عادل رفيق
في هذه الحلقة الرابعة، من المدونات الصوتية التي ينشرها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) تحت عنوان “بابل: تفسير الشرق الأوسط”، يتناول جون ألترمان -النائب الأول لرئيس المركز، ومدير وحدة زبيجنيو بريجنسكي للأمن والجيواستراتيجية العالمية ومدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز- الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط، وكيف يفكر صانعو السياسة الأمريكيون في القوة الدبلوماسية الأمريكية في المنطقة.
حيث يقوم مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو منظمة أبحاث سياسات غير ربحية وغير حزبية، من خلال هذه المجموعة من المدونات الصوتية، بتنظيم نقاشات مع خبراء دوليين وإقليميين ومسؤولين سابقين، تأخذ المتابع إلى ما وراء العناوين الرئيسية لمحاولة فهم ما يحدث بالفعل في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. حيث يعمل الخبراء الدوليون والإقليميون الذين يستضيفهم البودكاست على تفسير ما يجري على أرض الواقع، من خلال تسليط الضوء على الاتجاهات المختلفة، وكذلك سياقات التطورات المحورية في هذه المنطقة الهامة من العالم.
وقد قام المعهد المصري للدراسات بترجمة ونشر النص الكامل للجزئين الأول والثاني والثالث من هذا النقاش الهام. وفيما يلي ترجمة الجزء الرابع الذي تم نشره باللغة الإنجليزية على موقع CSIS في 29 مارس 2022 – وذلك على النحو التالي:
في الجزء الرابع من هذه السلسلة، يتحدث ألترمان مع السفير توماس بيكرينج، وهو دبلوماسي محترف يتمتع بخبرة تزيد عن أربعة عقود، بما في ذلك منصب سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة وست دول أخرى، ووكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية ؛ وناتالي توتشي، وهي باحثة إيطالية عملت كمستشار رفيع لكبير الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي؛ وبريان كاتوليس، وهو زميل أول ونائب رئيس السياسة في معهد الشرق الأوسط، والذي عمل في مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع خلال إدارة كلينتون.
يقول جون ألترمان: كانت معظم المواجهات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة تدور بين دبلوماسيين وليس جنوداً. فقد شكلت الترسانات النووية الأمريكية والسوفيتية عائقاً أمام مسار الصراع المسلح، لذلك اندلعت المنافسة بين القوى العظمى في ساحات أخرى، كانت الدبلوماسية من أهمها.
خرج الدبلوماسيون الأمريكيون من الحرب الباردة وهم في حالة من النشوة والتحفز بما حققوه، واستمروا في نشاطاتهم على هذه الحال. فبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، أقاموا علاقات جديدة عبر أوروبا الشرقية وكذلك في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة، وتبنوا مسيرة السلام في الشرق الأوسط بحماس متجدد. وكانت الدبلوماسية الأمريكية وراء تأسيس التحالف الذي دفع العراق للخروج من الكويت، وقامت بإنهاء الحرب في البلقان، وساعدت في إحلال السلام في أيرلندا الشمالية، ودفعت بالمسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين إلى الدخول في محادثات سلام مباشرة لأول مرة في التاريخ.
وبعد 11 سبتمبر، انقلب كل ذلك رأساً على عقب. فقد أصبح صانعو السياسة في الولايات المتحدة يرون أن التهديدات التي تواجهها البلاد شديدة الإلحاح بشكل لا يتحمل التباطؤ الذي قد تشكله الدبلوماسية في الذهاب والرواح، وفي غاية الحيوية بحيث لا يمكنها لتحمل أي احتمالية لحل وسط. ونتيجة لذلك، قفز المقاتلون إلى المقدمة، وانحسر نشاط الدبلوماسيين.
وها هو بريان كاتوليس، وهو زميل أول ونائب رئيس وحدة السياسة في معهد الشرق الأوسط. والذي أثناء إدارة كلينتون في مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع، يقول إن تجربة ريتشارد هولبروك، المهندس الرئيسي لاتفاقات دايتون التي أنهت الحرب في البلقان في أواخر عام 1995، تجسد طبيعة هذا التحول الذي حدث.
