آليات المطالبة بالحقوق والحريات العامة

جميل عودة ابراهيم

يتجاذب مبدأ (الحقوق والحريات العامة) طرفان: الأول؛ الأفراد والجماعات، والثاني؛ السلطات الحاكمة، فالأفراد والجماعات ترغب بالتمتع بالحقوق والحريات، بما لا يحدها حدود، ولا تقيدها قيود، وترى أن كل حد أو قيد يُفرض عليها من السلطة هو انتقاص من تلك الحقوق والحريات. بينما تعمل السلطات العامة على الحد من ممارسة الأفراد والجماعات لتلك الحقوق والحريات ما وسعها ذلك، تارة بداعي احترام حقوق وحريات الآخرين، وأخرى بداعي حفظ النظام العام للدولة.

وبناء على التجاذبات والتقاطعات المستمرة بين طرفي مبدأ الحقوق والحريات العامة تنشأ نزاعات وصراعات مستمرة بينهما، وهي تخبو تارة، وتستعر تارة أخرى، فمرة يتغلب الأفراد والجماعات على إرادة السلطة العامة، فتحدث فوضى واضطرابات، وتضعف هيبة الدولة، وقد يضيع النظام كله، ومرة تقمع أجهزة حفظ النظام والشرطة الأفراد والجماعات، فينتج عن استخدام القوة المفرطة قمع واستبداد، فتضيع الحقوق والحريات، بل قد تعدم كليا.

ولما كان تطرف الأفراد والجماعات في استعمال الحقوق والحريات لا يحقق الاستقرار الاجتماعي والسياسي للبلاد؛ كما أن القمع والاستبداد الذي تمارسه السلطات العامة لا يحقق هو الآخر الاستقرار الاجتماعي والسياسي؛ كان لابد من وجود علاقة توازن بين الحريات العامة من جهة، والنظام العام من جهة ثانية، فلا حرية مطلقة، ولا استبداد مطلق، بل تعايش بين الحرية والنظام معا، وبهما يأمن الناس، وتستقر الأوضاع، وتزدهر البلاد…

لذلك؛ فان المحافظة على هذا التوازن يتطلب إدراكا ووعيا بأن الحريات من الناحية الواقعية لا يمكن أن تكون إلا نسبية، كما أن النظام العام بدوره يجب إلا يتعدى حدودا معينة، وألا يتسم بالدكتاتورية. وعلى ذلك رأى البعض أن الحد الأدنى للنظام العام ينبغي يتضمن عناصر ثالث هي (حماية الأمن العام داخل المجتمع والدولة، وحماية الصحة العامة للأفراد، والمحافظة على السكينة العامة) وهي عناصر متداخلة لحد كبير، وقد يتسع مفهوم النظام العام (عند البعض) ليشمل كل ما يحقق المصلحة الاجتماعية، كاحترام حقوق الغير، وحماية النظام الأخلاقي في إطار دولة القانون..

من هذا المنطق أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على هذا الحد في ممارسة الحرية، حيث جاء في الفقرة (2) من المادة (29) منه أن (الفرد يخضع في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام، والمصلحة العامة، والأخلاق في مجتمع ديمقراطي).

والسؤال هنا إذا كانت (الحقوق والحريات العامة) ضرورة اجتماعية وسياسية لكل شعب يريد أن ينهض ويتقدم ويتطور ويبدع، حيث لا يمكن تصور نهضة الأفراد والجماعات إلا من خلال ما يتمتعون به من حقوق وحريات، فكيف يمكن أن نوازن بين ممارسة هذه الحقوق والحريات من جهة، وضرورات الحفاظ على كيان الدولة وهيبتها من جهة ثانية، فكما أن الاستبداد والقمع السلطوي مبدأ مرفوض؛ فان الفوضى والاعتداء على الدولة ومؤسساتها وحقوق الآخرين وحرياتهم مبدأ مرفوض أيضا؟

في الواقع؛ هناك العديد من الآليات التي عملت بها العديد من الدول التي تؤمن بمبدأ الحقوق والحريات العامة، فقد جرت الدول على تضمين دساتيرها مجموعة من الحقوق والحريات العامة التي ينبغي أن يتمتع بها مواطنوها، لكفالة احترامها، وتحقيق ضمانات ممارستها، ووضع القيود التي تحد من تقييد السلطات العامة لها، بشرط أن تبقى في حدود عدم مساسها بحقوق وحريات الآخرين، وعدم الأضرار بالمصالح الأخرى للمجتمع.

ذلك إن تقرير الحقوق والحريات العامة في صلب الوثيقة الدستورية يسبغ عليها من القوة ما للنصوص الدستورية الأخرى، الأمر الذي يحول دون تلاعب السلطتين التشريعية والتنفيذية فيها من خلال تقييدها أو مصادرتها. ومن ثم جعل كل تشريع يتعارض مع ما نص عليه الدستور من حقوق وحريات يعد غير دستوري وواجب الإلغاء. وتحقيقا لذلك جاء في الفقرة (ج) من المادة الثانية من دستور العراق لعام (٢٠٠٥) أنه (لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور).

مع ذلك؛ لا يمكن حصر الحقوق والحريات بنصوص محددة، إذ أن ما يذكره المشرع الدستوري من حقوق وحريات هو على سبيل المثال، ولا يعني عدم النص على حقوق وحريات أخرى أن المشرع الدستوري لا يكفل حمايتها. لذلك؛ فان الدستور قد يحيل للتشريع مهمة تنظيم حرية معينة، وقد استخدم المشرع الدستوري العراقي في دستور (٢٠٠٥) عبارات متعددة منها (… وينظم ذلك بقانون (أو) ينظم… بقانون) (أو ينظم القانون)

حيث يجد مبدأ إحالة الدساتير إلى القانون لتنظيم الحقوق والحريات مسوغاته باعتبارات متعلقة بان السلطات في الدولة تلتزم باحترام التشريع بوصفه الناطق بالقاعدة القانونية، ولا يجوز لها فرض قيود على الحريات ليس لها سند من القانون، فضلا عن أنه لا يمكن فرض أي التزام قانوني على الأفراد إلا إذا أجاز التشريع ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

كما يعد مبدأ الفصل بين السلطات أحد أهم ضمانات تحقيق الحقوق والحريات العامة، حيث يهدف مبدأ الفصل بين السلطات إلى ضمان ممارسة حريات الأفراد، وذلك بتوزيع سلطات الدولة بين هيئات مختلفة، وعدم تجميعها في يد شخص واحد أو هيئة واحدة، لأنه كما ثبت بالتجارب التي مرت عليها الشعوب أنه كلما جمعت السلطة في يد شخص واحد إلا وتعسف في استعمالها مما يؤدي (حتما) إلى الاستبداد، وإلى تقيد الحريات، بل وأحيانا إلى إلغائها. لذلك حتى نستطيع ضمان حقوق وحريات الأفراد فانه لابد من تقسيم وتوزيع سلطات الدولة على هيئات منفصلة.

وكذلك من آليات المحافظة على حريات وحقوق الأفراد والجماعات هو وجود سلطة قضائية مستقلة تستطيع أن تفصل بين الأفراد عند النزاعات في الحقوق بين الأفراد من جهة، والسلطة الحاكمة من جهة ثانية. حيث إن رقابة القضاء هي أنجح وسيلة لحماية الحرية وخاصة الحرية الشخصية، ويتولى هذه الرقابة محاكم على اختلاف أنواعها في الدولة، سواء كانت عادية أم إدارية مدنية أم جنائية.

كما تعد التعددية الحزبية أحد الضمانات الأساسية لحماية الحريات العامة، حيث تحول دون انحراف السلطة عن أغراضها الدستورية، ومن شأنها أيضا أن تخضع السياسات الحكومية لمراقبة دقيقة، سواء بواسطة الوسائل التي يمنحها الدستور للنواب في المجلس النواب، أو عن طريق ما تمارسه الصحافة الحزبية من تأثير على اتجاهات الرأي العام وغيرها من وسائل الضغط التي يتيحها النظام السياسي القائم على التعددية.

وأخيرا فان الكثير من الدول التي تقر بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية تسمح للمواطنين في التعبير عن آراءهم وأفكارهم والمطالبة بحقوقهم المشروعة عن طريق الندوات والمؤتمرات والمسيرات والمظاهرات والاعتصامات والإضرابات المفتوحة وأي وسيلة من وسائل التعبير السلمية، شريطة أن لا تتحول تلك الممارسات الديمقراطية إلى ما يهدد استقرار المجتمع، وإحداث فوضى واضطرابات، وأعمال من شأنها أن تشل النظام العام، عند ذلك يكون لزاما على قوات حفظ النظام والشرطة أن تضع حدا لتك الممارسات التي تهدد كيان الدولة وتزعزع استقرارها.

نخلص مما تقدم الآتي: –

1. ينبغي الاعتراف بالعلاقة المتوازنة بين الحقوق والحريات العامة التي تكون للأفراد والجماعات، وبين عناصر النظام العام الذي تتكفل السلطات بالمحافظة عليه، فلا غلبة للحقوق على حساب النظام، ولا غلبة للنظام على حساب الحقوق، لأن كلاهما يمثلان الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

2. ينبغي أن يشدد الدستور على أن جميع حقوق وحريات الأفراد المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية تتمتع بالحماية، وهي غير قابلة للتجزئة.

3. ينبغي أن يكون التشريع المنظم للحرية قائما على أسس دعم وكفالة الحرية، لا الحد منها أو القضاء عليها، بحيث يصبح تنظيم الحرية هو الكافل لممارستها، ويجب أن يتجه التشريع إلى فرض ضمان الحرية وإقرارها تجاه السلطة، فإذا لم يتحقق ذلك، فلا جدوى من تشريعه للحريات.

4. ينبغي أن يكفل التشريع المنظم للحرية حق التقاضي، فالمشروعية لا تكتمل جوانبها إذا لم تتضمن نصوص الدستور والتشريعات الضامنة للحرية النص على كفالة حق التقاضي على اعتبار أنه من أهم مصادر الوصول إلى الحق في حالة الاعتداء عليه، والضمان النهائي للحرية، لذلك يعد تقييد هذا الحق ضياع للقانون ومن ثم ضياع الحرية تبعا لهذا الحق.

5. ينبغي أن يقوم التشريع بتقرير الجزاءات اللازمة عند مخالفة نصوصه من خلال تضمين النص التشريعي إجراءات ونصوص لتعريض القائم بالإجراء الماس بالحريات المسؤولية عن تبعات الخروج على القواعد المحددة بالنص، هذا الأمر يؤدي إلى زيادة الاهتمام بإتباع الضمانات المقررة بشأن حماية الحرية.

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/rights/22413

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M