دور الأمن الطاقوي في العلاقات الروسية الأوروبية

نورا عبه جي

 

تمهيد

ترتبط العلاقات الروسية الأوروبية بطبيعة العلاقات الدولية المحكومة بالتاريخ والجغرافيا، أضيفت إليها الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مع ظهور الدولة القومية في القرون الوسطى، تلك العلاقات التي شكلت الميدان العملي والأساس النظري لاختبار الفرضية الرئيسية لنظرية العلاقات الدولية في العلوم السياسية منذ تبلورها في القرن التاسع عشر مع ظهور المدرستين الأكثر انتشاراً في تفسير طبيعة العلاقات الدولية المتمثلة بالمدرستين الواقعية والليبرالية كعلاقات صراعية تقوم على الحروب أو تنافسية تقوم على الاعتمادية والاعتمادية المتبادلة لتجنب الحروب، جراء شبكة معقدة ومتدخلة للمصالح المشتركة بين الدول.

وقد مرت العلاقات الروسية الأوروبية تاريخياً بمراحل مختلفة تباينت بين الصراعات العسكرية والحروب الباردة وصولاً إلى علاقات التعاون القائمة على الاعتمادية المتبادلة القسرية منذ العام 2000، بسبب رئيسي من دور العامل النفطي المتمثل في سعي كلا الطرفين الروسي والأوروبي لتحقيق أمنهما الطاقوي.

وبات الأمن الطاقوي الملف الأكثر تعقيداً وتشابكاً بين عوامله الاقتصادية والجغرافية والسياسية، كأحد تداعيات الثورة العلمية التقنية التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، إذ باتت الطاقة من حيث مصادر تأمنيها وأوجه استخدامها متغلغلة في أدق تفاصيل الحياة اليومية للدول والأفراد، كذا لاستخداماتها الاقتصادية الإنتاجية والاستهلاكية على السواء، ويتوقف مفهوم أمن الطاقة أولاً على الأهمية الجيوسياسية للنفط والغاز باعتبارهما أهم مصادر الطاقة البديلة عن الفحم الحجري قبل القرن العشرين، مقابل ضعف الجدوى الاقتصادية لمصادر الطاقة البديلة الأخرى كالطاقة النووية أو طاقة الرياح .. الخ، وثانياً على التداعيات الاقتصادية السياسية للمبالغة في الاعتماد على إنتاج الطاقة النفطية والغازية المتمثلة بالمرض الهولندي.

المطلب الأول: الأهمية الجيوسياسية للنفط والغاز

تطورت في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين صناعة النفط من حيث الاستخراج والتكرير لمواكبة زيادة اعتماد الصناعة والمجتمع المتطور على المحركات التي تعمل بالبنزين والمازوت حيث تحول العالم من الاعتماد على الفحم إلى النفط كمصدر أساسي للطاقة مما أدى إلى استمرار الارتفاع في استهلاك النفط، ولكن التطور الأهم كان في إنشاء الصناعة البتروكيميائية بعد الحرب العالمية الثانية بالاعتماد على الثورة العلمية التقنية حيث باتت المشتقات النفطية مصدراً رئيسياً للمواد الأولية الاصطناعية.[1]

لا يمكن فهم أهمية النفط دون النظر إليه باعتباره قوة مركبة: فهو أولاً المصدر الأساسي والأهم للطاقة في العالم، وثانياً كمستلزمات إنتاج العديد من السلع الصناعية النهائية والوسطية، وبالتالي فهو علاوة على ذلك مصدراً لعائدات نقدية ضخمة لصناعات واسعة ومجال نشاط شركات عالمية عملاقة، فالعائدات النفطية هي أضخم العائدات المالية المستحوذة على القسط الأكبر من العملات والأوراق المالية والسيولة النقدية اليومية، وتؤثر في مجمل ميزان المدفوعات لكل دول العالم،[2] ضمن ثلاث فئات تشمل الدول المنتجة للنفط، والدول غير المنتجة والمستهلكة له، وكذلك الشركات النفطية الكبرى.[3]

ازدادت الأهمية السياسية للنفط بسبب الاستعمال الجديد له في الأغراض الصناعية لحصول الدول على النصيب الأكبر من الامتيازات النفطية، ما جعل النفط باعثا على التنافس بين تلك الدول، وكانت الشركات النفطية الكبرى، ومن ورائها الحكومات تستخدم نفوذها في هذا الصدد، وتتفاوض فيما بينها لتقسيم الموارد والأسواق بين شركاتها المختلفة،[4] بعد ما بنت عليه الدول أهدافها الاقتصادية ونموها المستمر، ويتطلب بناء استراتيجية معينة لعدد من المهام الرئيسة منها الموارد التي يدخل النفط من ضمنها فضلاً عن الامكانات والقدرات المادية والمعنوية الأخرى.[5]

لقد ازدادت أهمية النفط في عصر العولمة والتقدم التكنولوجي وأصبحت الدول الصناعية بأمس الحاجة إلى المزيد من النفط ومشتقاته لتغذية صناعاتها المتطورة، مما انعكس على الزيادة السريعة في الاستهلاك ويعود السبب إلى أن التقدم التكنولوجي في كافة الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية يتطلب المزيد من الطاقة، لذلك ازدادت حاجات العالم من النفط، وهذا ما يوضحه الجدول الآتي:

الجدول رقم (1)

حاجات العالم وتغطيتها من النفط (بالمليون برميل يومياً)

السنة 2010 2015 2020 2025 2030
حاجة العالم من النفط 85.5 91.0 96.2 100.9 105.5
امدادات دول خارج أوبك 51.0 53.9 55.7 57.5 57.5
امدادات دول أوبك 29.3 30.8 33.2 36.0 38.7

المصدر: Organization of the petroleum exporting countries, world Oil Outlook 2010, Vienna: OPECN, 2010, p,10.

من ناحية أخرى تزامن الاستخدام الواسع للمشتقات النفطية كمواد أولية اصطناعية لإنتاج الكثير من السلع الصناعية، مع الاعتماد على الغاز الطبيعي كمصدر بديل للطاقة، فقد تضاعفت الاحتياطات المكتشفة من الغاز الطبيعي، ففي أواخر عام 2008 كانت الاحتياطيات العالمية المؤكدة منه تقدر بما يصل إلى 185 ترليون متر مكعب، وتسد هذه الكميات الحاجة إلى النفط ستين عاماً تقريباً، ومن جانب آخر يتميز الغاز الطبيعي أنه أنظف أنواع الوقود الأحفوري وأقلها كربوناً وبالتالي أقل تلويثاً للبيئة، المسألة التي باتت على رأس الاهتمامات الدولية ويمكن استخدامه إذا توافر في تغذية محطات التوليد التي تعمل على مبدأ الدورة المركبة إذ تعد الخيار الأمثل للتوسع في توليد الطاقة الكهربائية، وتتميز محطات التوليد العاملة على الغاز الطبيعي بعدد من المزايا فهي تتمتع بمردود أعلى بكثير وذات كلفة رأسمالية منخفضة مقارنته بنظيراتها العاملة على النفط، كما أنها لا تسبب أي انبعاثات لغاز ثاني أوكسيد الكبريت أو الجزيئات الصلبة الأخرى، وإن ما تطلقه من اكاسيد النيتروجين أقل بحوالي 90% مما تبثه محطات توليد الطاقة الكهربائية العاملة على النفط.[6]

تتصف احتياطيات الغاز الطبيعي مقارنة بالنفط بتوافرها بشكل كبير، وتتوزع على نطاق واسع من العالم، تحتوي روسيا وجمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز على احتياطيات كبيرة، فضلاً عن الشرق الأوسط، وتجاوزت احتياطيات الغاز الطبيعي العالمية المؤكدة الضعف منذ بداية الألفية الثالثة، ومن المتوقع أن تبلغ مساهمة الغاز الطبيعي ضمن امدادات الطاقة العالمية 28% عام 2050، حسب السيناريو الذي يعتمد على نمو منخفض لانبعاث الكربون الذي أعده المعهد الدولي التحليل الانظمة التطبيقية ومجلس الطاقة العالمي.[7]

إن ما يشجع على استخدام الغاز بصورة كبيرة وزيادة الطلب العالمي عليه احتراقه بشكل نظيف أفضل من النفط، في حين كان تشكله في الطبيعة أوسع نطاقاً مما تشكل به النفط، لكن هذه الميزة تقابلها حقيقة، أن كثير من الغاز تسرب على مر الزمن الجيولوجي ولازال في تسرب كبير لاسيما في البلدان النامية اذ يحترق مع مخلفات الوقود والنفط[8].

وعلى الرغم مما يحتويه الشرق الأوسط من احتياطيات كبيرة للنفط والغاز، تأتي روسيا الاتحادية في المرتبة الأولى في إنتاج الغاز الطبيعي والنفط، إذ تمتلك احتياطيات كبيرة من الغاز مما جعلها الأولى عالمياً، وهذا ما خلق توسع كبير في سياساتها اتجاه محيطها الإقليمي الأمر الذي تسبب بقلق الغرب نتيجة الاعتماد المتزايد من قبل الاتحاد الأوروبي على النفط والغاز الروسي إذ يعتمد الأخير على نسبة 40% من وارداته على روسيا التي تنتج اكثر من 1.23 ترليون قدم مكعب من الغاز حسب إحصاءات 2013، مما شكل تحدي للاتحاد الأوروبي باعتباره أكبر مستهلك للغاز الروسي[9]، ويمكن بيان أهم مناطق وجود الغاز الطبيعي في العالم من خلال الخارطة الأتية:

الخارطة رقم (1)

مناطق توزع الغاز الطبيعي في العالم

المصدر: شبكة المعلومات الدولية (الانترنت) على الرابط التالي http://www.marefa.org

وتوضح الخارطة تركز الغاز الطبيعي في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإیران وكندا فضلاً عن النرويج وقطر بصورة أكثر كثافة عالمية، أما إنتاج الغاز فإن الجدول الآتي يوضح أكثر عشر دول منتجة له في العالم حسب احصائيات العام 2009.

جدول: الدول العشرة الأولى في إنتاج الغاز الطبيعي حسب احصائيات عام 2013

الترتيب الدولة الإنتاج (بالمليون م3) حصة الإنتاج العالمي (بالنسبة المئوية)
1 روسيا 8.474 6.17
2 الولايات المتحدة الأمريكية 8.541 1.20
3 كندا 3.145 4.5
4 إيران 10118 4.4
5 النرويج 1.93 5.3
6 قطر 4.80 3
7 الصين 7.76 8.2
8 الجزائر 3.73 6.2
9 السعودية 7.69 4.2
10 اندونيسيا 7.64 2.2

المصدر: لودوفيك مون، الطاقة النفطية والطاقة النووية الحاضر والمستقبل، ترجمة: مارك عبود، مكتبة الملك فهد الوطنية للنشر، الرياض، 2014، ص 111.

المطلب الثاني: النفط بين التحرر الاقتصادي والتبعية الجديدة:

رغم توفر الثروات النفطية والإنتاج الكبير منها عبر سنوات طويلة والموارد المالية المتأتية منها ظهر مصطلح الدولة الريعية لأول مرة في دراسة للكاتب الإيراني حسين مهدوي عام 1970 إذ عرفها بأنها الدولة التي تحصل على جزء كبير من دخلها من مصادر طبيعية سواء كان ذلك من موارد طبيعية أو زراعية أو استخراجية على شكل ريع تتحكم الدولة في السيطرة عليه و توزيعه[10]،  فالدول الريعية هي تلك البلدان التي تشكل مساهمة العوائد الريعية الطبيعية نسبة نزيد عن 30 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وتعد الدول المصدرة للنفط و المواد الخام  دولاً ريعية ومن خصائص الدولة الريعية:[11]

–       ارتفاع معدلات الإنفاق الحكومي بدون الحاجة إلى فرض ضرائب.

–       ضعف هيكل الإنتاج المحلي خارج القطاع الريعي.

–       ارتفاع الأهمية النسبية للصادرات النفطية فقد تصل أحيانا إلى أكثر من 80% .

بالإضافة إلى الخصائص السابقة تتميز الدول النفطية عن غيرها من دول العالم بظاهرة المرض الهولندي *Dutch Disease وهي ظاهرة تنشأ وتتزايد أعراضها خاصة في فترات الطفرات النفطية وهي فترات تتميز بتحقيق الدول النفطية لمداخيل قياسية ناتجة إما عن ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية أو الزيادة الكمية في مستوى الإنتاج والصادرات النفطية، ومن العوامل المساعدة على ظهور المرض الهولندي:[12]

1_ فشل السياسات الاقتصادية:

في أغلب البلدان التي أصيبت اقتصادياً بأعراض المرض الهولندي لم تكن هنالك أهداف واستراتيجيات واضحة للتنمية وغياب السياسة الواضحة التي يجب إتباعها لتوجيه واستغلال عوائد الموارد الطبيعية.

2_ التحالف غير المشروع بين السلطة والثروة:

إن الثروات الريعية الطائلة غالباً ما يرافقها سوء التعامل معها لتسخيرها في عملية التنمية الاقتصادية ولذلك فإنها لا تؤدي إلى تخلف خطى النمو الاقتصادي فحسب، بل أنها تؤدي أيضاً إلى خلق اتجاهات ومساحات سياسية تنمو في غمارها النزعات السلطوية و أساليب الحكم الاستبدادية، حيث يتم التزاوج غير الشرعي بين الثروة و السلطة حيث الدكتاتورية والانفراد بالقرار وغياب المحاسبة وبالتالي نجد أن الموارد المتأتية من الثروات الطبيعية تكون في قبضة السلطة الحاكمة التي تستغل تلك الموارد في البذخ أو في التسليح أو في فتح حسابات للرؤساء والوزراء والجنرالات في المصارف الأجنبية مما يودي إلى مشاعر السخط بين المهمشين في المجتمع والمزيد من إجراءات القمع الديكتاتوري لإبقاء الوضع على حاله .

3_ ضعف المبادرة والاتكال على الدولة:

إن حالة الاتكالية على الدولة في توفير الاحتياجات هي عامل إحباط لمساهمة الأفراد في النشاط الاقتصادي وبالتالي تمثل أحد أعراض المرض الهولندي لان الدولة من مهمتها توفير الخدمات العامة لكن على الأفراد أن يكونوا مسؤولين عن توفير احتياجاتهم والمساهمة الفعالة والعمل المنتج.

المطلب الثالث: الأمن الطاقوي

في ضوء تشابك الأهمية الاستراتيجية للنفط والغاز من جهة، والتداعيات الاقتصادية والسياسية للمرض الهولندي من جهة ثانية، بات من الصعوبة بمكان تحديد تعريف قاطع للأمن الطاقوي باتجاه تحديد مفهوم عام لمكوناته، الأمر الذي بات واضحاً باختلاف مصادر تعريف الأمن الطاقوي وأبرزها تعريف الوكالة الدولية والبنك الدولي لأمن الطاقة، ومن ثم تعريف كل من روسيا والاتحاد الأوروبي لمقتضيات المشكلة البحثية.

أولاً: تعريف الوكالة الدولية لأمن الطاقة:

أنشئت الوكالة الدولية للطاقة في أعقاب الأزمة النفطية العالمية في مطلع عام 1974 بعد المقاطعة العربية النفطية للولايات المتحدة الأمريكية والدول الداعمة للكيان الصهيوني في حرب تشرين الأول عام 1973، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار الطاقة في الأسواق الدولية، ولهذا تعرف الوكالة أمن الطاقة على أنه ” تواصل الاستقرار في الامدادات ضمن مستوى الأسعار المقبولة التي هي في المتناول، مع استمرار الاهتمام بقضايا البيئة”، وترى الوكالة أن لأمن الطاقة وجوها عدة فهو على المدى البعيد مرتبط بصورة أساس باستمرار الاستثمارات في امدادات الطاقة تماشياً في الوقت ذاته مع التطورات الاقتصادية والحاجات البيئية، وفي المدى القصير يعني أمن الطاقة استجابة سوق الطاقة العالمية للتغيرات المفاجئة في الطلب والعرض.[13]

نظراً إلى أهمية أمن الطاقة على المستويين الوطني والعالمي رأت الوكالة الدولية للطاقة أن تعزيز أمن الطاقة يتم من خلال العديد من الاستراتيجيات أبرزها:[14]

1_ تعزيز التنوع والكفاءة والمرونة في قطاعات الطاقة في الدول أعضاء الوكالة.

2_ التنسيق الجماعي للاستجابة للتغيرات في العرض والطلب.

3- توسيع التعاون الدولي مع جميع الأطراف الفاعلة في سوق الطاقة العالمية.

ثانياً: تعريف البنك الدولي لأمن الطاقة:

يعنى البنك الدولي بمفهوم أمن الطاقة ضمان إنتاج الدول للطاقة واستخدامها في ضوء توافرها بتكلفة معقولة من أجل تحقيق هدفين: أولهما تسهيل النمو الاقتصادي الذي يقود إلى خفض مستويات الفقر، وثانيهما في التحسين المباشر لمستويات معيشة المواطنين للوصول إلى خدمات الطاقة الحديثة وينصب تركيز البنك الدولي على أهمية امداد الدول الفقيرة بالطاقة بأسعار معقولة، حتى تتمكن من تحسين المستويات المعيشية لمواطنيها، وبالتالي يقود إلى تحسين مستويات التعليم والصحة.[15]

لذا فإن لارتفاع أسعار الطاقة كبير الأثر في خطط التنمية والتطوير الاقتصادي في الدول النامية المستوردة للطاقة، مما ينعكس على ناتجها المحلي الإجمالي، وبالتالي على المستوى المعيشي لشعوبها.

ثالثاً: التعريف الروسي لأمن الطاقة:

يعد موضوع الأمن الطاقوي الروسي وتحدياته الراهنة أحد أهم القضايا الأمنية الموجعة في الاستراتيجية الاقتصادية السياسية لروسيا؛ ذلك أن روسيا هي أكبر فاعل طاقوي في أوراسيا بفضل قدراتها الطاقوية الهائلة، والتي تتكئ عليها روسيا، فضلاً عن مكانتها كأحد أهم منتجي ومصدري الطاقة نحو كبرى المناطق المستهلكة لهذه المصادر، سیما في أوروبا وآسيا. بيد أن هذا الفاعل الطاقوي الكبير يواجه تحديات أمنية طاقوية جدية تمس صميم أمنه الطاقوي؛ والمتمثلة أساساً في تلك التبعية الروسية الشديدة نحو السوق الطاقوي الأوروبي، فضلاً عن تلك التحديات والصعوبات التي تواجهها امدادات الطاقة الروسية نحو الأسواق الطاقوية الكبرى، حينما تجتاز مناطق ودول العبور الطاقوي مثل أوكرانيا.

من جهة أخرى تعد روسيا الدولة الوحيدة من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن التي لا تحتاج إلى استيراد الطاقة، وهذا يعطيها تفوقاً استراتيجياً لا تمتلكه الدول الأخرى التي ليس لديها اكتفاء ذاتياً من هذه الموارد الحيوية، بل وتعد الأولى في الإنتاج والتصدير، والمسيطر الوحيد على أسواق الطاقة خارج دول أوبك.[16]

ينطلق مفهوم أمن الطاقة الروسي من تأمين الامدادات أولاً، وتأمين الوصول الآمن للطاقة إلى الأسواق، والحفاظ على استقرار الأسعار، وأصبح لا يقل أهمية عن التأثير العسكري والسياسي ولاسيما بعد تولي الرئيس فلاديمير بوتين السلطة عام 2000، الذي يعد نقطة تحول رئيسة في الأمن العالمي للطاقة، فروسيا تغذي الاتحاد الأوروبي ما يقارب نصف احتياجاته من الطاقة (النفط والغاز الطبيعي)، ویترکز المفهوم الروسي لأمن الطاقة على أمن الطلب وعلى مصادر الطاقة لديها، أي يركز على أمن العائدات من سوق الطاقة، ويوظف لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية.

وتراهن روسيا أثناء محاولات ضمان وتعزيز أمنها الطاقوي على مجموعة من الفرص والرهانات الطاقوية القائمة على حفظ مكانة روسيا في السوق الطاقوي الأوروبي من جهة، والبحث في الوقت نفسه عن أسواق عالمية جديدة مماثلة لتلك الأسواق الأوروبية عبر مشاريع طاقوية جديدة ومكلفة، قد تشكل أعباء مالية كبيرة على روسيا.

 رابعاً: تعريف الاتحاد الأوروبي لأمن الطاقة:

حددت الوثائق الصادرة من المفوضية الأوروبية الخاصة باستراتيجية الطاقة ان مفهوم أمن الطاقة لدول الاتحاد الأوروبي يقوم على أربع دعائم رئيسة وهي على النحو الآتي:[17]

1_ إدارة الطلب: معنى تقليل استهلاك الطاقة قدر الإمكان، وفي هذا السياق بدأ طرح مفاهيم تتعلق بكفاءة استخدام الطاقة.

2_ التنويع في مصادر الطاقة: الأمر الذي من شأنه تقليل التبعية لمنطقة أو دولة بعينها.

3_ تجنب الأزمات في سوق الطاقة: انطلاقاً من قناعة مفادها أن تحقيق أمن العرض يتطلب أن تكون السوق منظمة بصورة جيدة بما يحول دون حدوث أزمات.

4_ التحكم بالعرض الخارجي: من خلال الدخول في شراكات استراتيجية مع الدول المنتجة الرئيسة التي يعتمد عليها الاتحاد الأوروبي في تأمين وارداتها من النفط والغاز الطبيعي.

بناءً على التعاريف الأربعة آنفة الذكر لمفهوم أمن الطاقة يمكن القول إن الدراسات المتعلقة بالطاقة بمصادرها المختلفة قد اعطت حيزاً من الأهمية في الدول المنتجة والمستهلكة، وما تجلى عنه من تطور كبير ساعد الـدول في صياغة استراتيجيات واضحة لأمن الطاقة، فلكل دولة رؤية تحاكي متطلباتها الحيوية من الطاقة في ظل التهديدات المتزايدة التي تتعرض لها البلدان المنتجة لاسيما في قارة أوراسيا، وفي طبيعة الحال فإن استراتيجيات الطاقة في البلدان المستهلكة والمتقدمة تكون اكثر رؤية للمستقبل على العكس فأن اغلب البلـدان المنتجة تفتقر إلى التخطـيط الاستراتيجي لإدارة مواردها، مما يقود إلى ان أبعاد ومحددات أمن الطاقة تصبح ذات تأثير مباشر في يناء سياساتها واستراتيجياتها الداخلية والخارجية.

الهامش

[1] سعود يوسف عياش، تكنولوجيا الطاقة البديلة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1981، ص17.

[2] محمد خنوش، عوامل التوتر والاستقرار في منطقة الخليج العريي من 1980 إلى 2000 : دراسة في المحددات الداخلية والمؤثرات الخارجية، رسالة دكتوراه دولة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة الجزائر ، كلية العلوم السياسية والاعلام، 2007، ص 17.

[3] حافظ برجاس، الصراع الدولي على النفط العربي، بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، بيروت، لبنان، 2000، ص 82 .

[4] المرجع السابق، ص 90 .

[5] هاري آر بیارغر، الاستراتيجية ومحترفو الأمن القومية التفكير الاستراتيجي وصياغة الاستراتيجية في القرن الحادي والعشرين، ترجمة: راجح محرز علي، مركز الامارات للبحوث والدراسات الاستراتيجية، أبو ظبي، ط1، 2011، ص 85.

[6] هوارد جیلر، ثورة الطاقة نحو مستقبل مستدام، ترجمة: طارق بيلتو، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، 2009، ص 50.

[7] هوارد جیلر، مرجع سبق ذكره، ص 51

[8] ريتشارد هاینبرغ، سراب النفط: النفط والحرب ومصير المجتمعات الصناعية، ترجمة: انطوان عبد الله، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت،2005، ص 194-195

[9] فنغريد وولف، السقوط في هاوية الأزمة الاقتصاد العالمي – النفط – الحرب، ترجمة: سعد ناجي طه، دار الرواد المزدهرة، بغداد، 2013، ص110.

[10] مايح شبيب الشمري، “تشخيص المرض الهولندي ومقومات  إصلاح الاقتصاد الريعي في العراق “، مجلة العربي للعلوم الاقتصادية والإدارية، بغداد: جامع الكوفة ، كلية الإدارة و الاقتصاد، المجلد 3، 2010، ص 9.

[11] المرجع السابق، ص 9.

*  المرض الهولندي هو مفهوم يصف ظاهرة اقتصادية حيث يؤدي التطور السريع لقطاع واحد من الاقتصاد (خاصة الموارد الطبيعية) إلى حدوث تدهور في القطاعات الأخرى. غالبًا ما تتميز بتقدير كبير للعملة المحلية السياسة النقدية السياسة النقدية هي سياسة اقتصادية تدير حجم ومعدل نمو المعروض النقدي في الاقتصاد. إنها أداة قوية لتنظيم متغيرات الاقتصاد الكلي مثل التضخم والبطالة، وأول من نشر مصطلح المرض الهولندي كان مجلة الإيكونومست البريطانية في أحد أعدادها الصادرة عام 1977، عندما تطرقت لموضوع تراجع قطاع التصنيع في هولندا بعد اكتشاف حقل كبير للغاز الطبيعي سنة 1959.

[12] نبيل بوفليح، دور صناديق الثروة السيادية في تمويل اقتصاديات الدول النفطية: الواقع والآفاق مع الإشارة إلى حالة الجزائر، أطروحة دكتوراه في العلوم الاقتصادية، جامعة الجزائر، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، فرع نقود مالية، 2010/2011، ص 25.

[13] علي خليفة الكواري، استراتيجية وكالة الطاقة الدولية قراءة أولية في اسباب الاوضاع النفطية الراهنة و عوامل استمرارها، مجلة المستقبل العربي، بيروت، العدد 127، 1989، ص 115-126.

[14] المرجع السابق، ص 125.

[15] John Gault. “A word of introduction from the energy industry perspective”, in Global Challenges at the Intersection of Trade, Energy and the Environment (Centre for Trade and Economic Integration, Switzerland, 2010). p. 9.

[16] خديجة عرفة محمد، أمن الطاقة والسياسة الخارجية: دراسة تطبيقية السياسات بعض الدول المصدرة والمستوردة للطاقة، اطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسي، 2012، ص 25.

[17]  عمرو عبد العاطي، أمن الطاقة في السياسة الخارجية الأمريكية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014، ص51.

 

.

رابط المصدر:

https://eipss-eg.org/%d8%af%d9%88%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d8%a7%d9%82%d9%88%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%b3%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%88%d8%b1%d9%88%d8%a8%d9%8a%d8%a9/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M