تعرف الطائفة على أنها جماعة من الناس يمتازون بمذهب معين أو رأي خاص عن غيرهم ، وهي من الشئ قطعته التي تشتق منه ، ويشير هذا المعنى للطائفة إلى حقائق التنوع في الواقع
الاجتماعي والفكري الذي يحياه الناس ، ولا يحمل أية إشارات سلبية تهدد الكيان الاجتماعي والسياسي للأمم والشعوب ، فالعمل والتفكير في إطار الطائفة ومن خلالها ، لا يعني إنكار الآخر ونفيه ، بل يعني تمييز الذات عنه ، وفي الوقت نفسه قبوله كشريك ومحاور يمكن الوصول معه إلى قواسم مشتركة تصب في مصلحة الوجود الإنساني ، وورد هذا المعنى للطائفة في آيات عدة من كتاب الله المجيد كقوله تعالى: ” فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في الدين ” ( سور التوبة : 122 ) ، وقوله تعالى: ” وان طآئفتان من المؤمنين ” ( سورة الحجرات : 9 ) ، وقوله تعالى: ” إذ همت طآئفتان منكم ” ( سورة آل عمران : 122 ) .
أما الطائفية فهي اشتاق من الطائفة وتحمل معنى التعصب والتطرف لصالح طائفة ما على حساب الآخرين ، وهذا الفهم للانتماء إلى طائفة معينة ، هو الذي يمزق وحدة الأمم ، ويهدد كيانها السياسي ، كما يفتح باب الخراب على مصراعيه فيها ، لاسيما عندما يتحول إلى عقيدة تحرك المنتمين للطوائف المختلفة ، وتدمغ علاقتهم بعضهم بالبعض الآخر بنيرانها المحرقة التي تحرك في القلوب الكراهية والحقد والعنصرية ، وتثير مشاعر الشحناء والعداوة . ولكن عندما تتحرك مظاهر التعصب الطائفي في الإطار الاجتماعي بسبب الاستفزازات المناطقية أو الأسرية وما شابه يمكن تلافي أثارها المدمرة عندما تكون النخب الفاعلة في المجتمع لاسيما النخبة السياسية تتحرك في أطار وطني شامل يحفظ الهوية الوطنية للدولة ، ويمنع الآثار المدمرة للتعصب الطائفي الأعمى من الامتداد إلى ابعد من أسبابها الزمانية والمكانية المباشرة ، مع الحرص على تهدئة المشاعر المتهيجة ، وتجفيف مصادر الصراع المحتملة . والكارثة الحقيقية التي تواجه أي دولة معاصرة هي عندما تتحرك نخبها السياسية من منطلقات طائفية في بناء الدولة ، والتعامل مع الآخر ، وصناعة المجد السياسي لفرد ما أو حزب ما ، عند ذلك لن تكون مظاهر التنوع الاجتماعي على أساس الطوائف الدينية أو الفكرية المتنوعة عامل إثراء للمعرفة السياسية ، والوعي السياسي الجمعي ، أو لتطوير اللحمة الوطنية للدولة ، بل ستكون عامل إفقار للمعرفة بمختلف أشكالها ، وانحطاط في الوعي ، وتمزيق لوحدة المجتمع والدولة ، لأن الطائفية ستتحول من حدث اجتماعي عارض يمكن تلافيه إلى عقيدة سياسية تحرك الجماعات والقوى السياسية التي سيصيبها العمى المقصود ليحرفها عن المسار الصحيح في بناء دولة المواطن لصالح دولة الطائفة ، وفي الدولة الأخيرة ستكون كل الوسائل مقبولة لترسيخ وجهة نظر الطائفيين ، وتثبيت مرتكزات سلطتهم حتى القذرة منها ، فتبرز مظاهر الإقصاء والتهميش للآخر ، وعدم احترام الكفاءات لصالح الانتهازيين وأصحاب الولاءات ، ويكثر الفساد ، وتزداد عوامل العنف الأهلي ..
إن المتتبع للشرق الأوسط الإسلامي في الوقت الحاضر ، يجد أن اغلب دوله خرجت من عباءة الاستبداد والدكتاتورية البغيضة لتسقط في وحل الطائفية العمياء ، متناسية شعوبه وقواه السياسية أنها تعيش في القرن الحادي والعشرين ولا تعيش في القرون الوسطى ، فالمطلوب من إنسان هذا القرن ، مهما اختلف موقعه ودوره في المجتمع أن يكون فاعلا في بناء دولة مدنية حديثة ، متقدمة بمنظومتها القانونية والأخلاقية ، ولديها الموارد البشرية والمادية التي تؤهلها للمنافسة الثقافية والحضارية الدولية مع التقارب المستمر للأفراد والشعوب على مستوى كوكب الأرض. إننا لا نعيش في عصر الطوائف لنبني دولا طائفية ترتكز على أسس خاطئة تمهد السبيل لإحراق شعوبها وشعوب المنطقة ، لكن يبدو أن للبعض من المتسيدين في هذه المنطقة أجنداتهم الخاصة التي تجد مصلحتها في جعل الطائفية عقيدة سياسية تبنى عليها الدول ، وترتكز إليها الممارسات السياسية ، والعلاقات السياسية على المستوى الداخلي والخارجي ، والغريب أن تجد هذه الأجندات تماهيا منقطع النظير مع أجندات القوى الدولية والإقليمية التي تعادي العرب والمسلمين ، والدليل على ذلك ما ورد عن ( شاي فيلدمان ) الباحث في مركز كراون لدراسات الشرق الأوسط ، في منتدى سياسي أقامه معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى يوم 3 / 6 / 2013 ، إذ قال ” لا تواجه إسرائيل حاليا أي تهديد عسكري تقليدي ، كما أن سوريا والعراق منهمكتان في صراعاتهما الداخلية ، وبشكل أوسع نطاقا أصبحت المنطقة منقسمة بشكل متزايد بين الشيعة في إيران والعراق وحزب الله من جهة ، والسنة في الأردن ومصر والمملكة العربية السعودية ودول الخليج الأصغر حجما من جهة أخرى ، ويحظى الإسرائيليون بميزة إستراتيجية فريدة في ظل تلك البيئة ، لاسيما نظرا لأن بعض دول الخليج ربما تكون في الواقع أكثر ميلا للتحالف معهم ضد إيران ” . والواقع الشرق أوسطي الحالي الذي يتراقص في مسرحه الطائفيون ، على اختلاف مشاربهم ، يذكر بالواقع الذي كان يعيشه أهل يثرب قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وآله إليهم ، فقد كان بني قينقاع اليهود داخلين في حلف مع بني الأوس العرب ضد بني النظير وبني قريظة اليهود وحلفائهم من بني الخزرج العرب ، وكانت الحروب مشتعلة بين الطرفين على قدم وساق ، لكن اليهود كانوا مستفيدين من هذا الصراع من خلال تنمية أسواقهم ، وتجارتهم ، وبيوت الدعارة التي كانوا يفتحونها للعرب وغيرهم من أهل يثرب ، فما أشبه اليوم بالأمس ، إذ يتصارع العرب والمسلمون فيما بينهم من منطلقات طائفية رعناء ، فيغفلون أو يتجاهلون بناء دولهم ، ويمزقون نسيجهم الاجتماعي ، ويخربون اقتصادهم بأيديهم ، ويتحالفون مع هذا الطرف الدولي والإقليمي أو ذاك ضد أبناء جلدتهم ، فتكون المصلحة لعدوهم والخراب والدمار نصيبهم .
إن بقاء النخب السياسية في الشرق الأوسط على نهجها الخاطئ الذي تسير عليه في الوقت الحاضر ، سوف يعمق الطائفية كعقيدة سياسية تستهلك شعوبهم ومقدراتهم ، فكما يقول غوستاف لوبون : ” من يكرر لفظا أو صيغة تكرارا متتابعا يحوله إلى معتقد ” ، وترسيخ هذه العقيدة سوف يطرح العقلانية والمنطق جانبا ، ويستحضر كل مظاهر التسافل والبربرية البشرية إلى ميدان الفكر والسلوك ، وفي قول لأحد الكتاب جاء فيه : ” للعبارات حين تكرر أمام أعيننا ، وعلى مسامعنا مرة ومرة فعل مغناطيسي ينوم عقولنا تنويما ” ، وهذا ما ستفعله الطائفية في مجتمعاتنا ، عندما تغيب العقل وتستحضر العاطفة المتسافلة . لكن على النخب أن تعرف أن نتيجة هذه السياسة كارثية على الجميع في المنطقة؛ إذ ستحرق دولها وتدمر شعوبها وتنعدم فرص المستقبل الآمن أمامها.