوع بينهما.
  • تتمحور الاستعدادات في إيران وإسرائيل للمواجهة المقبلة، حول “تصحيح المسار العسكري”؛ إذ كرَّس الوعي العسكري الذي تشكّل في إيران بعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل، أهميّة السّطوة الصاروخية، وضرورة الاحتفاظ بها، وتنميتها. فيما ركَّزت إسرائيل دعم مخزونها من الصواريخ المستخدمة في منظومات الدفاع الجوي، وتسريع عمليّة التزوُّد بالدفاعات الجوية الليزرية.

 

تكشِفُ مُتابعة التطوُّرات على السّاحتين الإيرانية والإسرائيلية أنّ كِلا الجانبين يستعدّان لاستئناف المواجهة العسكرية بينهما. وتتركّزُ جهود الجانبين في فترة ما بعد حرب الاثني عشر يوماً على الإخلال بنقاط التّفوُّق التي حقّق الجانب الآخر من طريقها إنجازاته في تلك المواجهة. إذْ تبذل إيران جهوداً حثيثة لكسر الهيمنة الإسرائيلية على الأجواء الإيرانية. وفي المقابل، تسعى إسرائيل إلى استكمال حلقات دفاعاتها الجوية، وسدّ ثغراتها، وتعزيزها بأنظمة دفاع ليزرية، تُمكّنها من إيجاد توازنٍ أكبر في وجه الصواريخ الانشطارية والصواريخ فرط الصوتية القادمة من إيران، والتي حقّقت إصابات مُؤثّرة في العمق الإسرائيلي، خصوصاً في الأيام الأخيرة من حرب الاثني عشر يوماً.

 

مُناورات “الحرس الثوري” الصاروخيّة: خطوة أخرى لتحسين الجاهزيّة العسكرية

أجرى الحرس الثوري الإيراني في 4 ديسمبر 2025، مُناوراتٍ عسكريّة واسعة، ركّزت على قطاع الصواريخ؛ إذْ أعلنت الصحافة الإيرانية إطلاق مئات من الصّواريخ الباليستيّة والصواريخ الجوالة (كروز)، ومن ضمنها صاروخ 303 الذي لم تُعلن عن مواصفاته الدقيقة بعدُ، وصاروخ “كروز” بلغ مداه 1350 كيلومتراً.

 

ويمكنُ اعتبارُ هذه المناورات العسكرية ذات التوجه الصاروخي حدثاً يحمل دلالات جيوعسكرية لمنطقة الخليج، خصوصاً إذا أخذنا بالحسبان أنّها جاءت في خضمّ تجدُّد السّجال حول الجُزر الإماراتية المحتلة الثلاثة التي تُسيطر عليها إيران. إذْ أُجريت المناورات غداة البيان الصّريح الذي أصدره مجلس التعاون لدول الخليج العربية مُؤخراً، وأكّد فيه حق دولة الإمارات في الجُزر المحتلّة الثلاث، مُخيراً إيران بين الاعتراف بهذا الحق، أو إعادة الملف إلى المراجع القانونية الدولية. وهو ما أثار حفيظة الجانب الإيراني الذي ألمح إلى استعداده لفرض الأمر الواقع عبر منطق القوة.

 

غير أنّنا إنْ أخذنا الصورة الكبرى بالحسبان، وما انطوت عليه الشهور الأخيرة من تحوُّلات على المستوى الإقليمي، يمُكن أنْ نضع هذه المناورات في سياقٍ أكثر شمولاً، أيْ ضمن الاستعدادات التي تُجريها المؤسسة العسكرية الإيرانية للمواجهة العسكرية المحتملة مع إسرائيل. خصوصاً إذا عرفنا أنّ المؤسسة العسكرية في إيران سبق وأجرت مناورتَيْن عسكريتَيْن في الصيف الماضي، ركّزتا بشكل واضح أيضاً على قطاع الصواريخ؛ ما يُبيّن أنّ الجانب الإيراني – شأنه شأن الجانب الإسرائيلي – يواصلُ اتّخاذ خطواتٍ ميدانية لإثبات جاهزيته لاستئناف المواجهة العسكرية التي تؤكّد بعض المصادر أنّها حدثٌ لا مناصَ منه في المستقبل بين البلدين اللذَيْن يعتبرُ كلٌّ منهما الآخر تهديداً وجوديّاً. لكنّ هذه المناورات المُتكرّرة، وعلى رغم أهميتها، ليست التطوُّر الأهم ضمن مسار الجاهزية التي تحاول طهران، وكذلك تل أبيب، سلكه؛ فقد بدأ على الجانبين، مسارٌ عامٌّ من “تعزيز البناء العسكري وتصحيحه”. ولعلّ مفهوم “التصحيح” في هذا المسار، هو الأكثر تعبيراً عن أولويّات الجانبين، والأولى بمتابعة المُراقبين الإقليميين.

 

ترتكز العقيدة العسكرية الإيرانية على تطوير ترسانة كبيرة من الصواريخ الباليستية محليّة الصُّنع (أ.ف.ب)

 

تصحيحُ العقيدة العسكرية: مساعي إيران وإسرائيل لتغطية نقاط الضعف

لن يكون مفهوم “تصحيح العقيدة العسكرية” واضحاً، إلّا إذا عُدنا إلى الدّلالات التي حملتها المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل في يونيو الماضي؛ فالمواجهة كانت أشبه باشتباك بين عقيدتَيْن عسكريّتَيْن طبّقتهما إيران وإسرائيل في الشّرق الأوسط:

 

  • فعلى الجانب الإسرائيلي، كانت العقيدة العسكرية تقليديّة، تُولي الأولوية القُصوى للهيمنة على الأجواء في تحقيق أهداف الحرب. وفي سياق هذه العقيدة، تزوّدت تل أبيب بأهمّ، المنتجات وأحدثها على صعيد سلاح الجوّ، في نفس الوقت الذي أعاقت تزويد الأطراف الإقليمية الأخرى بهذه الأسلحة، وبما ضمن لإسرائيل الحفاظ على التفوق الجوّي الكامل في منطقة الشرق الأوسط، والاستحواذ على أفضل التقنيّات، والطائرات الحربية. وعلى صعيد الصواريخ، قادت هذه العقيدة العسكرية إسرائيل إلى اختصار ترسانتها الصاروخية، واقتصارها على صواريخ باليستية تطلق من على الطائرات، فيما أهملت إلى حدٍّ كبير تطوير صواريخ أرض – أرض الباليستية.

 

  • وعلى الجانب الإيراني، ارتكزت العقيدة العسكرية على تطوير الترسانة الصاروخيّة بشكلٍ واضح. وذلك نتيجة القيود الدولية التي ظلّت مفروضةً عليها طوال العقود السابقة، والتي كانت تمنعُها من التزوُّد بالطائرات الحديثة. وقد أدّى تطبيق تلك العقيدة في إيران إلى تطوير ترسانة كبيرة من الصواريخ الباليستية محليّة الصُّنع، والتي باتت تعدُّ الأوسع والأكثر تنوعاً على صعيد الشرق الأوسط، كما يُعدُّ بعضُ أنواعها من الأفضل على الصّعيد العالمي.

 

وما غفِل أيٌّ من الجانبَيْن، تطويرَ قُدراتٍ عسكرية تُمكِّنهُ من التّصدي لنقطة التفوُّق التي يمتلكُها العدوُّ. فقد حاولت إسرائيل على مدى العقدين الماضيين، التزُّود بنظامٍ مُعقّد من الدّفاعات الصاروخيّة لمنحها الصُّمود في وجه التّرسانة الصاروخية الإيرانية، كما حاولت إيران التّزوُّد بأنظمة دفاع جوّي، وراداراتٍ، تُمكّنها من التّصدي للطيران المتطوّر القادم من إسرائيل أو الولايات المتّحدة.

 

تحاول إيران التخلُّص من نقاط الضّعف التي أدّت إلى خسارة أجوائها بالكامل في خلال حرب الاثني عشر يوماً مع إسرائيل (أ.ف.ب)

 

وأكّدت حرب الاثني عشر يوماً نجاح الجانبَيْن في استخدام نقطة تفوُّقهما. لكنّها أظهرت أنّ البدائل التي أعدّها الجانبان، لتحييد نقطة تفوُّق الجانب الآخر، أخفقت في تحقيق المهام. وكان هذا الإخفاق واضحاً على الجانب الإيراني منذُ بداية المواجهة؛ إذْ أصبحت أجواء إيران في خلال ساعاتٍ تحت رحمة الطيران الإسرائيلي. ولكن مع تقدُّم المواجهة، لم تكن الأمور أفضل حالاً على الجانب الإسرائيلي؛ إذ أخفقت منظومات الدفاع الجوّي الإسرائيلية في التصدي للصواريخ الإيرانية، خُصوصاً في الأيام الأخيرة من الحرب، حين استخدمت إيران صواريخها الأكثر تطوراً، ومنها الصواريخ “الفرط صوتية” والصواريح “ذات الرؤوس الانشطارية”، لتكون النتيجة نسبة أكبر من نجاح الصواريخ الإيرانية في بلوغ الأهداف في إسرائيل، والنّيل من أهدافٍ حسّاسة في العمق الإسرائلي.

 

وفي مرحلة ما بعد الحرب، يبدو أنّ الاستعدادات في إيران وإسرائيل، تتمحورُ حول “تصحيح المسار العسكري”؛ فالوعي العسكري الذي تشكّل في إيران بعد المواجهة العسكرية مع إسرائيل، كرّس أهميّة السّطوة الصاروخية، وضرورة الاحتفاظ بها، وتنميتها. لذلك شهدت الأيام التي تلت تلك المواجهة العسكرية، عمليّة مُتواصلة من جانب إيران، للتزُّود بالوقود الصّلب اللازم لإنتاج المزيد من الصواريخ الانشطارية، والصواريخ الفرط صوتية التي أظهرت المواجهة فاعليّتها. لكنّ النتيجة الأهمّ التي خلُص إليها الوعي العسكري الإيراني، هي التخلُّص من نقاط الضّعف التي أدّت إلى خسارة الأجواء الإيرانية بالكامل، نتيجة ضعف أنظمة الدفاع الجوي، وضعف أنظمة الرّادار، والتي أخفقت في كشف تقدُّم الطيران الإسرائيلي، وفي التصدّي له.

 

وفي إطار هذه الجهود حاولت طهران بشكلٍ حثيث، على مدى الأشهر الأربعة الماضية البحث عن خيارات للتزُّود بأسلحةٍ، تُمكِّنُها من استعادة الهيمنة على أجوائها. وفي هذا السياق، تحدّثت مصادر إيرانية ودولية عن تزوُّد طهران بأنظمة دفاع جوي صينية من طراز (HQ-9)، والتي يمكنها الاشتباك مع الطائرات المُتخفّية. ووردت تقارير غير مؤكدة، تُفيد بحصول إيران على نظام إس-400 الروسي للدفاع الجوي الذي تؤكّد المصادر أنّه قادرٌ على الاشتباک مع الطائرات التي تستخدم تقنيات التخفّي مثل طائرة إف-35.

 

وفيما أظهرت المُواجهة العسكريّة عَجْز أسرابِ الطائرات القديمة التي تمتلكُها إيران، عن خوض أيّة معارك لاستعادة الهيمنة الجوية في مواجهة طائرات إف-15 وإف-35 التي استخدمتها إسرائيل، فقد أكّدت مصادر إيرانية، وأُخرى دولية، حُصولَ إيران على طائراتٍ مُتطوّرة، قد تُمكّنها من استعادة بعض من التّوازن؛ إذ أوردت تلك المصادر أنباءً حول تزوُّد طهران بأسرابٍ من طائرة ميج-29 الروسية المزودة بتقنيات حديثة، وهو ما تؤكّده تطوراتٌ ميدانيّة تُظهِرُ استخدام القوات الجوية الإيرانية طائراتٍ من هذا الطراز في مهامّ مناوراتٍ وتدريب. وتشيرُ المصادر إلى نية إيران توقيع عُقودٍ مع الصين، لشراء طائراتٍ من طراز (J-10) من جيل 4.5، والتي أثبتت فاعليّة كبيرةً في المواجهة العسكرية بين باكستان والهند التي استخدمت طائرات غربيّة من الجيل الخامس.

 

تحاول إسرائيل ترميم مواطن ضعف منظومات دفاعها الجوّي، من طريق تسريع عمليّة التزوُّد بالدفاعات الجوية الليزرية (وكالات)

 

وحتى إذا افترضنا عدم صحّة كُلّ تلك الأنباء التي تروي تزوُّد إيران بهذه الأنواع من الأسلحة، سواءً على صعيد الدفاعات الجوية أو على صعيد قوة الطيران الحربي، فإن التركيز الإيراني على تطوير هذا النوع من العتاد العسكري، يُشيرُ إلى وعيٍ إيراني بضرورة رأب الصّدع، والقضاء على مواطن الضعف، بما يعني “تصحيح المسار العسكري” الذي كان مُتّبعاً في خلال العقدين الماضيين، والذي يُركّز إلى حدٍّ كبير على تطوير التّرسانة الصاروخيّة.

 

ويمكنُ ملاحظة مثل هذا الوعي بضرورة تصحيح المسار العسكري على الجانب الإسرائيلي أيضاً؛ إذْ ركّزت الخطوات الإسرائيلية في فترة ما بعد الحرب، على دعم المخزون الإسرائيلي من الصواريخ المستخدمة في أنظمة الدفاع الجوي، لتمكينها من مقاومة استراتيجية “إرهاق الدفاعات الجوية” التي انتهجتها طهران في خلال المواجهة الأخيرة. وسعت إسرائيل كذلك، نحو القضاء على مواطن الضّعف في منظومات الدفاع الجوّي، من طريق تسريع عمليّة التزوُّد بالدفاعات الجوية الليزرية.

 

استنتاجات: ترميمٌ للرّدع، أم تحضيرٌ للحرب المقبلة؟

في خلال الأشهر التي تلت حرب الاثني عشر يوماً، حاول كُلٌّ من إيران وإسرائيل، التركيز على “زعزعة نقطة التفوُّق التي يمتلكها العدوّ”، ولكنْ من دون تجاهل “تعزيز نقاط التفوُّق الذاتية”. وهو ما يعني على الجانب الإيراني على الأقلّ، تصحيحُ العقيدة العسكرية التقليدية التي جرى تطبيقها على مدار العقدين الماضيين، وذلك عبر التركيز على التزوُّد بالطائرات الحديثة، وأنظمة الدفاع الجوي المتطورة، بعد أنْ كانت العقيدة السابقة تُركّز على تطوير الترسانة الصاروخية، ولم تُركّز بالمقدار ذاته على مجال الطيران، وأنظمة الدفاع الجوي ذات الفاعليّة الميدانيّة.

 

وثمّة قناعة في طهران بأنّ تصحيح العقيدة العسكرية سيعزز “نظام الرّدع الاستراتيجي” لدى إيران على المدى الطّويل، إلّا أنّ تصحيح العقيدة العسكرية في هذه الآونة، سواءً على الجانب الإيراني أو على الجانب الإسرائيلي، لا يجري من منطلق تعزيز الرّدع، بمقدار ما يعني الاستعداد للجولة المقبلة من المواجهة العسكرية التي يراها الجانب الإسرائيلي ضروريّة للبقاء، ويراها الجانب الإيراني حدثاً وشيكاً، ويراها المراقبون الدوليون جُزءاً منطقيّاً من المواجهة الوجودية بين طهران وتل أبيب.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M