بريان كاتوليس: السفير ريتشارد هولبروك – الذي كان حقاً رائداً في قيادة الإستراتيجية والدبلوماسية من أجل إنهاء الحروب التي كانت مشتعلة في البوسنة وكوسوفو – وصف الجنرال ويسلي كلارك بأنه كان بمثابة جناحه الأيمن إبان حقبة التسعينيات. ولكن، بعد عشر سنوات – بعد عشر سنوات من الإفراط في عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية خلال فترة ما بعد 11 سبتمبر – عاد هولبروك إلى أداء مهمة أخرى كممثل أمريكي خاص في شؤون أفغانستان وباكستان، وعندها أشار الجنرال ديفيد بتريوس إلى السفير هولبروك على أنه بمثابة جناحه الأيمن.
جون ألترمان: إن انحسار دور هولبروك – من قائد دبلوماسي يدعمه جنرال يشكل جناحه الأيمن، إلى مجرد كونه دبلوماسي يمثل الجناح الأيمن لجنرال عسكري – فدلالة هذا التحول تتجاوز بالتأكيد السفير هولبروك. وعندما تتجاوز قصة هذا التحول منطقة الشرق الأوسط، فهناك القليل من المناطق حول العالم كان التغيير فيها حاداً للغاية – أو ترتب عليها تبعات مماثلة.
في هذه الحلقة، سنلقي الضوء على مجموعة الأدوات الدبلوماسية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وكذلك نجاحات وإخفاقات الدبلوماسية الأمريكية في المنطقة.
في الحلقة الثانية من هذه السلسلة، أشرت إلى أن نسبة العسكريين الأمريكيين الذين يؤدون مهام حول العالم إلى نسبة الدبلوماسيين العاملين بالخارج تبلغ 85 عسكرياً مقابل كل دبلوماسي في مهمة خارجية. وبحلول عام 2009، وهو العام الذي تم فيه تعيين ريتشارد هولبروك ممثلاً خاصاً للولايات المتحدة في أفغانستان، اعتقد بعض صانعي السياسة الأمريكيين أن هذه النسبة (العسكريين إلى العسكريين) بحاجة إلى التغيير. وكان لدى إدارة أوباما التي تولت السلطة حديثاً خططاً كبيرة للدبلوماسية الأمريكية. وفي ذلك العام، أطلقت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون لأول مرة خطة لمراجعة للدبلوماسية والتنمية كل أربع سنوات (QDDR) – على غرار آلية مراجعة حالة الدفاع كل أربع سنوات والتي تقوم بها وزارة الدفاع. وقد كان الهدف من هذه المراجعة تقديم مخطط لتصعيد دور الدبلوماسية – ووزارة الخارجية – في السياسة الخارجية للولايات المتحدة ووضع الدبلوماسيين الأمريكيين على قدم المساواة مع عناصر الجيش في تعزيز أهداف الأمن القومي للولايات المتحدة.
وقد واجهت هذه المراجعة عقبات خطيرة، كما واجه تنفيذ توصياتها عقبات خطيرة أيضاً. فالمشكلة لا تكمن في أن وزارة الخارجية ليست فقط غير مهيأة للتغيير السريع، ولكن، وكما يقول كاتوليس، في أنها لم يتم تهيئتها للتغيير على الإطلاق.
بريان كاتوليس: لا يوجد غالباً نوع من الإدارة والثقافة التعليمية في مؤسسات مثل وزارة الخارجية، في الوقت الذي يتطلب الأمر وجودها لمساعدتهم فعلياً على أداء وظائفهم بشكل أفضل.
الموضوع المضحك فعلاً والذي كثيراً ما يتحدث عنه الناس هو مقدار الأموال التي يحصل عليها البنتاجون كل عام، مقارنة بميزانية وزارة الخارجية. هذا نوع من النقد السهل. أما النقد الأصعب في الواقع هو أن وزارة الخارجية – والعديد من الهيئات المدنية الأخرى – لا تقوم في الواقع بالكثير من الأشياء التي يُتطلب منهم القيام بها بالكفاءة المطلوبة.
جون ألترمان: ما هو المطلوب من وزارة الخارجية – ودبلوماسييها المحترفين البالغ عددهم 14000 شخصاً – القيام به بالضبط؟ حيث عمل توماس بيكرينج في السلك الدبلوماسي لمدة أربعة عقود، حيث عمل سفيراً للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة وست دول أخرى – بما في ذلك الأردن وإسرائيل. وقد أنهى فترة عمله في الحكومة بصفته وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية، وهو ثالث أعلى منصب في وزارة الخارجية. يقول بيكرينج إن الدبلوماسية، في جوهرها، تدور حول التفاوض والتسوية – حيث تقوم بتعزيز مصالح أمريكية معينة لا تستطيع الولايات المتحدة التنازل عنها، بينما يمكنها أن تتنازل في مصالح أخرى عندما يكون ذلك ممكنا.
توماس بيكرينج: يجب أن نحكم على الدبلوماسية من حيث إمكانية تجنب الوقوع في فخ “المعادلة الصفرية” وتحويل العملية التفاوضية إلى مبدأ “الجميع رابحون”. ويجب أن تكون المكاسب المشتركة نتيجة مشتركة لتخلى الطرفين عن أنشطة مهمة مقابل القيام بأنشطة مهمة أخرى.
جون ألترمان: لكي يحدد صانعو السياسة في الولايات المتحدة المصالح التي يتعين عليهم النهوض بها – وتلك التي يجب التخلي عنها – فإنهم يحتاجون إلى تقييم واضح لما قد يكون عليه الهدف النهائي الذي يتعين تحقيقه. إنهم في الحقيقة بحاجة إلى معرفة النتائج التي يمكنهم التعايش معها – والنتائج التي لا يمكنهم التعايش معها، حتى يوجهوا سياساتهم.
توماس بيكرينج: هل لدينا إدراك واضح لأهدافنا؟ وهل لدينا فهم واضح، عند الدخول في عملية ما، بما قد يكون مقبولاً وغير مقبول في نهاية المطاف؟ في الواقع، فإن جزءا من عملية الدبلوماسية هو صقل التفكير حول النتائج المستهدفة، بحيث يمكنك البدء في تحريك هذه الأهداف في اتجاه يضمن الربح المتبادل للطرفين.
وهذا يعني أنه يجب أن تكون لدينا معادلة دبلوماسية مستمرة يمكن العمل على أساسها على مدى فترة من الزمن. وهذا هو الموضع الذي يمكننا أن نبدأ فيه، على خلفية النفوذ العسكري وغيره من أنواع النفوذ، لطرح المحفزات الدبلوماسية – أو على الأقل الجهود التي تكمن وراء تلك المحفزات الدبلوماسية – لبدء عملية التفاوض مع الجانب الآخر في محاولة لضمان الوصول إلى نتيجة دبلوماسية يمكنهم قبولها والتعايش معها.
جون ألترمان: ما يصفه بيكرينج هو عملية تقوم فيها الولايات المتحدة بإدراك أنها لن تحصل على كل ما تريد، لكنها تخلق بيئة يمكنها في نهاية المطاف أن تحصل فيها على ما تحتاجه في الواقع. وقد تكون تحقيق النتيجة المرجوة في نهاية التفاوض أحيانا بعيدة المنال. حيث يقول بيكرينج إن النجاح في ذلك يشبه إلى حد كبير…:
توماس بيكرينج: مسار عملية هنري (كيسنجر) خطوة بخطوة في الشرق الأوسط …
جون ألترمان: هنري الذي يتحدث عنه هنا هو وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر.
توماس بيكرينج: حيث استندت عملية هنري التدرجية في الشرق الأوسط إلى القدرة على فهم أن التخلي عن حلول “المعادلة الصفرية” لا يمكن أبداً أن يتم في العلن – ولا يمكن أبداً تفسيره على أنه تراجع أو تنازل عن شيء كنت قد وافقت بالفعل بأنك بصدد تحقيقه — ولكن الأمر يتعلق بالشكل الذي يتم به تقطيع الكعكة، أفقياً أو رأسياً، أردت فقط تقطيعها بشكل مناسب من أجل تحقيق هدف كان من المنطقي إمكانية بتحقيقه في حد ذاته، ولكن ليس منطقيا إذا نظرنا إلى المشكلة برمتها.
جون ألترمان: وهذا بالتأكيد يتطلب نشاطاً وحيوية بشكل مستمر:
توماس بيكرينج لا يوجد تفاوض – خاصة إذا كان يتقدم – يظل ثابتاً دائماً لدرجة أن تكون لديك دائماً نفس الأهداف، ونفس الأشياء التي يمكن أن تقدمها (للطرف الآخر)، ونفس التنازلات، ونفس النتائج.
جون ألترمان: كما يقول بيكرينج، لا تتطلب الدبلوماسية الصبر والمثابرة والإبداع فحسب، بل تتطلب أيضاً رؤية واضحة للموضع الذي تحاول الوصول إليه في النهاية. إنه ينطوي على إمكانية التخلي عن شيء تريده ولكنه لا يعتبر شيئاً جوهرياً، في مقابل السعي للحصول على شيء تريده بشكل أكبر. ويتعلق الأمر في كثير من الأحيان بالوصول إلى نقطة لا يكون فيها أي من الطرفين يشعر بالغبطة، ولكن في نفس الوقت يستطيع كل طرف أن يتعايش مع النتيجة التي تم التوصل إليها. وهو يتعلق كذلك بتأسيس نقاط نفوذ وإعادة نشرها بطرق محسوبة.
لم تكن هذه هي الطريقة التي قامت من خلالها الولايات المتحدة بمعظم الخطوات التي اتخذتها في منطقة الشرق الأوسط على مدى العقود التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر. حيث كانت التهديدات محدقة، وكانت المخاطر كبيرة. وكان آخر شيء يمكن أن تجد الولايات المتحدة في حاجة إليه هو خوض عملية بطيئة من التسوية والتناوب، ولذلك لم ينظر صانعو السياسة إلى الأمن على أنه شيء يمكن أن تقدم الولايات المتحدة أي تنازلات بشأنه.
توماس بيكرينج: لدينا تحيز كامل وراسخ بشكل أساسي في نهجنا تجاه العلاقات الدولية – لا سيما فيما يتعلق بالأمن أو القضايا المرتبطة بالأمن – وبناء على ذلك، ستجدنا دائماً نختار المبادرة الأكثر تشدداً لتجنب تحمل أي خسارة عندما يتعلق الأمر بقضية أمنية.
جون ألترمان: وعلى مدى العقدين الماضيين، أدى ذلك إلى تبني نهج في الشرق الأوسط يفضل السعي للوصول إلى حلول فورية أو ما يسميه بيكرينج “المعادلة الصفرية” على الحصول على التنازلات من خلال عملية بطيئة للدبلوماسية.
توماس بيكرينج: نعتبر أن قوتنا العسكرية المتفوقة، والتي تعمل الشيء الذي اعتادت عليه وتجيده، يمكنها دائماً تقديم حل للمشكلة – مثل إلقاء ’حبة تين ناضجة’ من الشجرة إلى حضننا – دون أن نتكبد مشقة الإعداد السياسي، ودون أي تأطير، وبدون أي حاجة إلى قوة التحمل يمكن الوصول إليها بشق الأنفس من خلال ممارسة العمليات الدبلوماسية الطويلة والسرية.
نعم يرى بيكرينج أن الحلول العسكرية لها جاذبيتها، لكنه لا يعتقد أن معظمها يمكن أن تُعتبر حلولاً بالفعل.
توماس بيكرينج: أحدهما هو عملية مكلفة للغاية وفي غاية الصعوبة والتهور، والآخر هو أنها بمثابة فشل مطلق ينتج عن التقديرات الهيكلية والاستراتيجية الخاطئة لما يمكن أن تكون التداعيات المترتبة على النصر العسكري.
يعتقد كاتوليس أن فاعلية العمل العسكري على المدى القريب قد أعمت صانعي السياسة الأمريكية عن العواقب طويلة المدى لاستراتيجية يقودها الجيش.
