عادل رفيق
في هذه الحلقة الخامسة، من المدونات الصوتية التي ينشرها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) تحت عنوان “بابل: تفسير الشرق الأوسط”، يتناول جون ألترمان -النائب الأول لرئيس المركز، ومدير وحدة زبيجنيو بريجنسكي للأمن والجيواستراتيجية العالمية ومدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز- القوة الناعمة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والأسباب التي تجعل الثقافة والمثل العليا والمؤسسات الأمريكية عوامل جذب دائم في المنطقة – وحول العالم.
حيث يقوم مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو منظمة أبحاث سياسات غير ربحية وغير حزبية، من خلال هذه المجموعة من المدونات الصوتية، بتنظيم نقاشات مع خبراء دوليين وإقليميين ومسؤولين سابقين، تأخذ المتابع إلى ما وراء العناوين الرئيسية لمحاولة فهم ما يحدث بالفعل في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. حيث يعمل الخبراء الدوليون والإقليميون الذين يستضيفهم البودكاست على تفسير ما يجري على أرض الواقع، من خلال تسليط الضوء على الاتجاهات المختلفة، وكذلك سياقات التطورات المحورية في هذه المنطقة الهامة من العالم.
وقد قام المعهد المصري للدراسات بترجمة ونشر النص الكامل للجزئين الأول والثاني والثالث والرابع من هذا النقاش الهام. وفيما يلي ترجمة الجزء الخامس الذي تم نشره باللغة الإنجليزية على موقع CSIS في 4 إبريل 2022 – وذلك على النحو التالي:
في الجزء الخامس من هذه السلسلة، يتحدث ألترمان مع بول سالم، رئيس معهد الشرق الأوسط؛ وليزا أندرسون، التي شغلت منصب رئيس الجامعة الأمريكية في القاهرة من 2011 إلى 2016؛ والعنود الشارخ، وهي ناشطة كويتية في مجال حقوق المرأة وزميل مشارك في تشاتام هاوس.
جون ألترمان: ساعد جوزيف ناي منذ حوالي 30 عاماً على نشر فكرة القوة الناعمة. وخلال فترة الحرب الباردة، اعتدنا على التفكير في القوة الصارمة – أي استخدام الجيش لإكراه دولة أخرى على الامتثال لما نريد. وكانت الولايات المتحدة في سباق تسلح مستمر مع الاتحاد السوفيتي. ولكن في نهاية المطاف، ساعد عدم قدرة الاتحاد السوفيتي على مواكبة الإنفاق الدفاعي لإدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريجان على تفكيك البلاد (الاتحاد السوفيتي) وإنهاء الحرب الباردة دون إطلاق رصاصة واحدة.
ولكن كما كان يرى ناي، فإن عالم ما بعد الحرب الباردة كان كفيلا بأن يفرض مجموعة أكثر تعقيداً من التحديات على الولايات المتحدة، بحيث تتضاءل فيه الفائدة المرجوة من وراء استخدام القوة الصلبة. لذا كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى إيجاد طرق أخرى غير الإكراه لجعل الدول الأخرى تريد نفس ما تريده الولايات المتحدة. وهذا لا يعني أن تؤمن الدول الأخرى بشرعية القوة العالمية للولايات المتحدة، بل يشمل أيضاً تلك الدول التي تشعر بأنها متوائمة اقتصادياً وثقافياً وفكرياً مع الأهداف التي تريد الولايات المتحدة تحقيقها وحتى المكان الذي تريد الذهاب إليه.
لقد سمعت عمرو موسى، الذي كان يشغل نصب الأمين العام لجامعة الدول العربية والذي شغل قبله منصب وزير الخارجية المصري، سمعته على مدى سنوات عديدة وهو ينتقد السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وقبل أسابيع قليلة رأيته أثناء محاضرة كنت ألقيها في القاهرة. وليس من المستغرب حينها أن يبدأ سؤاله بانتقاد السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
حيث قال عمرو موسى: ذهبتم إلى العراق بهدف الدمقرطة ثم تركتموها لإيران. وقد أثار ذلك الكثير من الأسئلة حول مصداقية السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وعلى وجه الخصوص كقوة عظمى. لقد أضرت علامات الاستفهام هذه كثيراً بالولايات المتحدة.
جون ألترمان: ولكن مع ذلك، فحتى هو نفسه يعترف بأنه لا يزال هناك شيء فريد تمتلكه الولايات المتحدة وهو قدرتها على جعل الناس يحذون حذوها، حيث يقول عمرو موسى: لقد فازت الولايات المتحدة بمكانتها كقوة عظمى مرموقة على أساس استخدامها للسياسة الناعمة – هارفارد، ناسا، هوليوود، وأضف إلى ذلك ما شئت – تلك العلامات التي جذبت انتباه العديد من الأجيال. لقد نشأ الكثيرون مع نموذج الولايات المتحدة: الفيلم الأمريكي، والسيارات القادمة من أمريكا، والجامعات التي كانت لدينا – لذا فإن هذا النوع من القوة الناعمة لا يجب أن يتأثر بنهج السياسة الصارمة.
جون الترمان: وجهة نظر عمرو موسى هذه تعبر عن نقطة طالما سمعتها على مدى عقود في جميع أنحاء المنطقة. فغالباً ما يكره الناس هناك سياسة الحكومة الأمريكية، لكن هذا ليس الشيء الوحيد الذي يفكرون فيه عندما يفكرون في الولايات المتحدة.
أقدم الآن “العنود الشارخ”، وهي ناشطة كويتية في مجال حقوق المرأة وزميل مشارك في تشاتام هاوس. وكانت زميلة في فولبرايت بالولايات المتحدة بعد تلقي تدريب أكاديمي في أوروبا. وهي تقول نفس الشيء إلى حد كبير.
العنود الشارخ: بشكل عام، في كل الجمعيات الثقافية التي شاركت فيها أنا والكثيرين في الكويت وخارجها، فإننا جميعاً نشاهد أفلام نتفليكس؛ وجميعاً نستخدم نفس المنتجات التقنية المصنوعة في الولايات المتحدة. بالتأكيد، هناك بعض الصور النمطية عن الولايات المتحدة مثل كونها متحللة أخلاقياً. ويوجد لدى البعض تحفظات على سياساتها الأخيرة بعد فترة الربيع العربي، أو شكوك قوية بشأن استخدام القوة للدخول في العراق وأفغانستان، ثم الانسحاب مؤخراً من أفغانستان. أعتقد أنه على الرغم من كل ذلك، يريد الكثير من أبنائهم مواصلة تعليمهم هناك والاستفادة من فرص اكتساب مثل تلك الثقافة التطلعية والمنفتحة أكاديمياً والتي تمثلها الولايات المتحدة.
جون ألترمان: وكذلك العلامات التجارية الأمريكية مرغوبة عالمياً. والتعليم في الولايات المتحدة هو المعيار الذهبي لدى الكثيرين. وهوليوود فريدة من نوعها في قدرتها على الترفيه وكذلك الإلهام. لذلك، لا تزال الثقافة الأمريكية جذابة في جميع أنحاء العالم كما كانت من قبل. لكن ما الذي يجعل الثقافة الأمريكية جذابة للغاية في الشرق الأوسط؟ وماذا يعني ذلك بالنسبة لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة؟
أرحب بكم معنا في هذه السلسلة من البودكاست، حيث نتحدث فيها إلى كبار الخبراء وصناع القرار السابقين حول دور قوة الولايات المتحدة ونفوذها في الشرق الأوسط. أنا مضيفكم في السلسلة، الدكتور جون ألترمان، النائب الأول لرئيس المركز، ومدير وحدة زبيجنيو بريجنسكي للأمن والجيواستراتيجية العالمية ومدير برنامج الشرق الأوسط بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن العاصمة. في هذه الحلقة، سوف نستكشف معاً جذور القوة الناعمة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ونتتبع أيضاً الأسباب التي جعلت ثقافة الولايات المتحدة ومُثُلها ومؤسساتها شديدة الثبات في تلك المنطقة وخارجها.
جون ألترمان: قد تكون الثقافة والتجارة الأمريكية من أكثر الجوانب التي يمكن تحديدها للقوة الناعمة للولايات المتحدة، لكن كليهما تكاد تكونان المصدر الوحيد لها. إن فكرة “الولايات المتحدة” بحد ذاتها هي واحدة من أكبر مصادر القوة الناعمة لأمريكا في الشرق الأوسط وحول العالم. لقد وُلدت الولايات المتحدة كتجربة ديمقراطية راديكالية ترتكز على مُثُل كحق تقرير المصير والتسامح الديني وحرية الفكر والتعبير والانفتاح.
بول سالم: كان واضعو دستور الولايات المتحدة حالمين كثيراً. كانوا يبنون مدينة على تل. كانوا يبنون “القدس الجديدة” كما كانوا يطلقون عليها في كثير من الأحيان. فالولايات المتحدة تنطوي على جوانب عديدة من الطموح والرغبة في التغيير بشكل كبير. لقد عهد الناس تلك الجاذبية الكبيرة للولايات المتحدة، لا سيما في الجزء الأول من القرن العشرين، مع التفكير بأنها كانت في الحقيقة تمثل مجتمعاً مختلفاً – مجتمع الحرية والمساواة والفرص والتعددية الثقافية. حيث تختلف الولايات المتحدة إلى حد كبير عن المجتمعات الأوروبية، تلك المجتمعات شديدة الطبقية والمدفوعة بالهوية إلى حد كبير.
جون ألترمان: أقدم لكم بول سالم: وهو مزدوج الجنسية، كونه أمريكي من أصل لبناني. إنه أكاديمي محترف وموسيقي حاذق وهو الآن رئيس معهد الشرق الأوسط. كان سالم قد نشأ في بيروت قبل أن ينتقل إلى الولايات المتحدة للدراسة في جامعة هارفارد. وفي حديثه عن الناس في منطقة الشرق الأوسط، يقول بول سالم إن ما يميز الولايات المتحدة حقاً عن بقية دول العالم هو ملَكة الطموح. لقد عاش العرب قروناً تحت الهيمنة العثمانية ثم الهيمنة الأوروبية. ثم جاءت الولايات المتحدة لتطيح بكل القوى الاستعمارية. ومع المضي قُدما، حمل نموذج الولايات المتحدة راية المساواة والحرية والديمقراطية. وكان لذلك صدى واسع النطاق في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ولا يزال يتردد صداه حتى الآن.
جون ألترمان: كانت الولايات المتحدة، خلال معظم القرن الماضي، تعمل جاهدة على دعم هذه الفكرة حتى يتردد صداها في الشرق الأوسط. وكان الرئيس وودرو ويلسون مؤيداً قوياً لإقرار حق تقرير المصير للمستعمرات السابقة للإمبراطورية العثمانية (التي سقطت بعد ذلك تحت سيطرة القوى الاستعمارية الأوروبية).
بول سالم: الولايات المتحدة جاءت لتعرض حق تقرير المصير الذي تبناه الرئيس وودرو ويلسون وتصدّت للأطماع الفرنسية وغيرها من الأطماع الإمبريالية. حيث كان يُنظر إلى الولايات المتحدة على أنها قوة تقدمية تدعم حق تقرير المصير الوطني.
جون ألترمان: ولكن حسن النية هذا لم يدم طويلا.
بول سالم: في بيئة ما بعد الحرب العالمية الثانية، عَلَقت الولايات المتحدة على الفور في قضية إنشاء دولة “إسرائيل”. وكان دعم الولايات المتحدة لإسرائيل هو محور حديث العرب من عام 1948 وحتى اليوم. وكانت الولايات المتحدة في الجانب الخطأ في هذه القضية، وقد رأيت ذلك كثيراً في بيروت وبغداد ودمشق والقاهرة. وعلى الرغم من المشاعر الإيجابية المتأصلة هناك تجاه الولايات المتحدة – وثقافة الولايات المتحدة – فقد تجاوزتها المشاعر السلبية تجاه سياسات أمريكا في المنطقة، ولا سيما دعمها لإسرائيل.
جون ألترمان: لكن هذا لا يعني أن نموذج الولايات المتحدة قد نضب تأثيره مع ذلك. فعوضاً عن ذلك، أصبحت نفس المُثُل التغييرية التي حدّدت صورة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أساساً للحركات التي نشأت لمواجهة ما رأته الجماهير العربية على أنه تدخل من الولايات المتحدة في المنطقة.
بول سالم: القوة الناعمة الغربية تأتي من كل شيء، بدءاً من التعليم الغربي إلى القيم الديمقراطية مثل القومية وحق تقرير المصير. حيث تحمل هذه القيم في ذاتها بذور رفض القوى الخارجية، سواء القوة الفرنسية أو القوة الأمريكية. وكانت تلك القيم هي نفس الأدوات التي استخدمتها كثير من الحركات العربية لمحاربة الأمريكيين والفرنسيين. وبالتالي، فهي ذلك النوع المثير للاهتمام من القوة الناعمة التي تصبح في النهاية سبب زوالها.
جون ألترمان: يمكن القول إن الولايات المتحدة نفسها قد زرعت بعض بذور المقاومة لجهود الحكومة الأمريكية في الشرق الأوسط. لكن في الأيام الأولى، لم يكن معظم عمل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط نشاطاً حكومياً على الإطلاق. فقد جاء المبشرون إلى الشرق الأوسط لنشر البروتستانتية الأمريكية في أنحاء البلاد التي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، لكن تأثيرهم الأكثر ديمومة كان من خلال جامعتين اثنتين: الجامعة الأمريكية في بيروت (AUB) والجامعة الأمريكية في القاهرة (AUC). فعلى الرغم من أن سمعة تلك المؤسسات قد تضاءلت وانحسرت، إلا أنها أصبحت مركزية في حياة النخبة في كلتا العاصمتين العربيتين، وبالتالي في جميع أنحاء العالم العربي.
بول سالم: نشأت الجامعة الأمريكية في بيروت في العاصمة اللبنانية، وكان لها حضور كبير هناك. حيث كانت مؤسسة كبرى شكلت ما يعرف برأس بيروت – وهو مجتمع متعدد الثقافات ومنفتح ازدهر حتى نشوب الحرب الأهلية في عام 1975. كان والدي يعمل في سلك التدريس في تلك الجامعة وعمل أيضاً في الإدارة. وقد نشأت أنا في ظل الجامعة الأمريكية، حيث كان جزء من دراستي المدرسية في الكلية الدولية – وهي مدرسة إعدادية أنشأتها في الأساس الجامعة الأمريكية في بيروت.
جون ألترمان: ولكن بحلول عشرينيات القرن الماضي، تخلت الجامعتان عن هويتهما الدينية (البروتستانتية) إلى حد كبير، لكنهما لا تزالان وسيلة لنشر رسالة ثقافية واضحة. وقد عملت ليزا أندرسون في المجال الأكاديمي لمدة أربعة عقود، حيث عملت كرئيسة للجامعة الأمريكية في القاهرة خلال الربيع العربي، من 2011 إلى 2016. وقبل ذلك، قضت عشر سنوات في منصب عميد كلية الشؤون الدولية والعامة في جامعة كولومبيا من 1997 إلى 2007. وهي تقول إن تلك الجامعات بدأت في تبني أسلوب تعليمي مختلف.
ليزا أندرسون: هذا ما تمثله الجامعة الأمريكية في القاهرة والجامعة الأمريكية في بيروت وبعض المؤسسات الأخرى على الطراز الأمريكي في المنطقة والعالم – حيث هناك طريقة معينة لتعليم الأشخاص تجعلهم أفضل استعداداً لمواجهة تحديات الحياة كمحترفين وكمواطنين، وكأعضاء في المجتمع. لقد أمضينا الكثير من الوقت في شرح ذلك بالإضافة إلى وضعه حيز التنفيذ.
جون ألترمان: يتمثل جزء كبير من هذا النموذج في إخضاع الطلاب لطرق جديدة للتعلم والتفكير.
ليزا أندرسون: أعتقد أن جزءاً مما تمثله الجامعة الأمريكية بالقاهرة هو الاقتناع بأن هناك نوعاً معيناً من التعليم مرتبط بالابتكار والإبداع الذي يربطه الكثير من الناس في العالم بالولايات المتحدة. ونحن نطلق على هذا النوع الخاص من التعليم “نموذج الفنون الليبرالية”، حيث تقوم بالكثير من التدريب المتنوع والشامل، باستخدام تعبيرات ألعاب القوى.
جون الترمان: تقول العنود الشارخ، قادمة من الشرق الأوسط، هذا النوع من التجربة يمكن أن يكون تجربة ثورية.
العنود الشارخ: أمضيت فصلي الدراسي الأول كطالبة جامعية في كلية ولسلي. وحتى تلك اللحظة، كنت أعيش حياة محافظة اجتماعياً، لكنني لم أعش أبداً في بيئة أحادية الجنس من قبل. لقد كانت تجربة مثيرة وصعبة للغاية. لقد مكثت في الحرم الجامعي، وفي مساكن الطلبة، حيث كانت هناك لافتات كبيرة تحمل شعارات من سبعينيات القرن الماضي، مثل “المرأة تحتاج إلى الرجل مثلما تحتاج السمكة إلى دراجة هوائية” – بمعنى أن المرأة لا تحتاج إلى الرجل ولا يضيف وجوده إليها شيئا. أتذكر أنني التحقت بفصل للأدب الأفريقي الأمريكي حيث كانت هناك نقاشات عاطفية حول من صاحب “الإكس” في فيلم (مالكولم إكس) وكل هذه الأفكار حول الهوية والتملك. كانت هذه هي المرة الأولى التي أجدني منغمسةً في جو احتفل بكوني امرأة – وامرأة ذكية وطموحة في ذلك الوقت.
جون ألترمان: يتعلق جزء من ذلك بالطريقة التي تم بها تعليم الطلاب الأمريكيين كيفية التفاعل مع المتعلمين الآخرين – ومعلميهم.
ليزا أندرسون: أعتقد أن ما يجده الناس جذاباً – هو الطابع غير الرسمي والابتعاد عن التقيد بالتسلسل الهرمي. المواطنون الأمريكيون مرتاحون بالتعامل مع بعضهم البعض في بيئة الفصل الدراسي. فقد يقاطع بعضهم البعض. وقد يتجادلون مع بعضهم البعض وأحيانا مع أعضاء هيئة التدريس أيضاً. فهناك نوع من “المساواة” عند الأمريكيين بشكل عام، مع عدم الميل للالتزام بالطريقة الرسمية في التعامل، والذي أعتقد أنه قد يبدو مثيراً للاشمئزاز في البداية، إذا كنت تنتمي إلى بيئة تعليمية تقليدية يتم تبجيل وتوقير الأستاذ فيها. ولكن بمجرد أن تدرك أنه حقيقي وغير مصطنع، فإنك تحبه؛ أو تجد نفسك مدفوعاً إلى حبه. إنها طريقة مختلفة للتعلم. إنها طريقة أكثر متعة للتعلم.
جون ألترمان: هذا الشعور بالمساواة يستدعي المبادئ الأساسية للتجربة الأمريكية. ومع ذلك، فمن الناحية العملية، يعني هذا أن الطلاب في هذا النوع من البيئة يشعرون بالراحة في طرح الأسئلة على السلطة. وهذا يعني أن السلطات الأمريكية مستعدة للاستجواب.
ليزا أندرسون: من الأشياء التي وجدتها أكثر إثارة للإعجاب من حقيقة أن الطلاب الأمريكيين يميلون إلى التصرف على راحتهم في استجواب السلطة هو أن الإدارة الأمريكية للجامعات تتوقع ذلك، في حين أن إدارة الجامعات المصرية عادة ما تتوقع إظهار الاحترام للسلطة. ولكن لا يتوقع المسؤولون الأمريكيون ذلك، حتى لو كانوا في مناصب تمثل السلطة، لذلك عندما يتحدى الطلاب سلطتنا، فإننا لا نفاجأ بذلك بشكل خاص. فهو يبدو مشابهاً نوعاً ما لما كان يفعله طلاب الجامعات. أعتقد أن هذا هو ما كان يشكل مفاجأة للطلاب أكثر من أي شيء آخر. لقد توقعوا منا أن نتخذ إجراءات صارمة – أن نكون معاديين لتلك التصرفات. لقد كانت فكرة قولنا لهم، “نعم بالطبع من المفترض أن تتساءل وتتشكك حول ما نفعله” كانت تشكل مفاجأة حقيقية لهم.
جون ألترمان: كانت ليزا أندرسون رئيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة خلال الاحتجاجات التي أسقطت رئيساً بالفعل، وأثناء الانتخابات التي أتت برئيس آخر، والاحتجاجات اللاحقة التي (استخدمت) للإطاحة بالرئيس المنتخب. وخلال معظم فترة عملها، كان الشباب المصريون يرون أمامهم مستقبلاً يسوده عدم اليقين.
أعتقد أن نظرية التعليم تنتقل بالفعل بشكل جيد. وبمجرد أن يفهمها الناس، فإنهم يجدونها تجذبهم بشكل ما. ويرون أنه من المنطقي أنهم سيكونون أكثر استعداداً للتفكير بشكل إبداعي، مع تطور الأحداث على مدار العشرين عاماً القادمة.
جون ألترمان: قالت السيدة أندرسون إن الجامعة الأمريكية بالقاهرة كانت مدركة للدور الذي كانت تلعبه في تلك الأيام العصيبة.
ليزا أندرسون: لا أستطيع أن أقول إنني أعتقد أننا أثّرنا حقاً في مسار الأحداث التاريخية في مصر بأي طريقة مهمة، لكنني أعتقد أنه من الصحيح أن نعترف أننا عمدنا وبوعي ذاتي إلى صياغة نموذج لسياسة التعبير الحر في الحرم الجامعي. وأود أن أعتقد أن هناك أثراً لذلك. وأحب أن أعتقد أن الناس يشعرون أنهم يتمتعون بقدر أكبر من الفاعلية ويؤمنون بأنفسهم بأنهم يتصرفون بشكل أكثر فاعلية في العالم عما كانوا سيفعلون بخلاف ذلك. وأعتقد أن هذا صحيح، لكنني أعتقد أيضاً أنه في بعض النواحي يمكنك أن تنظر إلى الوراء في تلك الفترة، لتجد أشخاصاً يشعرون بأنهم تعرضوا للخيانة لأنهم دفعوا إلى الاعتقاد بأنهم سيكونون قادرين على القيام بأشياء تبين بعد ذلك أن الحال ليس كذلك.
جون ألترمان: الإحساس بإمكانية الفعل، والذي كان يشعر به المصريون آنذاك لم يكن قاصراً على نموذج الولايات المتحدة، وإن كانت تبرز فيه النكهة الأمريكية.
العنود الشارخ: بالنسبة لي، أجد في داخلي قوة ناعمة طموحة عندما أفكر في الولايات المتحدة. سواء كان ذلك يتمثل في أفلام هوليوود أو في الحركات السياسية، حيث هناك تلك القدرة على تسويق الفكرة والترويج لها، وجعلها جذابة، وتبسيطها للآخرين. ثم ما يفتأ يتردد صداها على نطاق واسع، حتى لو كانت نقطة انطلاقها في مكان آخر – مثل حركة “أنا أيضاً” أو “حياة السود مهمة”.
جون ألترمان: يقول بول سالم إنه يمكنك رؤية هذه الظاهرة في ثقافة موسيقى البوب الأمريكية أيضاً.
بول سالم: الموسيقى الاحتجاجية وموسيقى الشباب في الستينيات والسبعينيات، والتي كانت جزءاً من الثورة في الغرب، كان لها صدى قوي في الشرق الأوسط. كان ذلك واضحا جدا.
جون ألترمان: تلك الطبيعة التركيبية للثقافة الأمريكية جعلت من الصعب تحديدها وتعريفها لأنها تتغير دائماً – من حيث توليف ودمج عناصر من الثقافات والأفكار والمجتمعات الأخرى في شيء جديد. ولكن في الوقت الذي يكون من الصعب تحديد أو تعريف ذلك، إلا أنك غالباً ما تعرفه عندما تراه. أليس كذلك؟ وبما أن الولايات المتحدة قد استوعبت الكثير من الثقافات العالمية، وبما أن تلك الثقافات العالمية قد اصطبغت كثيراً بالولايات المتحدة، فهل يا ترى تُعد الأمركة والعولمة هما الشيء نفسه؟
ليزا أندرسون: أعتقد أن الارتباط بين الاثنين لا يزال قوياً للغاية لأن أصول الكثير من دوافع العولمة نشأت في الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإني أعتقد – سواء كان ذلك للأفضل أو للأسوأ – أن العولمة تصبح بشكل متزايد أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة ومستقلة كذلك عن الأشياء الأمريكية.
وإذا فكرت في وسائل التواصل الاجتماعي، فإنها يتم نشرها الآن بطرق لا تعكس كثيراً أي شيء يرتبط بأمريكا – لا بالقيم الأمريكية، ولا بالقضايا الأمريكية، ولا بأي شيء أمريكي على الإطلاق. فبعد أن كان الاثنان (أمريكا والسوشيال ميديا) يرتبطان ارتباطاً وثيقاً لبعض الوقت، إلا أنه قد تم فصلهما عن بعضهم مرة أخرى، سواء كان ذلك للأفضل أو للأسوأ.
جون ألترمان: تقول ليزا أندرسون إن هذا يبرز في الطريقة التي ينظر بها الأمريكيون لحقوق المرأة وحقوق الإنسان، في الوقت الذي يرى المصريون الأمر بشكل مختلف.
ليزا أندرسون: أعتقد أن الأمريكيين يميلون إلى ربط حقوق المرأة بالحقوق بشكل عام – بحيث تكون حقوق المرأة هي حقوق الإنسان. لكن الأمر المثير للاهتمام للغاية هو إلى أي مدى يمكن اعتبار الأمر كذلك؟ فعلى سبيل المثال، إذا نظرت الآن إلى حكومة السيسي في مصر، ستجد فيها عدداً كبيراً من النساء – فهناك نساء موهوبات وذوي مهارات ومن الواضح أنهن في مواقع رفيعة جداً في الحكومة المصرية. ولكن هذا ليس له علاقة بمدى انتشار حقوق الإنسان في مصر، لذلك أعتقد أن ما ستراه هو تفكيك لتلك الأنواع من الارتباطات التي يميل الأمريكيون إلى نشرها عبر العالم. فبينما قد ترى المزيد والمزيد من النساء في مناصب رفيعة بالقطاع العام والحكومات وما إلى ذلك، لا تجد أي ارتباط كبير بين ذلك وبين تطبيق مبادئ الديمقراطية أو حقوق الإنسان أو أي من الأنواع الأخرى من الأشياء التي نربطها نحن بها هنا.
جون الترمان: العنود الشارخ تميل للموافقة على ذلك. فلنبدأ من نفس الموضع:
العنود الشارخ: لا أعتقد أنه يمكنك الهروب بعيداً عن النزعة النسوية الأنجلو أمريكية إذا كنت تدرس مجال، ونظريات، ونشاط، وحتى رد الفعل اللاحق ضد توجهات النسوية البيضاء أو تجارب الحركات النسوية غير البيضاء وأيضاً النسوية العابرة للجنس. فهذه أفكار قوية للغاية تشكل الكثير من الأفكار والمناقشات النسوية.
جون ألترمان: لكن بالرغم من ذلك،..:
العنود الشارخ: لا أرى أننا نتحرك إلى نفس موقف الولايات المتحدة من ذلك، لأننا لا نشترك في نفس نقطة البداية من الأساس أو حتى نفس النوع من التطلعات الثقافية. نحن أكثر توجهاً نحو المجتمع منه إلى الثقافات الفردية التي تهيمن على معظم المناقشات في الولايات المتحدة. لكنني أزعم أن هناك اهتماماً كبيراً في العديد من دول الخليج بتمكين المرأة، حتى وإن كان التوجه نحو ذلك يأتي من أعلى إلى أسفل، بدرجة كبيرة.
جون ألترمان: وحتى إذا كان معظم الشرق أوسطيين لا يسعون إلى جعل بلادهم متطابقة تماماً مع الولايات المتحدة، فإنهم ما زالوا يرون الولايات المتحدة كنموذج يحتذى به.
بول سالم: غالباً ما نلاحظ في لبنان أن أنصار حزب الله – بمن فيهم المؤيدين المخلصين للحزب – لا يريدون على وجه التأكيد الهجرة إلى إيران، ولا يريدون لأطفالهم أن يدرسوا في جامعات طهران. هذا بالمطلق. كما أنهم أيضاً لا يريدون الذهاب إلى مستشفى إيراني أو روسي أو صيني في حال مرضهم. ففي كل تلك الأمور، تأتي الولايات المتحدة في المقام الأول. فهذا رصيد كبير لها.
جون ألترمان: إن المُثُل والقيم والثقافة التي غمرت بها الولايات المتحدة الشرق الأوسط والعالم تجعلها أكثر جاذبية.
بول سالم: والكثير من الفضل في ذلك لا يرجع إلى حكومة الولايات المتحدة، بل يرجع إلى أن تجارب الولايات المتحدة – في الاقتصاد، ونظام التعليم العالي، والنظام السياسي (الذي يظل احتوائياً وشاملاً على الرغم مما يحاول الآخرون القيام به) – تشكل عوامل جذب قوية. لا تجد عوامل الجذب هذه في مكان آخر. حيث لا أحد يريد الانجذاب تجاه طهران أو بكين أو موسكو. وهذا جزئياً هو السبب في أن الولايات المتحدة – على الرغم من انحيازها سياسياً على النقيض من إرادات معظم الشعوب العربية خلال أغلب القرن العشرين – تظل مع ذلك هي الدولة ذات التحالفات الأكبر مقارنة بالدول الأجنبية الأخرى.
جون ألترمان: واليوم، لا تزال القوة الناعمة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وكذلك جاذبية الولايات المتحدة، لا تزال قويتين. حيث تلعب المنتجات الأمريكية والعلامات التجارية والثقافة الشعبية دوراً كبيراً في الحياة اليومية في هذه المنطقة. ويتعلق الكثير من ذلك بقوة الاقتصاد الأمريكي والعولمة؛ ولكن حتى الأكثر من ذلك، تظل “الولايات المتحدة” كفكرة راسخة وبارزة. فقد استمرت هذه الفكرة – القوة التغييرية للفرد في خلق المعنى والقيمة – استمرت في تحقيق مستويات من التقدم في الشرق الأوسط، حيث تواصل المؤسسات الأمريكية الرسمية وغير الرسمية على حد سواء المساعدة في الترويج لها. بل إنه في بعض الأحيان، ألهمت نفس الفكرة الناس ليصطفوا ضد حكومة الولايات المتحدة أو سياساتها. لكن الحقيقة أنها ساعدت في جعل العالم أكثر تقبلاً بالنسبة لمواطني الولايات المتحدة وصناع القرار على حد سواء.
في المرة القادمة في هذه السلسلة من البودكاست، سنلقي نظرة على آراء من الشرق الأوسط نفسه حول العقود القليلة الماضية من التدخل الأمريكي المكثف في المنطقة.
.
رابط المصدر: