أفغانستان.. ما بعد الانسحاب الأميركي

إميل أمين

 

لعله من متناقضات القدر، أن يثير الانسحاب الأميركي من أفغانستان من الأسئلة، ما لا يقل عن تلك التي طرحت في زمن الغزو وغداة أحداث نيويورك وواشنطن الشهيرة.

والشاهد أن التساؤل المحوري الذي يتحدث الجميع من حوله هو: “كيف ارتضت واشنطن هذا الانسحاب، بعد عقدين من الزمن وأكثر من 1.2 تريليون دولار معلنة، وأضعافها خفية تمثل تكلفة تلك الحرب، وأزيد من 2300 قتيل أميركي، وبضعة آلاف من الجرحى والمعاقين جسديا، ناهيك عن عشرات الآلاف من المصابين نفسيا؟”.

تبدو الإجابة غامضة، لا سيما في ضوء التحركات المريبة التي تقوم بها تركيا، وإرهاصات لعبها دورا ما في أفغانستان، ما يفتح الباب لتساؤلات واسعة حول وجود خطة أميركية ما لنشوء وارتقاء إمارة أصولية جديدة في البلاد، يقودها الخليفة المتوهم الجديد، وتحقق ذات الغرض، الذي من أجله حاولت واشنطن استغلال العالم العربي، عبر ما عرف بالربيع العربي المغشوش، وأخفقت فيه.

كان الشغل الشاغل لواشنطن تسريب فيروس الأصولية، وتفتيت الداخل الصيني والروسي، عبر الجماعات الراديكالية الوثيقة واللصيقة الصلة بالولايات المتحدة منذ أوائل خمسينات القرن الماضي، غير أن ثورة المصريين في 30 يونيو 2013، أبطلت كافة مفاعيل تلك الخطة.

والآن تدور الأحاديث همسا حول خطة أميركية بديلة، تلعب فيها جماعة طالبان التي باتت تتسيد الموقف، وتكتسب كل يوم مساحات قوة ونفوذ جديدين، دورا واضحا، وكأن المطلوب هو أن تتحكم طولا وعرضا في مداخل ومخارج الحياة، وستعلن ذاتها القوة الحاكمة الفعلية على الأراضي الأفغانية، استعدادا للعب أدوار أكثر إثارة وخطورة في قادم الأيام، وبهدف لا يغيب عن أعين الباحث المحقق والمدقق، وهو توريط الصين وروسيا مرة جديدة، في حرب عصابات، وتسريب فيروس الإرهاب ثانية ليفعل فعله في موسكو وبكين وما حولهما.

تحت جنح الظلام، اختفت القوات المسلحة الأميركية من قاعدة باغرام الجوية، نقطة ارتكازها منذ بدايات الغزو عام 2001، تاركة وراءها من الأسلحة والذخائر ما لم تحلم جماعة طالبان بامتلاكه يوما ما، الأمر الذي يعزز الشكوك تجاه النوايا الأميركية من ورا هذا الانسحاب.

مهما يكن من أمر فإن حساب الحصاد الأميركي في أفغانستان عبر عشرين سنة، مرير جدا بالنسبة لواشنطن، ولعل هذا ما دفع جوليان بورغر، محرر الشؤون العالمية في صحيفة الغارديان البريطانية الشهيرة لأن يكتب قائلا: “كان الدرس العسكري المستفاد من فيتنام هو أن الولايات المتحدة لا تستطيع القيام بمكافحة تمرد، على بعد آلاف الأميال من الوطن، ضد عدو مدفوع أيديولوجيا ومتجذر في مجتمع رأى القوات الأميركية في نهاية المطاف كقوة احتلال.. هل وعت واشنطن هذا الدرس عام 2001؟”.

من الواضح والجلي أن الأميركيين قد نسوا ذلك وسط الحماسة التي أعقبت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، مع الإشارة إلى أن المواجهات في فيتنام كانت تجري برسم أيديولوجي سياسي، في حين أن الصراع في أفغانستان كان يدور عبر رؤى دوجمائية عقدية، تحمل مسحة ملاك الحقيقة المطلقة، الأمر الذي كانت لابد أن تفشل معه أي محاولات أميركية لتغيير الأوضاع أو تبديل الطباع في وسط عموم الأفغان.

كيف سيبدو حال ذلك البلد الذي عرف بأنه مقبرة للإمبراطوريات من زمن الرومان، مرورا بالبريطانيين والروس، وصولا إلى الأميركيين؟

لا تبشر الأحداث بالخير، ذلك أن طالبان التي تحاول اليوم تقديم نفسها للعالم على أنها مغايرة في الشكل والمضمون عما كانت عليه قبل عقدين، ها هي تعود من جديد سيرتها الأولى، وباتت تبسط سطوتها المسلحة على أكثر من 85% من المناطق التي انسحبت منها القوات الأميركية، الأمر الذي يفيد بحدوث فشل ذريع وسريع للحكومة الأفغانية في الحال والاستقبال، ويبشر بانهيارها في وقت قياسي.

ماذا يعني ذلك؟

يعني أن كافة الجهود التي بذلتها واشنطن لتمكين حكومة مدنية أفغانية قد ذهبت أدراج الرياح، ومليارات الدولارات التي أنفقت بهدف نشر الديمقراطية، وإقامة حياة سياسية سليمة في أفغانستان، قد أهدرت، بل ربما يمكن القول إنها جاءت بنتائج عكسية.

هل الولايات المتحدة الأميركية مصابة بداء النسيان القاتل الذي يجعلها تكرر أخطاءها، وتترك للآخرين فاتورة عالية وغالية الثمن لتدفع من بعدهم؟

الكارثة المحدقة بالمنطقة في شرق آسيا، والتي يمكن أن تظهر ارتداداتها سريعا في الشرق الأوسط والعالم العربي، موصولة بالفرصة الذهبية ولو أنها كارثية لجماعات التشدد والتعصب، والقوى الظلامية الإرهابية لتعود من جديد وتفرض سطوتها في الداخل الأفغاني، ومنه تمتد من جديد إلى بقية أرجاء المنطقة.

في هذا السياق ليس سرا القول إن القاعدة تعيد تجميع صفوفها، والدواعش يرتبون أوراقهم مرة أخرى، والتنسيق جار ولاشك بينهما معا، وبين طالبان التي تسعى لأن تكون هي القيادة الفاعلة في كابول، وفي انتظار التحرك القادم لتوريط الجيران الآسيويين، والذين يدركون حكما أبعاد المشهد الأميركي، والمحاولات التي لا تكف عن الإزعاج في أطر من البراغماتية الأميركية والغربية التقليدية، وضمن الصراع الكلاسيكي للأمم والإمبراطوريات، قديمها وحديثها.

“يجب أن يكون هناك قلق حول تقدم طالبان على الأرض”، كان هذا تعبير المسؤول العسكري الأميركي الذي يشرف على انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، الجنرال أوستن سكوت ميلر.

غير أن ما لم يقله الرجل ذو الأربعة نجوم، هو كيف لواشنطن – بايدن أن توقف القلق الناشئ عن سطوة طالبان من جديد، وعن الخسائر الدولية المتوقعة من إعادة إنتاج معركة أصولية ضارية ثانية حول العالم.

.

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M