بريان كاتوليس: عندما يكون لديك أداة فعالة – وبالتأكيد فإن الجيش هو أداة فعالة، وكذلك الأمر بالنسبة للوكالات الاستخبارية الأمريكية، وخاصة وكالة المخابرات المركزية، التي تعززت فاعليتها باستخدام الطائرات بدون طيار وغيرها من الأدوات الأخرى – فإنه من الصعب على الناس منطقياً أن يغفلوا ذلك ويقولوا، “حسناً، هذه هي الطريقة التي يمكننا بها استخدام الدبلوماسية لتشكيل السياسة في البلدان الأخرى أو تشكيل الاتجاهات حتى نتمكن من إنجاز المزيد “.
جون ألترمان: ناتالي توتشي هي باحثة إيطالية عملت كمستشار أول لكبير الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي. وهي تجادل بأن الولايات المتحدة كانت محقة في استخدام القوة للرد على أحداث 11 سبتمبر، لكنها في نفس الوقت تقول إن اعتماد واشنطن علي القوة كان كثيراً.
ناتالي توتشي: من الواضح أن التهديد الإرهابي يتطلب رداً عسكرياً، لكن نوع الرد العسكري الذي قدمته الولايات المتحدة لم يكن يقتصر على مواجهة التهديد الإرهابي. فلو كان الأمر على هذا النحو، لكنا نتحدث الآن عن أشياء تختلف كثيراً عما كنا نتحدث عنه في الأعوام العشرين الماضية.
كانت هناك لحظة من الغطرسة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، من حيث افتراض أنه من خلال الأدوات العسكرية، يمكنها أيضاً أن تحقق نتائج سياسية طويلة الأمد. ولكن تلك التجربة فشلت.
جون ألترمان: لقد فشلت فعلاً لأنه عندما تحاول فرض نتيجة على الآخرين، من الصعب جعلها مستدامة، ويمكن أن يؤدي التفاوت الكبير في القوة بين الولايات المتحدة وخصومها إلى زيادة صعوبة الفوز بالشكل الذي نريده.
توماس بيكرينج: فالجانب الآخر يريد فقط تجنب الخسارة، في حين أنه يتحتم علينا، ليس فقط أن نفوز، ولكن أيضاً أن نفوز بشكل كبير، بحيث يمكننا إملاء النتائج على الأرض – وليس فقط مجرد فرض النتائج ولكن أيضاً جعلها ثابتة ومستمرة إلى الأبد.
إن مقاربة المعادلة الصفرية التي تقتصر على إحراز النصر العسكري الذي يقضي على الجانب الآخر على الأرض ويسمح لك بإملاء الشروط التي تستتبعها تلك النتيجة، ليست في الحقيقة خياراً جيداً للغاية، وإمكانية استمراريته منخفضة للغاية. حيث من الصعب المحافظة على النتائج المترتبة على هذا النصر، بشكل دائم، من حيث تحقيق تسوية يمكنها الاستمرار والازدهار.
جون ألترمان: يقول بريان كاتوليس إن الكثير مما نعتقد أنه إخفاقات دبلوماسية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط حدث عندما لم تكن هناك على الإطلاق أي دبلوماسية يتم القيام بها.
بريان كاتوليس: الكثير من الإخفاقات في ذهني مرتبطة باستخدام القوة العسكرية وعدم وجود أي نوع من الإستراتيجية المتكاملة التي تضع استخدام القوة في سياق إستراتيجية دبلوماسية أو سياسية – في ما كان يُطلق عليه هنا “القوة الذكية “.
جون ألترمان: يبدو أن بيكرينج يوافق على أن للجيش دور يلعبه في إطار الدبلوماسية.
توماس بيكرينج: ولكن ليس هذا هو الدور الذي يتم تدريسه في جميع المدارس العسكرية. إنه دور يجب أن يكون متاحاً عندما تحتاج إليه لممارسة نفوذ معين على نحو منفصل ومحدد بشكل جيد – لبلوغ نقطة معينة – في سبيل تعزيز قدرتك على التأثير بشكل إيجابي على نتيجة المشاركة الدبلوماسية على مدى فترة زمنية طويلة.
جون ألترمان: توافق توتشي على ذلك، حيث تعتقد أن الولايات المتحدة كان لديها هذا التوازن في الأغلب في أوائل التسعينيات.
ناتالي توتشي: من الواضح أنه كان هناك تدخل عسكري كبير آنذاك – حرب الخليج الأولى – ولكن كان هناك أيضاً مشاركة دبلوماسية مهمة بنفس القدر. لقد رأيت في الواقع الطريقة التي تدعم بها القوة الصلبة مسار الدبلوماسية والقوة الناعمة، من نواحٍ عديدة. كان الاثنان يعزز كل منهما الآخر.
جون ألترمان: استخدمت الولايات المتحدة الزخم الذي أثاره التحالف المكون من 35 دولة والذي تشكل من أجل تحرير الكويت – استخدمت هذا الزخم لإحراز تقدم دبلوماسي غير مسبوق فيما يخص السلام الإسرائيلي-الفلسطيني.
لكن سرعان ما وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وعلى إثرها سارعت الولايات المتحدة بإرسال قواتها إلى أفغانستان، ثم العراق لاحقاً. وكان شعار التوجه العسكري الأمريكي حينها هو “الصدمة والرعب”، ولفترة من الوقت، بدا أن كلا المجهودين يسيران على ما يرام. هل تتذكرون لافتة “تم إنجاز المهمة” المكتوبة على حاملة الطائرات؟ بدا أن الأوضاع في تلك الآونة كانت تدعو إلى تحقيق أهداف متطرفة في سبيل طموح جامح. لقد كان عصراً مختلفاً تماماً. والآن، فإن مرور عقدين من الزمان في القتال دون تخفيق الفوز في الشرق الأوسط، أدى إلى تغيير الولايات المتحدة ونهجها تجاه العالم.
ناتالي توتشي: أدرك أن هذا الأمر الذي أتحدث عنه هو مسألة أوروبية شديدة المركزية، لكن السياسة الخارجية الأمريكية جاري “أوربتها” (أي أنها باتت تسير على المنوال الذي كانت عليه أوروبا). إنها تتجه بشكل أساسي نحو وضع يكون فيه تقييم قوة الولايات المتحدة أنها محدودة – على الرغم من أنها قد لا تزال قوية للغاية من حيث القيمة المطلقة، ولكنها في حالة تراجع نسبي. وهذا يعني بشكل أساسي أن يكون الاعتماد على الأداة العسكرية بمعدل أقل.
جون ألترمان: وتقول توتشي أيضاً إن هذا الشعور يتجاوز مجرد التردد في استخدام الجيش.
ناتالي توتشي: لقد عدنا الآن إلى وضع تقل فيه المشاركة العسكرية، ولكن هناك أيضاً مشاركة دبلوماسية وسياسية أقل في الوقت ذاته. على أحد المستويات، يمكنك القول أن هذا هو التوازن الذي يتم إعادة تشكيله، ولكن الحقيقة أنه يتم إعادة تشكيله على أنه طموح أقل وحالة من التوازن المطّرد.
جون ألترمان: لكن الموضع الذي يمكن أن يوصل هذا الحال الولايات المتحدة والعالم إليه، ليس بالأمر الجيد تماماً.
ناتالي توتشي: هل ساعدت الولايات المتحدة في حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني؟ أعتقد أنها كانت في الواقع وإلى حد كبير جزءا من أسباب عدم الوصول إلى حل قائم على وجود دولتين، ولكن في نفس الوقت، نظراً إلى المدى الذي سارت فيه الأمور، هل سيكون خروج الولايات المتحدة من المشهد مفيداً للوصول إلى حل الدولتين- في إسرائيل / فلسطين؟ على الأغلب لا. فنظراً لأن الولايات المتحدة كانت شديدة الانخراط في سياسات الشرق الأوسط، فإن مجرد استبعاد الولايات المتحدة من المعادلة لا يعني بالضرورة أن كل شيء سيبلغ مراده بطريقة سحرية.
جون ألترمان: وهل وضع الولايات المتحدة التي تتصرف الآن كما كانت تتصرف أوروبا من قبل في الشرق الأوسط، أمر جيد بالنسبة لأوروبا؟
ناتالي توتشي: بالنسبة لأوروبا، أود أن أقول نعم ولا في نفس الوقت. جيت ستكون الإجابة بنعم مباشرة إذا كان الأوروبيون في موقع يمكنهم من ملء الفراغ الذي تخلفه الولايات المتحدة وراءها. أتمنى أن أقول إن هذا هو الموقف الذي نحن فيه الآن، لكنه من الواضح أنه ليس كذلك، حيث إن الفراغ الذي تتركه أمريكا لا يملأه الأوروبيون، بل غيرهم. جيت يتم ملء هذا الفراغ من قِبل روسيا، إيران، إسرائيل، دول الخليج، أو تركيا.
جون ألترمان: في حين ترى توتشي أنه فراغ، يرى بريان كاتوليس أنه يشكل في الحقيقة فرصاً، خاصة إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على رفع مستوى لعبتها الدبلوماسية.
بريان كاتوليس: والآن هناك جهود على الأقل لتخفيف حدة التوترات وتقليلها — لإنهاء حالات المقاطعة وفتح العلاقات من جديد. وبناء عليه، فإنه ينبغي أن يبني الدبلوماسيون الأمريكيون على ذلك؛ أن يقولوا في الواقع “حسناً، نحن نحب ما تقومون به هنا. ولكن كيف يمكن للولايات المتحدة أن تكون جزءاً من هذا، وتلعب دوراً رئيسياً ليس فقط في ملف الأمن؟” ولكن تعد زيادة التعاون الأمني أحد جوانبها، بالإضافة إلى تعزيز أمور أخرى مثل زيادة الاعتماد الاقتصادي المتبادل.
ويعتقد كاتوليس أن جزءاً من تصعيد اللعبة الدبلوماسية الأمريكية هو الاعتراف أيضاً بالدور الذي يلعبه الأمريكيون الذين ليسوا من منسوبي السلك الدبلوماسي في إنجاح الدبلوماسية.
بريان كاتوليس: بدأت مسيرتي المهنية في الشرق الأوسط، حيث عملت في منظمة غير حكومية تسمى المعهد الديمقراطي الوطني (NDI) في أماكن مثل الضفة الغربية وغزة ومصر. أعتقد أن ما كنا نفعله وما زالت تلك المجموعات تحاول القيام به هو نوع من الدبلوماسية للمساعدة في محاولة وضع البذرة. هذه البذور ليست مهارات فقط، ولكنها أيضاً علاقات – وهي جزء أساسي من الدبلوماسية التي تؤدي إلى محاولة إنجاز الأمور. إنهم يقيمون كثير من العلاقات والروابط بين الدول، لذلك يوجد خارج إطار وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والهياكل النموذجية للحكومة الأمريكية، جزء آخر كامل من المجتمع الأمريكي يتمتع في بعض النواحي بالاستقلالية إلى حد كبير والتي تشكل الظروف على الأرض – ولكن في بعض الحالات الأخرى يكون متناغماً معها. هذا نوع آخر من المشاركة لا ينتج عنه بالضرورة مكاسب سريعة، ولكنه ينتج شبكات من العلاقات التي أعتقد أنها تصبح ضرورية في أوقات الأزمات.
جون ألترمان: تقول توتشي إن التحول الحقيقي الذي يحدث هو ذلك النهج الذي يتضمن…:
ناتالي توتشي: هو النهج الذي يتضمن أهدافاً أكثر محدودية، بافتراض أنه ليس من اختصاصنا تحديد مصير العالم. ويتعلق هذا الأمر في الحقيقة بمحاولة حث القوى الإقليمية على إيجاد مداخلها الخاصة لحل مشاكلها. وهذا في الحقيقة هو هدف الدبلوماسية. فبدلاً من تحديد الحل، فإن الدبلوماسية هي مجرد رؤية تبين إلى أي مدى يمكنك إنشاء سياق ملائم للقوى الإقليمية للقيام بما ستوافق هي عليه.
جون ألترمان: لكن هذا يبدو شيئا ما أشبه بالسلبية، وهذا ليس ما يفكر فيه كاتوليس على الإطلاق. حيث يعتقد أن على الدبلوماسيين الأمريكيين أن يكونوا أكثر نشاطاً وأكثر نقداً للذات.
بريان كاتوليس: في الحقيقة، ليس هناك تقييمات أو تحليلات كافية لما تقوم به وزارة الخارجية الأمريكية. فحتى يومنا هذا – وبعد أكثر من عشر سنوات على بدء الانتفاضة العربية (الربيع العربي) – ليس لدي علم بأن هناك أي دراسة، داخل الحكومة أو خارجها، ناقشت كيف يمكن أن تكون استجابة الوكالات المدنية داخل الحكومة، وخاصة وزارة الخارجية، لمثل هذه الأحداث. حيث تُعتبر الثقافة جزءاً أساسياً من التحدي. وأعتقد أنه إذا جرى تدريبك، كعنصر في السلك الدبلوماسي، فإن جزءاً أساسياً من هذا التدريب هو كيفية إرسال التقارير ونقل الرسائل. نعم، قد يقوم بعض الأشخاص بأكثر من ذلك، ويكونون أكثر فاعلية في ذلك، ولكن لا تتوفر ثقافة تعلم نشطة تساعد في تحسين أداء المهمات هناك.
ويعتقد بيكرينج أن الولايات المتحدة بحاجة إلى بذل المزيد من الجهد لصقل طريقة تفكيرها. ويستشهد في ذلك بتعليق منسوب إلى الرئيس هاري ترومان، عندما سئل عن المصالح الحيوية لأمريكا.
توماس بيكرينج: نعم، عندما سئل الرئيس هاري ترومان عن المصالح الحيوية لأمريكا، قال، “هما اثنتان فقط: البقاء والازدهار”.
جون ألترمان: إذا كان ترومان على حق، فهو يجادل،
توماس بيكرينج: في الشرق الأوسط وفي أي مكان آخر في العالم، قمنا في جزء كبير من الوقت بإقحام أنفسنا بعمق كبير وباهظ التكلفة في ما يمكن أن أسميه “قضايا الدرجة الثانية عالية المستوى” والتي لا تؤثر بشكل مباشر على بقائنا وازدهارنا.
جون ألترمان: تأسس جزء من انخراطنا هناك على المسؤوليات التي ننسبها لأنفسنا، كوننا قوة عظمى، وإحساسنا بأنه…:
توماس بيكرينج: بأنه يجب أن يُنظر إلينا على أننا أكثر من مجرد أسرى لتعريفنا الضيق لما يجب أن نسعى لتحقيقه أو تجنبه في العالم.
جون ألترمان: هو يعتقد أن خطأنا هو أننا نسينا كيفية التمييز، وأننا نواصل تكديس الأشياء التي نصفها بأنها مصالح حيوية – ونتصرف كما لو كانت فعلا مصالح حيوية – ولكنها في الحقيقة ليست كذلك.
وهو ما يبدو كطوق معلق حول رقابنا. وهذا ما يمكن أن أسميه عجز الإستراتيجية.
جون ألترمان: على مدى العقدين الماضيين، شددت الولايات المتحدة على اعتماد الحلول العسكرية لمشاكل الشرق الأوسط. ولكن بندول الساعة دار إلى الوراء، والآن هناك دعوات واسعة النطاق لمزيد من الدبلوماسية الأمريكية. فالدبلوماسية عملية مختلفة تماماً، ولها أهداف مختلفة، ونتائج مختلفة، وجداول زمنية مختلفة. ففي حين أنها تتطلب وزارة خارجية نشطة، إلا أنها تتطلب أيضاً تفكيراً أكثر صعوبة فيما يهم الولايات المتحدة في واقع الأمر. وباختصار، فإن الدعوة إلى انخراط عسكري أقل وإلى مشاركة دبلوماسية أكثر ليست ببساطة هي الحل للمشكلة. ولكن عوضاً عن ذلك، فإنها تسلط الضوء على أهمية تقديم إجابات على الأسئلة الصعبة التي لم تعالجها الولايات المتحدة لفترة طويلة.
في الحلقة القادمة من هذا البودكاست، سنتناول جهود القوة الناعمة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط والأثر الذي تركته المثل العليا للولايات المتحدة وثقافتها في المنطقة.
.
رابط المصدر: