نشرت مجلة وورلد بوليتيكس ريفيو (WPR) الأمريكية، في 9 أكتوبر 2023، مقالاً بعنوان: “سعيّد يغرق الديمقراطية والاقتصاد في تونس”، للكاتب والصحفي والمحلل فرانسيسكو سيرانو، حيث يرى أنه على الرغم من أن الرئيس التونسي قيس سعيّد يبذل جهوداً حثيثة وبشكل مُمنهج للحد من مساحة النقاش السياسي أو أي نشاط للمعارضة في تونس، إلا أنه ليست لديه خطة حقيقية لإنقاذ الاقتصاد التونسي من الانهيار.
وقد جاء المقال على النحو التالي:
في أوائل شهر سبتمبر، اعتقلت السلطات التونسية منذر الونيسي، نائب رئيس حزب النهضة المعارض والرئيس المؤقت بعد اعتقال رئيس الحزب راشد الغنوشي قبل أشهر، وكذلك عبد الكريم الهاروني، رئيس مجلس شورى الحزب. باعتبار هذا الاستهداف هو الأحدث في موجة من الاعتقالات التي طالت شخصيات معارضة تونسية، حيث كان للاعتقالات طابع متكرر ساهم في تعزيز الوضع الراهن، فضلاً عن الإشارة بقوة إلى تصاعد مظاهر تآكل الديمقراطية في البلاد في عهد الرئيس قيس سعيّد.
ومع ذلك، فإن تناول تلك الاعتقالات في وسائل الإعلام المحلية قد غطت ولو بشكل مؤقت على بعض التحديات الأكثر إلحاحاً التي كان التونسيون يتناولونها على مدى الأشهر الأخيرة، بما في ذلك التضخم، وندرة المواد الغذائية الأساسية مثل الخبز والسكر، واقتراب الدولة من حد الإفلاس.
في الواقع، فإن القضيتين (الديمقراطية والاقتصاد) لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، مما يشير إلى ثابتين اثنين قد ترسّخا في تونس تحت حكم قيس سعيّد: فلا يزال المخالفون و المعارضون السياسيون يقبعون خلف القضبان، وفي نفس الوقت يستمر الاقتصاد في التدهور. وإذا كانت الحكومة تعمل على إسكات المزيد من أصوات المعارضة، فإن ذلك يرجع جزئياً إلى افتقارها إلى أي حلول مقبولة أو خطة طويلة الأجل للأزمة الاقتصادية.
وباعتباره فاعلاً سياسياً رئيسياً في جميع البرلمانات المنتخبة منذ ثورة 2011، فقد كان حزب النهضة بمثابة الهدف المفضل لحملة القمع التي شنها سعيّد في البلاد. وسجن زعيم الحزب الإسلامي المعتدل راشد الغنوشي في شهر إبريل في إطار تحقيق لمكافحة الإرهاب يحقق في “تصريحات استفزازية” مزعومة أدلى بها الرجل البالغ من العمر 81 عاماً. وفي نفس الوقت الذي تم فيه اعتقال الغنوشي، أمرت السلطات أيضاً بإغلاق مكاتب حزب النهضة في جميع أنحاء البلاد.
واستهدف القضاء التونسي الذي أصبح أكثر خضوعاً للسلطة شخصيات معارضة أخرى أيضاً. فتم القبض على العديد من أعضاء جبهة الإنقاذ الوطني – وهي مجموعة من السياسيين وشخصيات المجتمع المدني التي عارضت استيلاء سعيّد على السلطة – في فبراير بتهمة التآمر ضد الدولة. وقد وصفت جبهة الإنقاذ الوطني الإجراءات القضائية التي اتُّخذت ضدها بأنها ذات دوافع سياسية. وفي الآونة الأخيرة، أُلقي القبض على عبير موسي، وهي سياسية معارضة شعبوية ليس لها عدد كبير من المتابعين، الأسبوع الماضي، بعد أيام فقط من إعلانها الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة ضد سعيّد.
ويتهم سعيّد بانتظام جميع من يختلفون مع حكمه الاستبدادي بـ “التآمر” ضد الدولة، باستخدام اتهامات سياسية ملفقة، بهدف القضاء على المعارضة قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في عام 2024. ولكن إمكانية إجراء انتخابات نزيهة في ظل هذا النظام غير الديمقراطي بشكل متزايد في تونس أصبحت الآن أمراً مشكوكاً فيه.
ومنذ توليه السلطة في انقلاب دستوري، أقال فيه الحكومة وأغلق البرلمان التونسي المنتخب في يوليو 2021، قام سعيّد أيضاً بعمل “إصلاح” للنظام السياسي في البلاد من جانب واحد.
ومن خلال استفتاء أُجري في صيف عام 2022، قام بسنّ دستور جديد يمنحه صلاحيات واسعة على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، بما في ذلك القدرة على تعيين حكومات جديدة دون الحاجة إلى موافقة البرلمان. وعلى الرغم من مشاركة أقل من ثلث الناخبين المسجّلين في هذا الاستفتاء، إلا أن سعيّد اعتبر أن نسبة الموافقة البالغة “94%” هي بمثابة انتصار لمشروعه لإعادة تشكيل هيكل الحكم في تونس إلى نظام رئاسي قوي.
ومع ذلك، فإنه بالنسبة للعديد من التونسيين، كان مشروع سعيّد يدور حول تحويل الديمقراطية المعيبة، في البلاد بشهادة الجميع، إلى دولة استبدادية يكون هو صاحب القرار فيها. فبينما قام بسجن شخصيات معارضة، قام في نفس الوقت بترقية مسؤولين في الجيش والأمن إلى مناصب رئيسية في الإدارة، في مسعى واضح لتحصين نظامه ضد الانقلابات العسكرية.
لكن بينما كان سعيّد يبذل جهوداً حثيثة وممنهجة في للحد من مساحة النقاش السياسي ونشاط المعارضة، فمن الواضح أنه ليس لديه خطة حقيقية لإنفاذ الاقتصاد من السقوط خلال الأشهر المقبلة.
ومنذ أن كرّس سعيّد السلطة بين يديه، قدّم نفسه على أنه الشخص الوحيد القادر على إنقاذ تونس. لكنه لم يقم هو ولا رئيس وزرائه الذي تم تعيينه حديثاً، أحمد الحشاني، بصياغة أي استراتيجية طويلة المدى للإصلاح أو تحقيق الاستقرار الاقتصادي، بل اختار بدلاً من ذلك اتخاذ تدابير اقتصادية غير ناضجة، تبدو في كثير من الأحيان وكأنها تستجيب للديناميكيات الشعبوية.
فعلى سبيل المثال، عندما واجهت البلاد نقصاً في توفير الخبز في شهر أغسطس، وكان ذلك راجعاً إلى حد كبير إلى عدم قدرة الحكومة على دفع ثمن واردات الحبوب ودعم الدقيق، قامت السلطات باعتقال رئيس النقابة الوطنية للخبازين، واتّهمته بالتصرف بشكل احتكاري. وبالمثل، كثيراً ما يهاجم سعيّد “المضاربين” الذين يلومهم على ارتفاع ندرة المواد الغذائية الأساسية والتضخم، بينما ينشر مكتبه سيلاً مستمراً من البيانات التي تسلط الضوء على اعتقالات تجار المواد الغذائية وزيارات الرئيس لمراكز التوزيع.
وحتى مع استمرار تعاظم سلطة سعيّد على الحكومة والدولة، لا يمكن أن يربط أحد أي خطأ يحدث في تونس بسياساته الخاصة.
لقد كانت تونس قد تم إنهاكها بالفعل بسبب سنوات من الاضطرابات السياسية، في الوقت الذي ضرب فيه فيروس كورونا البلاد. حيث أدت الجائحة بعد ذلك إلى تفاقم الظروف الاقتصادية والاجتماعية، ولم يساعد عدم اليقين السياسي الذي أعقب استيلاء سعيّد على السلطة على استقرار الاقتصاد أو جذب الاستثمار.
وفي أكتوبر 2022، أعلن صندوق النقد الدولي أنه توصل إلى اتفاق على مستوى الخبراء مع الحكومة التونسية بشأن برنامج قرض بقيمة 1.9 مليار دولار لتعزيز ظروف الاقتصاد الكلي ودعم الميزانية.
لكن هذه الصفقة متوقّفة منذ ذلك الحين، حيث يواصل سعيّد رفض الإصلاحات الضرورية، خاصة تلك التي تستهدف شبكة تونس من المؤسسات المملوكة للدولة الخاسرة، والأجور العامة، ودعم الوقود وبعض المنتجات الغذائية. ومن المؤكد أن سعيّد يعلم أن هذه الإصلاحات، إذا تم تنفيذها، فمن المرجح أن تؤدي إلى استياء اجتماعي واحتجاجات واسعة النطاق. لكن الانتظار حتى تتفاقم الأمور بشكل أكبر لا يبدو خياراً قابلاً للتطبيق أيضاً.
وقال مُعِزّ جودي، الخبير الاقتصادي التونسي ورئيس المعهد التونسي للإداريين، لوورلد بوليتيكس ريفيو: “ليس لدى سعيّد انطباع جيد عن صندوق النقد الدولي”. “فبالنسبة له، يمثل صندوق النقد الدولي الإمبريالية العالمية والليبرالية المتوحشة، وهو أمر يتعارض مع ميوله الأكثر يسارية في الفكر الاقتصادي”.
وقد كان الرئيس التونسي صريحاً في إظهار عدائه، حيث أعلن على الملأ رفضه لأي “إملاءات” أجنبية من صندوق النقد الدولي من شأنها أن “تؤدي إلى المزيد من الفقر”، على الرغم من أن حكومته هي التي اقترحت وتفاوضت على العديد من الإصلاحات المدرجة في برنامج الإنقاذ الاقتصادي.
إن قرض صندوق النقد الدولي البالغ 1.9 مليار دولار وحده لن يحل مشاكل تونس. ومن شأن التدابير التقشفية التي يتطلبها ذلك أن تجعل الحياة أكثر إيلاماً للتونسيين على المدى القصير. ولكن لأنه سيؤدي إلى إصلاحات اقتصادية حاسمة تحتاج إليها تونس بشدة، فإن برنامج صندوق النقد الدولي سيشجع الجهات المانحة الأخرى على تقديم تمويل إضافي بشروط أكثر ملاءمة، ومن المرجح أن يوفر ذلك مخرجاً للبلاد على المدى المتوسط.
لقد كان لتونس تاريخ مختلط مع صندوق النقد الدولي. حيث قال جودي إن برنامج القروض في عام 1986 “جلب إصلاحات مهمة ونمواً للبلاد، وتمكنت تونس من سداد جميع ديونها”.
ومع ذلك، كانت التجارب الأحدث أكثر إشكالية. فقد كانت عملية التحول الديمقراطي التي أعقبت ثورة 2011 مصحوبة بعدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، والفساد، وتعاقب الحكومات غير الفعّالة، والخلل الحاد في النظام البرلماني الناشئ في تونس.
وتضخم العجز العام للميزانية، مما دفع البلاد إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي في عامي 2013 و2016 لتمويل موازنة الدولة. ومع ذلك، لم يتم تنفيذ هذه البرامج بشكل كامل على الإطلاق. وفي مواجهة السخط الشعبي وانتشار الاحتجاجات على إصلاحات دعم الوقود وإجراءات التقشف في عام 2018، تراجعت الحكومة بقيادة رئيس الوزراء آنذاك يوسف الشاهد عن متابعة إصلاحات صندوق النقد الدولي.
واليوم، يواجه سعيّد مشكلة مماثلة. فعلى الرغم من الانتعاش المستمر لقطاع السياحة، الذي جلب العملات الأجنبية التي تبدو البلاد في أشد الحاجة إليها، لا تملك تونس الأموال الكافية لتغطية ميزانيتها لبقية العام. ومن أجل تجنب تحمل المزيد من الديون الخارجية، طلبت الدولة بشكل متزايد أموالاً من القطاع المصرفي المحلي، وتريد من البنك المركزي التونسي أيضاً أن يمول هذا العجز. وهذا من شأنه أن يحول بسرعة أزمة الميزانية إلى أزمة مصرفية ويدفع التضخم إلى المزيد من الارتفاع.
ومن المرجح أن تؤدي الإصلاحات من قبيل إلغاء الدعم إلى جولة جديدة من الاحتجاجات. فإلى جانب أي معارضة أيديولوجية من جانب سعيّد لبرنامج صندوق النقد الدولي، فإنه يعرف تماماً أن ذلك من شأنه أن يقوّض بسرعة حكمه الاستبدادي، الذي يواصل تصويره على أنه الحل الوحيد لمشاكل تونس.
لكن كما أشار جودي، هناك بالفعل اضطرابات اجتماعية بسبب نقص السلع الأساسية والتضخم. وقال: “هذه المشاكل موجودة بالفعل”، مضيفاُ أنها لم تأتِ بسبب إجراء أي إصلاحات.
وسواءً مع دعم صندوق النقد الدولي أو بدونه، فإن الإصلاح الاقتصادي وحده هو الذي سيضمن قدرة تونس على البقاء اقتصادياً ومالياً على المدى الطويل، لأن التخلف عن سداد الديون السيادية من شأنه أن يؤدي إلى تصعيد كبير للأزمة الاقتصادية الحالية.
ومع عدم قدرتها على تمويل نفسها، ستجد الدولة صعوبة في دفع أجور العمال. وستواجه المستشفيات والمدارس العامة أيضاً نقصاً في التمويل. وستصبح السلع الأساسية المدعومة مثل القمح أكثر ندرة مع عدم قدرة الحكومة على دفع ثمن الواردات.
ويبدو أن سعيّد قد أقنع نفسه بأنه قادر على درء الكارثة الاقتصادية من خلال نفس الإرادة التي من الواضح أنه خنق بها الديمقراطية في تونس. وقد يجد قريباً أن كلا الأمرين (الديمقراطية والافتصاد) سيتحدى سيطرته على البلاد.
.
رابط المصدر: