- تُقدِّم خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الجديدة للسلام في أوكرانيا مكاسب كثيرة لروسيا، وبخاصة على صعيد حيازة الأراضي الأوكرانية، ومراعاة الهواجس الروسية بخصوص عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو ووضع حدٍ أقصى لحجم القوات المسلحة الأوكرانية، إلى جانب رفع العقوبات عن روسيا وإعادة دمجها بالاقتصاد العالمي.
- يجد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نفسه في موقف صعب، فهو يحاول الظهور بمظهر الداعم لترمب من دون الموافقة على الخطة، سيما أن قواته تواجه صعوبات على الجبهة تزيد من تعقيد موقعه التفاوضي. ولذا يسعى زيلينسكي إلى إقناع إدارة ترمب بتعديل الخطة فيما يتعلق بوضع الأراضي وخطوط الانسحاب والتمركز وطبيعة الضمانات الأمنية التي ستمنحها الولايات المتحدة لأوكرانيا مستقبلاً.
- تشعر أوروبا بفداحة الخطة الأمريكية، وبدلاً من التصريح برفضها قدَّمت تعديلات جوهرية على الخطة، والتي تُظهر هواجس أوروبا بشأن مرحلة ما بعد الحرب، إذ يحاول الأوروبيون عبر رفض تحديد قدرات أوكرانيا العسكرية والتأكيد على التعهدات الروسية ورفض القيود على توسع الناتو، كبح أي طموحات روسية مستقبلية للتوسع شرق أوروبا.
- في ضوء علاقات القوة الراهنة بين جميع الأطراف، فإن السيناريو الأكثر توقعاً هو أن تفرض إدارة ترمب المتحدة ضغوطاً حادة على كييف ومقايضة دعمها العسكري في ذلك، مع القبول بإدخال تعديلات أوروبية غير جوهرية على الخطة الأمريكية.
في 19 نوفمبر 2025 كُشف عن بنود الخطة الأمريكية الجديدة للسلام في أوكرانيا، والمكونة من 28 بنداً، تُغطي مسائل وقف إطلاق النار والنزاع الإقليمي والترتيبات الأمنية ما بعد الحرب، فضلاً عن صياغة جديدةٍ للأمن الأوروبي والعلاقة مع روسيا. ومع أن الخطة يمكن أن تكون فرصة للجانب الأوكراني، في ظرفٍ صعبٍ يعيشه مع الخسائر على الجبهة والمشكلات التي تشق إدارة الرئيس فولوديمير زيلينسكي، إلا أن كييف وبقية الدول الأوروبية وجدوا فيها تهديداً سياسياً وأمنياً يؤسس لواقعٍ جيوسياسي جديد في القارة، لذلك تسعى أوروبا لمواجهة خطة ترمب عبر تقديم خطة مضادة.
تسعى هذه الورقة إلى تحليل خطة ترمب الجديدة للسلام في أوكرانيا من وجهة النظر الأوروبية، ورصد تداعياتها، وتحليل الخطة الأوروبية المضادة وما يمكن أن تواجه به أوروبا ترمب من أوراق.
خطة ترمب والمواقف تجاهها
تندرج خطة ترمب الجديدة في أوكرانيا ضمن المنطق نفسه الذي وضعه الرئيس الأمريكي منذ عودته إلى السلطة مطلع العام الحالي، والذي يقوم على فكرة أن تسوية الحرب يجب أن تتم بشكل ثنائي بين روسيا والولايات المتحدة، وهو ما عبّر عنه من طريق كسر الجمود والتواصل المباشر مع الرئيس الروسي بعد أيام من تنصيبه، كما عبّر عنه بشكل أكثر وضوحاً نائبه جي دي فانس، في خلال خطابه أمام مؤتمر ميونيخ للأمن، في 14 فبراير، عندما أشار إلى أن أوروبا لن تكون قادرة على إبداء رأيها في المناقشات حول مستقبل أوكرانيا، فضلاً عن قمة ألاسكا بين بوتين وترمب في أغسطس الماضي، والتي أكدت على النهج الثنائي للحل الذي يريده ترمب، والذي يُقصي أوروبا وأوكرانيا عن أي محادثات. كما يقوم هذا المنطق أيضاً على رفض العودة إلى الوضع القائم قبل احتلال روسيا شبه جزيرة القرم في 2014. وقد أكد وزير الدفاع الأمريكي ذلك في خطابه في بروكسل في 12 فبراير، عندما أعلن بوضوحٍ أن كييف “لن تكون قادرة على استعادة حدودها قبل 2014”. وبالتالي فإن الخطة الجديدة صيغت بشكل ثنائي بين المبعوث الخاص للرئيس ترمب، ستيفن ويتكوف، ورئيس صندوق الثروة السيادي الروسي، كيريل دميترييف، أحد أكثر الساسة الروس المقربين من الرئيس بوتين، دون وجود مُمثلٍ لأوكرانيا أو أوروبا. كما تنطوي الخطة على بنودٍ تؤكد على عدم العودة إلى حدود ما قبل 2014، وتنطلق من وضع إقليمي يخضع لخطوط الجبهة العسكرية الحالية.
تُعد التنازلات الإقليمية المسألة الأكثر تعبيراً عن منطق ترمب في صياغة الحلّ، إذ تستند الخطة إلى الاعتراف بالوضع الراهن، واعتبار شبه جزيرة القرم وإقليمي لوهانسك ودونيتسك أراض روسية، بما في ذلك المناطق التي لا تزال تحت السيطرة الأوكرانية في إقليم دونيتسك. كما تنص الخطة على تجميد خطوط المواجهة الحالية في خيرسون وزاباروجيا، ما يعني اعترافاً فعلياً على طول خط التماس، وكذلك انسحاب القوات الأوكرانية من جزء من دونيتسك أوبلاست (حوالي 2500 ميل مربع)، والتي تعتبرها الخطة منطقة عازلة منزوعة السلاح ومحايدة، ومعترفاً بها دولياً على أنها تابعة لموسكو دون أن تدخلها القوات الروسية.
وبالمقارنة مع بيان إسطنبول لعام 2022، فإن الخطة الجديدة تُعطي لروسيا مكاسب أكبر، حيث أجّلت مسودة إسطنبول قضايا الأراضي بدلاً من تقنين السيطرة الروسية. وفي مقابل هذه التنازلات لا يقدم القسم المتعلق بالأمن المستقبلي سوى ضماناتٍ تبدو غامضة، حيث تطالب الخطة الأمريكية أوكرانيا بأن تكرّس في دستورها عدم الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأن يوافق الحلف على تضمين بند في قوانينه بعدم قبول أوكرانيا مستقبلاً، وهو ما يمثل خيبة أمل كبرى لأوكرانيا التي ترى في عضوية الناتو ضماناً لأمنها وهو ما يتعارض مع موقف الرئيس ترمب الذي أكد دائماً معارضته لعضوية كييف في الحلف. كما تشير الخطة إلى التزام “الناتو” بعدم نشر قوات في أوكرانيا، ووضع حدٍ أقصى لحجم القوات المسلحة الأوكرانية لا يتجاوز 600 ألف فرد، مع إشارة إلى أن أوكرانيا مؤهلة للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، وسوف تستفيد من الوصول التفضيلي قصير الأمد إلى السوق الأوروبية.
أما روسيا فستكسب إعادة إدماجها في الاقتصاد العالمي، مع رفع العقوبات على مراحل. كما ستدخل الولايات المتحدة في اتفاق تعاون اقتصادي طويل الأمد مع روسيا في مجالات الطاقة والموارد الطبيعية والذكاء الاصطناعي. وتقترح الخطة برنامجاً لاستخدام الأموال الروسية المجمدة، حيث يتم استثمار 100 مليار دولار من الأصول الروسية المجمدة في جهود تقودها الولايات المتحدة لإعادة بناء أوكرانيا. وتضيف أوروبا 100 مليار دولار أخرى لإعادة الإعمار، مع التزامٍ برفع التجميد عن الأصول الروسية المتبقية. وفي المقابل تحصل الولايات المتحدة على 50% من الأرباح. ويبدو بوضوحٍ تأثير عقلية رجل الأعمال في البنود المتعلقة بالمال وإعادة الإعمار، إلا أن هاجس أوروبا الحقيقي هو الترتيبات الأمنية لمرحلة ما بعد الحرب.
اتسم الردّ الأوكراني على الخطة بالاضطراب. ففي البداية قال الرئيس فولوديمير زيلينسكي في خطابٍ للشعب الأوكراني، في 21 نوفمبر، إن بلاده “قد تجد نفسها أمام خيار صعب للغاية؛ إما فقدان الكرامة أو خطر فقدان شريك رئيس”. لكن بعد مشاركة كييف في مفاوضات مع الجانب الأمريكي والشركاء الأوروبيين في جنيف، قال زيلينسكي، في 24 نوفمبر، إن بلاده “لن تكون أبداً عقبة أمام السلام”. ومن الناحية القانونية لا يملك الرئيس الأوكراني سلطة التنازل عن الأراضي دون استفتاء عام، لذلك يجد نفسه في موقف صعب، حيث يحاول الظهور بمظهر الداعم لترمب دون الموافقة على الخطة، لاسيما أن قواته تواجه صعوبات على الجبهة تزيد من تعقيد موقعه التفاوضي، وفي الوقت نفسه تواجه إدارته قضايا فساد تجعله أكثر ضعفاً حتى مع حلفائه.
أما بالنسبة للجانب الروسي، فقد اعتبر الرئيس بوتين أن الخطة تشكل “أساساً للتسوية السلمية النهائية”. وبمقارنة البنود التي قدمها ترمب وخطاب روسيا منذ أزمة القرم، نجد أن الخطة تشكل أول مبادرة غربية تستوعب هواجس موسكو طويلة الأمد. فهي تلبي مسألة التزام أوكرانيا بعدم الانضمام لحلف “الناتو” والتزام الحلف بوقف سياسة “الباب المفتوح” التي ينتهجها منذ نهاية التسعينيات، والتي تَعتبرها روسيا تطويقاً استراتيجياً لها. كما تُلبي الخطة الطموحات التوسعية لروسيا في شرق أوكرانيا، فضلاً عن مسألة إعادة دمجها في الاقتصاد العالمي ورفع العقوبات. ومع ذلك قال الرئيس الروسي إن التوصل إلى توافق في الآراء لن يكون “مهمة سهلة”، مسلطاً الضوء على مطالب موسكو المتكررة بانسحاب القوات الأوكرانية من منطقة دونباس، وهي المنطقة التي تحتلها القوات الروسية.
وفي الثاني من ديسمبر الجاري، التقى المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف وصهر الرئيس ترمب، جاريد كوشنر، مع الرئيس بوتين في موسكو، في جلسة تفاوضية طويلة قال الكرملين إنها لم تسفر عن “أي تسوية” بشأن إنهاء الحرب في أوكرانيا. في المقابل، أشار وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، إلى أنه تم إحراز “بعض التقدم” بشأن الضمانات الأمنية. قائلاً: “ما حاولنا القيام به، وأعتقد أننا أحرزنا بعض التقدم، هو تحديد ما يمكن للأوكرانيين التعايش معه والذي يمنحهم ضمانات أمنية للمستقبل”. وتأتي التقييمات المتضاربة، في أعقاب التصريحات التي أدلى بها الرئيس الروسي عندما اتهم القوى الأوروبية “بتخريب السلام في أوكرانيا”، مشيراً إلى أن “المطالب الأوروبية” لإنهاء الحرب “غير مقبولة بالنسبة لروسيا”. وقال الرئيس بوتين إن “أوروبا تمنع الإدارة الأمريكية من تحقيق السلام في أوكرانيا”، مضيفاً: “روسيا لا تنوي محاربة أوروبا، ولكن إذا بدأت أوروبا فنحن مستعدون منذ الآن”. وتندرج هذه التصريحات ضمن الاستراتيجية التي تتبعها روسيا منذ عودة ترمب إلى السلطة، حيث تسعى إلى فصل جناحي الأطلسي، عبر عزل أوروبا والتعامل مع الولايات المتحدة، وهو ما نجحت فيه إلى حد بعيد حتى الآن.
وفي المقابل، ترى أوروبا أن الخطة الأمريكية بعيدة كل البُعد لتكون حلاً نهائياً، لكنها يمكن أن تشكل أساساً للمفاوضات. وتدور مخاوفها الرئيسة حول فرض تنازلات إقليمية على أوكرانيا، والحدّ من القدرة العسكرية للجيش الأوكراني، واستبعاد الضمانات الحقيقية للأمن الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد قال إن الخطة “تحتاج إلى تحسين” للحصول على القبول الأوروبي والأوكراني، وحذّر من أن “السلام ينبغي ألا يعني الاستسلام”. كما وصفت ألمانيا الخطة بأنها “مجرد مسودة تحتاج إلى عمل جوهري”. ومن جانبه، قال دونالد توسك، رئيس الوزراء البولندي، إن العديد من بنود الخطة -سيما القيود العسكرية والتنازلات الإقليمية- “غير مقبولة”، مؤكداً أن العقوبات المفروضة على روسيا يجب أن تستمر. أما الحكومة البريطانية فأكدت “استعدادها للتعاون مع الولايات المتحدة بشأن مفاوضات السلام”. وتطالب لندن بأن تكون أوكرانيا حاضرة في طاولة المفاوضات، وأن “تحتفظ بالقدرة على الدفاع عن نفسها”. ويبدو الموقف الأوروبي مركَّباً على غرار الموقف الأوكراني؛ فهي لا ترفض خطة ترمب من حيث المبدأ، خشية ردة فعل ترمب غير المتوقعة، لذلك يؤكد الزعماء الأوروبيون على انفتاحهم على المفاوضات، مع الإصرار على أن أي اتفاق يجب أن يتضمن المشاركة الأوروبية الكاملة في صياغته.
الخطة الأوروبية المضادة
لملاءمة هذا الموقف المركب، طرح الأوروبيون في 23 نوفمبر تعديلات على خطة ترمب، والتي جعلتها بمنزلة خطة مضادةٍ، سيما أن الرئيس الأمريكي نفسه قال إن الخطة ليست “عرضه النهائي”. ويأخذ الاقتراح المضاد، الذي صاغته القوى الأوروبية الثلاث، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، الخطة الأمريكية أساساً له، لكنّه يُدخل عليها تغييرات جوهرية بالتعديل أو الحذف.
في مسألة السيادة والأمن الإقليمي، يؤكد المقترح الأوروبي على “سيادة أوكرانيا”، كما يطالب بـ “اتفاق عدم اعتداء كلي وكامل بين روسيا وأوكرانيا وحلف الناتو”. ويحذف المقترح الأوروبي النقطة الثالثة من الخطة الأمريكية التي تفرض قيوداً على توسع حلف الناتو، كما ينص على أنه بعد التوقيع على اتفاقية السلام سيتم عقد حوار بين روسيا والناتو لمعالجة جميع المخاوف الأمنية. ويقدم المقترح ضمانات أمنية أقوى لأوكرانيا، ومع ذلك يضع قيوداً على حجم قوات الجيش الأوكراني بسقفٍ لا يتجاوز 800 ألف فرد، كما يوافق الناتو -وفقاً للمقترح- على عدم التمركز الدائم للقوات التي تحت قيادته في أوكرانيا زمن السلم، فضلاً عن توفير ضمانة أمريكية للدفاع عن أوكرانيا في حالة تعرُّضها للغزو. وفي مسألة التسوية الإقليمية والالتزامات العسكرية، يفرض المقترح على أوكرانيا عدم استعادة أراضيها بالوسائل العسكرية. وبدلاً من ذلك، ينص على أن المفاوضات بشأن تبادل الأراضي ستبدأ من خط التماس. كما يؤكد على ضرورة تعهُّد كلٍّ من روسيا وأوكرانيا بعدم تغيير هذه الترتيبات بالقوة، إلى جانب التزام روسيا بعدم عرقلة استخدام أوكرانيا لنهر دنيبر لأغراض الأنشطة التجارية، والتوصل إلى اتفاقيات للسماح بحركة شحنات الحبوب بحرية عبر البحر الأسود.
ويتناول المقترح أيضاً قضايا الاستقرار النووي والرقابة على محطة زابوريجيا للطاقة النووية، فوفق المقترح تتفق الولايات المتحدة وروسيا على تمديد معاهدات عدم الانتشار النووي والرقابة النووية، وفي المقابل توافق أوكرانيا على البقاء دولة غير نووية بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي ويتم إعادة تشغيل المحطة تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتقاسم الطاقة المنتجة بشكل متساوٍ بين روسيا وأوكرانيا. كما يفرد المقترح جزءاً لإنشاء حزمة إعادة إعمار أوكرانيا، مع تحديد أدوار محددة للولايات المتحدة والمؤسسات المالية، مُقدماً أفضليةً للدور الأمريكي. كما يطرح بنوداً لمسار دمج روسيا تدريجياً في الاقتصاد العالمي مقابل التزامات محددة، مع تحديد آلية لتعويض أوكرانيا، حيث تلتزم الولايات المتحدة بالدخول في اتفاقية تعاون اقتصادي طويلة الأجل مع روسيا، في مجالات متعددة تشمل الطاقة والموارد الطبيعية والبنية التحتية والذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات والعناصر الأرضية النادرة والمشاريع المشتركة في القطب الشمالي، بالإضافة إلى فرص أخرى متبادلة المنفعة للشركات، إلى جانب إعادة روسيا إلى مجموعة الثماني، وهي مقترحات متطابقة مع الخطة الأمريكية. وفي المقابل يقترح التصور الأوروبي أن تتم إعادة إعمار أوكرانيا بالكامل وتعويضها مالياً بواسطة الأصول الروسية، التي ستظل مُجمّدة حتى تعوض روسيا الضرر الذي لحق بأوكرانيا.
تُظهِر مقترحات الخطة الأوروبية المضادة هواجس أوروبا بشأن مرحلة ما بعد الحرب، إذ يسعى الأوروبيون -عبر رفض تحديد قدرات أوكرانيا العسكرية، والتأكيد على التعهدات الروسية ورفض القيود على توسع الناتو- لكبح أي طموحات روسية مستقبلية للتوسع شرق أوروبا. لكن قبل ذلك تريد أوروبا الحد من الصفقات الثنائية بين موسكو وواشنطن، من طريق سعيها إلى تسوية تُصاغ وتُنفَّذ على نحوٍ متعدد الأطراف. كما يترك المقترح الأوروبي مسألة تمويل إعادة الإعمار ومسألة الأصول المجمدة مفتوحة جزئياً، وهي مسائل أساسية بالنسبة للرئيس ترمب الذي يريد تحقيق مكاسب اقتصادية من الخطة. فأوروبا تريد السيطرة على الأصول التي يحتفظ بها الاتحاد الأوروبي وتجنُّب ترتيب يتم عبره تسليم استخدامها فعلياً إلى واشنطن، مُستفيدةً من أن النسبة الأكبر من هذه الأصول موجودة في بنوك أوروبية. ويُذكر أنه منذ 2022 تم تجميد أصول روسية تصل قيمتها إلى 250 مليار دولار في الاتحاد الأوروبي، وهذه ورقة مهمة يمكن لأوروبا الاعتماد عليها في انتزاع تنازلات وتعديلات من طرف الإدارة الأمريكية.
لكن المقترح الأوروبي نفسه يواجه تحديات كثيرةٍ على مستوى التنفيذ، حتى لو فرضناً جدلاً أن روسيا ستقبل به. فأوروبا لا تملك قوةً محايدةً جاهزةً بالحجم والتفويض المناسبين، لمراقبة المناطق منزوعة السلاح. وعلى مستوى الضمانات الأمنية، فإن تعهدات أوروبا، من دون آلية واضحة وقابلة للتطبيق، تبقى مجرد وعودٍ. كما أن إنشاء آلية قانونية ومشروعة سياسياً لاستخدام الأصول المجمدة في إعادة الإعمار يظل أمراً مُعقّداً من الناحية القانونية، وسيُثار حوله نزاعات قضائية. فضلاً عن وجود دول أوروبية أكثر قرباً من خطة ترمب، مثل المجر بقيادة فيكتور أوربان، وهو ما يطرح سؤالاً عن مدى وحدة الموقف الأوروبي في مواجهة روسيا والولايات المتحدة.
المسارات المستقبلية
في ضوء علاقات القوة الراهنة بين جميع الأطراف، تبدو الخطة الأوروبية المضادة لخطة الرئيس الأمريكي للسلام في أوكرانيا، وسياسة المواجهة الأوروبية عموماً، مُتجهةً نحو ثلاثة سيناريوهات ممكنة:
السيناريو الأول: اعتماد الخطة الأوروبية المضادة لتكون ركيزةً لتسوية تدريجية تُدار دبلوماسياً، تتجنب إجبار أوكرانيا على التنازل عن أراضٍ لها. وتسير العملية تدريجياً، تبدأ بالاتفاق على وقف إطلاق نار إطاري، ثم سلسلة من خطوات بناء الثقة المتبادلة، مثل عمليات سحب المعدات الثقيلة، ومناطق منزوعة السلاح، وممرات إنسانية ثابتة، وتبادل أسرى مُتزامن، مع تسريع مسار ضمّ أوكرانيا للاتحاد الأوروبي، الذي يوفر فرصة اقتصادية وضمانة أمنية في الوقت نفسه.
يبقى هذا السيناريو قائماً على مبدأ مُتناقض، فمن طريق عدم فرض صفقات كبرى سابقة لأوانها يُجرى تجنُّب إثارة مقاومة مُتطرفة من أيٍّ من الجانبين، ومع غياب وضع سلام دائم يوجد جدول زمني دبلوماسي طويل الأمد، وإن كان هشاً، لمفاوضات لاحقة. ويتوافق هذا الترتيب مع الاستراتيجية الأوروبية، والقيود السياسية في كييف، وبخاصة أن أياً من الطرفين غير قادر حالياً على تحقيق نصر حاسم في ساحة المعركة. ومع ذلك يظل هذا السيناريو ضعيفَ التحقق على رغم أنه ممكن، لجهة إصرار ترمب على مسألة وقف الحرب، وإصرار بوتين على حسمها لصالح روسيا.
السيناريو الثاني: فشل الخطة الأوروبية المضادة والعودة إلى نقطة البداية، مما ينتج عنه جولات متتالية من المفاوضات والمقترحات والمقترحات المضادة والتوقفات التكتيكية التي تفشل في إعادة هيكلة الصراع الأساسي. وتستقر الحرب في نمط طويل من الاستنزاف، وتتغير الخطوط الأمامية بشكل تكتيكي، ولكن دون اختراقات عملياتية. لكن هذا الجمود لا يعني مطلقاً الاستقرار، إذ يمكن أن يقود إلى خطر التصعيد، مثل إطلاق صواريخ خاطئة قرب حدود الناتو، وعمليات تخريب هجينة، ومواجهات بحرية.
ومع ذلك، في غياب صدمة تُغيّر الدوافع بشكل جذري، يُعد هذا السيناريو الأكثر ديمومة من الناحية الهيكلية، ارتكازاً إلى حربٍ لا يمكن لأي من الطرفين الفوز فيها بشكل قاطع، ولا يمكن لأي منهما حلها من خلال التسوية. ومع أن هذا السيناريو يظل قائماً أكثر من السيناريو الأول، إلا أنه يتعارض تماماً مع سعي ترمب لوقف الحرب.
السيناريو الثالث: ممارسة الولايات المتحدة ضغوطاً حادة على كييف، لدفعها إلى قبول السلام وفقاً لخطة ترمب، مع تطعيمها ببعض التعديلات من الخطة الأوروبية. يُدرك ترمب أن أوكرانيا أضعف الحلقات في المعادلة، ولذلك يستطيع عبر إقناع زيلينسكي فرض اتفاق، حتى وإن كان لا يراعي تماماً الخطة الأوروبية، لأنه في حال وافقت أوكرانيا لا تستطيع أوروبا الرفض. لذلك، تُقرّ أوكرانيا في هذا السيناريو ببعض النقاط، ومنها القبول الضمني للخسائر الإقليمية، أو تخفيف مطالب المساءلة عن جرائم الحرب، أو الموافقة على قيود أمنية مقابل ضمانات أمريكية ثنائية تتجاوز التزامات حلف الناتو المفتوحة. وبدورها، تقبل روسيا الاتفاق لأنه يضمن الاستقرار القانوني مقابل مكاسب إقليمية، ويضمن العودة المنظمة إلى المنتديات الاقتصادية العالمية، ويحقق أهدافاً سياسية رئيسة دون المطالبة بالاستسلام الأوكراني الكامل. لكن نقطة ضعف هذا السيناريو تكمن في الاستقرار السياسي. ففي أوكرانيا، يُهدد قبول التنازلات الإقليمية باندلاع ثورة أو حركات احتجاجية. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو يبدو الأكثر توقعاً نظراً لعلاقات القوة المختلة لصالح الولايات المتحدة، ونظراً للمصاعب التي تواجهها أوكرانيا عسكريا وسياسياً.
خلاصة واستنتاجات
منذ عودته إلى السلطة، سلك الرئيس الأمريكي دونالد ترمب نهجاً خاصاً في محاولات حلّ الصراع في أوكرانيا، قائماً على فكرة الحل الثنائي بين الولايات المتحدة وروسيا، ومنطلقاً من الوضع الإقليمي الراهن. ومثَّل هذا النهج إطاراً لخطته الجديدة المؤلفة من 28 بنداً، والتي تتضمن تنازلات إقليمية ستُقدّمها أوكرانيا، وقيوداً على سياسة توسع حلف شمال الأطلسي على حدود روسيا. وهو نهجٌ يتعارض تماماً مع الاستراتيجية الأوروبية، التي تريد لأوروبا وأوكرانيا أن تكونا جزءاً من أي مفاوضات لصياغة خطة للحل، وأن يقوم هذا الحل على العودة إلى حدود ما قبل 2014.
وفي المقابل، تطرح أوروبا تعديلات جوهرية على خطة ترمب، تبدو بمنزلة خطة مضادة، وتركز على هواجسها بشأن مرحلة ما بعد الحرب. إذ يسعى الأوروبيون عبر رفض تحديد قدرات أوكرانيا العسكرية، والتأكيد على التعهدات الروسية ورفض القيود على توسع الناتو، إلى وضع قيود على أي طموحات روسية مستقبلية للتوسع شرق أوروبا. كما يترك المقترح الأوروبي مسألة تمويل إعادة الإعمار ومسألة الأصول المجمدة مفتوحة جزئياً، وهي مسائل أساسية بالنسبة للرئيس ترمب الذي يريد تحقيق مكاسب اقتصادية من الخطة.
نظراً لهذا التعارُض، وفي ضوء علاقات القوة الراهنة، والمصاعب التي تعانيها كييف على الجبهتين العسكرية والسياسية، يبدو مصير الخطة الأوروبية المضادة لخطة الرئيس الأمريكي، وسياسة المواجهة الأوروبية عموماً، محكومة بثلاثة سيناريوهات ممكنة. أولها، تحول الخطة الأوروبية إلى أساسٍ لتسوية تدريجية، وبخاصة أن أياً من الطرفين غير قادر حالياً على تحقيق نصر حاسم في ساحة المعركة. وهو سيناريو ضعيفَ التحقق مع أنَّه ممكن، لجهة إصرار ترمب على مسألة وقف الحرب، وإصرار بوتين على حسمها لصالح روسيا. والسيناريو الثاني هو فشل الخطة، مما ينتج عنه جولات متتالية من المفاوضات والمقترحات والمقترحات المضادة التي تفشل في إعادة هيكلة الصراع الأساسي، وربما تقود للتصعيد. إلا أن هذا السيناريو يتعارض تماماً مع سعي ترمب لوقف الحرب. والسيناريو الأخير والأكثر توقعاً، هو أن تفرض الولايات المتحدة ضغوطاً حادة على كييف ومقايضة دعمها العسكري في ذلك، مع إدخال تعديلات أوروبية غير جوهرية على خطة ترمب.