أوروبا مابين طهران وواشنطن: فصل الدبلوماسية الباردة

علي أكبر داريني

وسط خلاف سياسي في واشنطن بشأن قرار ترامب المفاجئ بإقالة جون بولتون من منصبه مستشارًا للأمن القومي، لمح وزير الخارجية، مايك بومبيو، إلى أن الرئيس، دونالد ترامب، ربما يلتقي نظيره الإيراني، حسن روحاني، على هامش انعقاد الجمعية العامة المقبلة للأمم المتحدة، وذلك دون “شروط مسبقة”. وردت تصريحات بومبيو هذه، بُعيد ساعات من إعلان ترامب استقالة مستشاره، بولتون، خلال مؤتمر صحفي أعلن فيه عن فرض بلاده حزمة عقوبات جديدة على بعض الكيانات، بما فيها تشكيل ينتمي إلى الحرس الثوري الإيراني(1) .

ترمي مثل هذه التصريحات إلى ترسيخ النهج المزدوج الذي يتبعه البيت الأبيض تجاه إيران: فرض مزيد من العقوبات الإضافية من جهة، والدعوة إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات، من جهة ثانية. ومع ذلك، فإن رحيل بولتون عن فريق ترامب قد يؤدي إلى تراجع في لهجة البيت الأبيض المتشددة تجاه طهران.

كان بولتون معروفًا بنهجه البعيد عن تقديم الاعتذارات ونظرته المتشددة تجاه دول العالم، كما مثَّلت مواقفه عناوين للإعلام العالمي حتى عندما لا يتحدث عن أي شيء علنًا(2). وقد كان كتب ذات مرة في مقال افتتاحي له في صحيفة نيويورك تايمز، عام 2015، تحت عنوان “لوقف قنبلة إيران، اقصف إيران بقنبلة”.

في طهران، وصف حسام الدين آشنا، مستشار الرئيس الإيراني روحاني، إقالة بولتون، بأنها “مؤشر واضح على أن استراتيجية الضغوط القصوى للولايات المتحدة قد باءت بالفشل”. وأكد آشنا أيضًا أن “حقيقة تهميش جون بولتون، ومن ثم إبعاده، لم تكن مجرد حادثة”، وتنبأ بـ “انهيار حصار إيران”.

ستواصل إدارة ترامب، من دون بولتون، مقاومة لغة التصعيد المتشدد تجاه إيران. غير أن استقالة بولتون لا ينبغي أن تشير إلى حدوث تحول بمقدار 180 درجة في موقف ترامب، ذلك لأنه كان قد ألغى خطته لقصف ثلاثة مواقع في إيران قبل عشر دقائق فقط من إقدام الطيارين الأميركيين على الضغط على الزر الأحمر.

في هذه الورقة، يضع المحلِّل الإيراني، علي أكبر داريني، المواجهة الحالية بين واشنطن وطهران في سياقها الملائم في ضوء سعي ترامب إلى شن حملة شاملة لممارسة “أقصى قدر من الضغط”، وفي ضوء انتهاجه سياسة خارجية هجومية. كما يفحص الكاتب ما يعتبره تقاعس أوروبا وكيف فشلت في الوفاء بالتزاماتها بسبب مخاوفها من العقوبات الأميركية.

ترامب وإفشال “الصفقة الأسوأ”

دأب دونالد ترامب، عندما كان مرشحًا لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية، على الشجب المتكرر للاتفاق النووي التاريخي المبرم مع إيران، والمعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA). وقد كان وَصَفَ ذلك الاتفاق بـ”الغبي” و”العار غير المتكافئ” بل وأيضًا رأى فيه “أسوأ صفقة تفاوضية على الإطلاق”، وكان قد تعهد بوأد الاتفاق إذا ما تم انتخابه رئيسًا لأميركا(3). وبتاريخ 12 مارس/آذار 2016، وعد ترامب، المرشح الرئاسي في حينها، لجنة الشؤون العامة الأميركية-الإسرائيلية (AIPAC) -أقوى منظمة ضغط مؤيدة لإسرائيل في أميركا- قائلًا: “ستكون أولى أولوياتي تفكيك الصفقة الكارثية المُبرمة مع إيران”(4).

وما أن تولى منصبه رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، في شهر يناير/كانون الثاني 2017، حتى بدأ ساكن البيت الأبيض المتمرد بإعادة رسم سياسات بلاده الداخلية والخارجية على حد سواء. أما وعد الرئيس ترامب بوضع أميركا في “المقام الأول” فإنه يعكس بروز أميركا جديدة ذات توجه شعوبي وحمائي على الساحة الدولية. على عكس باراك أوباما، الرئيس الديمقراطي السابق، الذي كان ذا توجه عالمي وشجع على انتهاج بلاده سياسة التعددية في العلاقات الدولية، فإن الجمهوري دونالد ترامب بدا رئيسًا قوميًّا اختار النهج الأحادي.

في سياق الوفاء بوعود حملة الرئيس الانتخابية، أعلنت إدارة ترامب انسحابها من جانب واحد من اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني)، في 8 مايو/أيار 2018، بهدف إعادة التفاوض على صفقة جديدة من شأنها حمل إيران على التراجع عن برنامجها الصاروخي وتحجيم تأثيرها في منطقة الشرق الأوسط. وبالتزامن مع ذلك، اتبعت إدارة ترامب سياسة ممارسة “الضغط الأقصى”، ففرضت عقوبات اقتصادية قاسية ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية سعيًا منها لإجبار طهران على الرضوخ لمطالبها المشطة.

انسحب ترامب من الاتفاق النووي، عام 2018، وبدأت سياسة “الضغط الأقصى” على إيران (الجزيرة – ميدان)

ورغم نصيحة المجتمع الدولي وحلفائها الأوروبيين، فإن ذلك لم يُثن واشطن عن الانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة المبرمة مع إيران عام 2015، واضعة بذلك مستقبل الاتفاق في موضع شك حقيقي. يمثل الاتفاق النووي التاريخي، المبرم بين إيران وستٍّ من القوى العالمية، أصعب اتفاق لمنع الانتشار النووي تم التفاوض عليه على الإطلاق. وهذا ما دفع بوزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري، إلى القول بأن الاتفاق “جعل العالم مكانًا أكثر أمانًا”. وكان من نتائج الاتفاق رفع العقوبات الدولية المشددة ضد إيران في مقابل فرض قيود على البرنامج النووي الإيراني لمدة عقد من الزمن.

أما على الجانب الأوروبي، وبالرغم من التعهدات المقدمة بالحفاظ على التزاماتها في خطة العمل الشاملة المشتركة، فإن أوروبا فشلت حتى الآن في الحفاظ على دورها في الصفقة، فقد توقفت عن شراء النفط الخام الإيراني وأحجمت عن المشاركة في المعاملات المصرفية مع طهران خوفًا من العقوبات الأميركية.

دفع عجز أوروبا عن الوفاء بالتزاماتها، التي توجبها عليها خطة العمل المشتركة الشاملة، الجمهورية الإسلامية الإيرانية في مايو/أيار 2019، وبعد عام من ممارسة “الصبر الاستراتيجي”، إلى البدء في خفض التزاماتها المعلنة بداعي أنها لم تعد تستفيد من امتثالها للصفقة. وقد تبنت إدارة الرئيس الإيراني، حسن روحاني، المعتدلة استراتيجية متعددة الجوانب للوقوف بوجه حملة “الضغط الأقصى” التي فرضها عليها الرئيس الأميركي، ترامب، وذلك عبر انتهاج دبلوماسية نشطة على المستوى الدولي من أجل تأمين حماية مصالحها؛ وجعل منطقة آسيا محورًا لسياستها الخارجية، بالإضافة إلى توسيع تبادلاتها التجارية مع دول الجوار؛ وتطوير مصافي نفطها بهدف زيادة صادرات المنتجات ذات القيمة المضافة؛ ووقف تصدير منتجاتها من النفط الخام على المدى الطويل بموجب استراتيجيتها المسماة “اقتصاد المقاومة”.

أهداف ترامب

كان التوصل إلى الاتفاق حول خطة العمل الشاملة المشتركة، في يوليو/تموز 2015، تتويجًا لجهد امتد لأكثر من 12 عامًا عُقدت خلالها سلسلة من المفاوضات الصعبة بين إيران ومجموعة خمسة زائد واحد (1 5) المؤلفة من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي (أميركا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين) بالإضافة إلى ألمانيا. حصلت الصفقة على اعتراف واسع على الصعيد العالمي باعتبارها أقسى اتفاقية لمنع الانتشار النووي يتم التفاوض عليها. كما اعتُبرت، على نطاق واسع، أعظم إنجازات الرئيس أوباما على صعيد السياسة الخارجية. وكان من نتائج الاتفاق أن عزز صورة إيران على الساحة الدولية ورسَّخ مكانتها الإقليمية؛ الأمر الذي دفع الجمهوريين، في الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة العربية السعودية، إلى السعي لتقويض الاتفاقية. كما أن رفع العقوبات أو تخفيفها مهَّد الطريق أمام إيران لتحقيق نمو اقتصادي معتبر صاحبه مسارعة المستثمرين الأجانب إلى الاستثمار في مشاريع داخل إيران.

مع الاتفاق النووي وسَّعت إيران من تجارتها النفطية (الجزيرة – ميدان)

 لم يَرُق هذا الأمر لترامب لأن خطة العمل الشاملة المشتركة حرَّرت إيران من سلسلة العقوبات ومكنت الجمهورية الإسلامية من فرض نفسها أكثر من ذي قبل. وجادل الرئيس ترامب بأن خطة العمل الشاملة المشتركة تعاملت فقط مع شريحة صغيرة من أنشطة إيران، التي تراها واشنطن مثيرة للقلق، وليس مع مجمل المخاوف الأميركية. ولكن الحقيقة هي أن الصفقة كانت تهدف، منذ اليوم الأول، إلى معالجة البرنامج النووي الإيراني فقط، وليس أكثر، لأن معالجة جميع المخاوف الأميركية والإيرانية كان يمكن أن تؤدي إلى سنوات طويلة من المحادثات المُعطلة دون تحقيق أي اتفاق.

ووفقًا لتعبير ترامب، فإن الصفقة رفعت “العقوبات الاقتصادية المعطلة على إيران في مقابل فرض قيود ضعيفة للغاية على النشاط النووي الإيراني، ولم تضع أي حدود على الإطلاق لسلوكها الخبيث بما في ذلك أنشطتها الشريرة في سوريا واليمن وأماكن أخرى في مختلف أنحاء العالم … وفشلت أيضًا في معالجة تطوير منظومة الصواريخ البالستية الإيرانية”(5). في نهاية المطاف، انسحب ترامب، من جانب واحد، من الصفقة المبرمة في عهد ولاية الرئيس أوباما بهدف إعادة التفاوض على اتفاق من شأنه القضاء على صناعة تخصيب اليورانيوم الإيرانية وحمل إيران على التخلي عن برنامجها الصاروخي، بالإضافة إلى احتواء نفوذها الإقليمي وذلك من دون معالجة المخاوف الإيرانية.

ومن أجل تحقيق هدفها، فرضت إدارة ترامب عقوبات اقتصادية قاسية على الجمهورية الإسلامية متعهدة بخفض عائدات النفط الإيرانية إلى الصفر. وقد كان استخدام واشنطن العقوبات الاقتصادية القاسية، باعتبارها سلاحًا سياسيًّا، يهدف إلى حرمان إيران من مصدرها الرئيسي من عائدات العملة الأجنبية وإجبار طهران على الاستسلام. كان ترامب ضد أوباما وكان تفانيه في تفكيك القوانين والسياسات الموروثة من عهد أوباما دافعًا رئيسيًّا آخر وراء انسحاب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة.

من جانبه، كشف السفير البريطاني السابق لدى الولايات المتحدة، كيم داروش، أن ترامب نبذ “خطة العمل الشاملة المشتركة” لأسباب شخصية وفقط لأن أوباما كان قد وافق على الصفقة. وأضاف أيضًا أن البيت الأبيض فشل في وضع خطة “لليوم الموالي” بشأن كيفية التعامل مع الآثار المترتبة على ما بعد الانسحاب من الصفقة(6).

الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي أعقبه عودة العقوبات الاقتصادية على إيران (الجزيرة- ميدان)

واقعية ترامب الهجومية

يظل تقويض خطة العمل الشاملة المشتركة في صميم نهج إدارة ترامب الأحادي والداعي إلى الحمائية الاقتصادية. ويمكن فهم توجهات إدارة ترامب على أنها سياسة خارجية ذات طابع “واقعي هجومي” تقودها نظرة ترامب المختلفة للعالم. ومما لا شك فيه أن السياسة الخارجية لساكن البيت الأبيض دفعت بالنظام الليبرالي الدولي نحو الفوضى. وتفترض “الواقعية الهجومية”، التي هي فئة فرعية من مدرسة الفكر السياسي الواقعي الجديدة، وجود نظام دولي فوضوي تمتلك فيه جميع الدول قدرات عسكرية هجومية، حيث لا يمكن للدول أن تكون متأكدة من نوايا الدول الأخرى؛ وتعمل جميع الدول، في هذا النظام الدولي المفترض، على تعزيز قوتها وتعظيمها من أجل البقاء الذي هو هدفها الأساسي. ويجادل عالم السياسة الأميركي، جون ميرشايمر، بأنه في الواقعية الهجومية توفر الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي للقوى العظمى حافزًا قويًّا يدفعها للجوء إلى القيام بأعمال هجومية وتبني سلوك عدائي بهدف زيادة أمنها وفرض سيطرتها على العالم (7) .

يعتبر ترامب أن العلاقات الدولية لا تعدو أن تكون سوى لعبة ذات معادلة صفرية. وهو يفضِّل العلاقات التجارية الثنائية عن تلك متعددة الأطراف، ذلك لأن الولايات المتحدة تمتلك تفوقًا عسكريًّا واقتصاديًّا كفيلًا بجعلها تحقق النصر في كل اتفاقية ثنائية على حدة. ويفسر هذا السبب انسحابه من الاتفاقات متعددة الأطراف ومعارضته التكامل بين الدول وتجنبه الدخول في تحالفات. ويعتقد ترامب أيضًا أن التعددية والنظام التجاري الدولي الليبرالي قد جعلا من الولايات المتحدة سوقًا مربحة للسلع الأجنبية ما تسبب في إضعاف أميركا في عهد حكم أوباما. لذا، فإن الأحادية والحمائية التجارية هما الطريقان إلى “جعل أميركا عظيمة مجددًا ” (8).

ما ذُكر أعلاه يقدم تفسيرًا لإعلان ترامب انسحاب أميركا من الاتفاقيات العالمية مثل خطة العمل الشاملة المشتركة، واتفاق باريس حول المناخ، ومعاهدة القوات النووية متوسطة المدى، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، بل ويفسر حتى تهديده بالانسحاب من عضوية منظمة التجارة العالمية.

إن حرب إدارة ترامب التجارية مع الصين، وفرضها التعريفات الجمركية على الواردات وانتقاداتها اللاذعة لحلفائها في حلف الناتو بشأن الإنفاق الدفاعي تمثل أدلة على أن البيت الأبيض يرغب في تحقيق القسط الأكبر من المكاسب في كل شيء، وتؤكد كذلك على أن سياسة حمل الآخرين على الدفع تسري على الأصدقاء والأعداء على حد سواء. كما تجادل إدارة ترامب بأن كلًّا من حلفاء أميركا وأعدائها يستفيدون منها، وأنه قد حان الوقت الآن لتغيير مجريات الأمور لتصب في صالح الولايات المتحدة.

يفرض ترامب تعريفات جمركية إضافية على الواردات بهدف جعل عملية الإنتاج داخل أميركا مربحة، ولهذا ما يبرره وفقًا لسياسات المدرسة “الميركنتيلية الحديثة” أو “مذهب التجاريين الجدد” التي تشجع على تصدير المنتجات المحلية وتُعارض الاستيراد، مع السعي إلى زيادة مستوى احتياط النقد الأجنبي للولايات المتحدة. وفي هذا السياق، أوضح ترامب موقفه في أول خطاب له عن “حالة الاتحاد” خلال الجلسة المشتركة للكونغرس، عام 2017، بالقول: “مهمتي ليست تمثيل العالم بل تمثيل أميركا” (9) .

عدم فاعلية أوروبا

شجبت الدول الأوروبية خرق ترامب لخطة العمل الشاملة المشتركة، كما رفضت محاولاته المستميتة لإضعاف قواعد القانون الدولي والمنظمات الدولية، بما فيها منظمة الأمم المتحدة. وباستثناء أميركا -في عهد ترامب- وإسرائيل والمملكة العربية السعودية، فإن باقي دول العالم كانت حريصة على الحفاظ على خطة العمل الشاملة المشتركة باعتبارها إنجازًا حققه المجتمع الدولي بأسره.

من جانبها، شجبت فديريكا موغيريني، منسقة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، قرار الرئيس ترامب في نفس اليوم الذي انسحبت فيه الولايات المتحدة الأميركية من خطة العمل الشاملة المشتركة، 8 مايو/أيار 2018، وقالت موغيريني: “إن الصفقة النووية ليست اتفاقًا ثنائيًّا، وبالتالي فلا يحق لأية دولة منفردة إنهاءها من طرف واحد”، موضحة أن “خطة العمل الشاملة المشتركة” صُودق عليها بالإجماع بموجب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2231، وهي عنصر أساسي في برنامج الخطة الدولية لمنع انتشار الأسلحة النووية…وسيظل الاتحاد الأوروبي ملتزمًا بالتنفيذ الكامل والفعال للاتفاق النووي، كما أن رفع العقوبات المرتبطة بالأسلحة النووية هو جزء أساسي من الاتفاق النووي (10).

في الوقت الذي تعاطفت فيه أوروبا مع إيران وأكدت على أن خطة العمل الشاملة المشتركة تحقق أهدافها، فإنها فشلت في الوفاء بالتزاماتها في الصفقة بسبب خوفها من أن تطولها العقوبات الأميركية. وفي يناير/كانون الثاني من العام 2019، اعتمدت أوروبا آلية “إينستكس” لدعم التبادل التجاري مع إيران باعتبارها أداة أوروبية ذات غرض خاص لحماية التجارة المشروعة مع إيران وتسهيل المعاملات التجارية التي لا تعتمد عملة الدولار، لكن هذه الآلية لم تُفعَّل حتى الآن.

أما على الجانب الإيراني، فقد أصيب الإيرانيون بخيبة أمل بل وحتى بالإهانة بعد إشارة مسؤولي الاتحاد الأوروبي إلى أن “إينستكس”ستغطي، على الأقل في البداية، توفير السلع الإنسانية مثل الأدوية والمنتجات الزراعية. وعلى الرغم من أنه لم يتم فرض عقوبات على هذه السلع، إلا أنه وبسبب غياب آلية لإجراء المعاملات المصرفية فقد كان من الصعب وصول تلك السلع إلى إيران. لقد تم تصميم آلية “إينستكس” بهدف السماح للشركات الأوروبية، التي تتعامل مع إيران، بتجاوز العقوبات الأميركية وبتحصينها ضد تلك العقوبات. فبموجب المادة 26 من خطة العمل الشاملة المشتركة، فإنه يتوجب على الاتحاد الأوروبي تطبيع العلاقات التجارية مع إيران و”الامتناع عن إعادة طرح أو إعادة فرض العقوبات التي أنهى الاتحاد الأوروبي تنفيذها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة (11).

اجتماع ماكرون وظريف على هامش اجتماعات قمة السبع الكبار (الجزيرة)

وبالإضافة إلى إعادة فرض عقوبات من جانب واحد على الجمهورية الإسلامية وحظر الشركات الأميركية من أي معاملات مع إيران، فقد تعهدت الولايات المتحدة بمعاقبة أي شركات غير أميركية تستثمر أو تواصل القيام بأعمال تجارية مع إيران. وقد غرَّد ترامب، بتاريخ 7 أغسطس/آب 2018، قائلًا: إن “أي شخص يتعامل مع إيران لن يُسمح له بالتعامل مع الولايات المتحدة” (12).

قبل فرض العقوبات الأميركية، اشترى الاتحاد الأوروبي، المؤلَّف من 28 دولة، أكثر من نصف مليون برميل من النفط الخام من إيران. أما الآن فإن مشترياته من النفط الخام الإيراني تعادل الصفر. هذا في حين تبقى كل من روسيا والصين فقط ملتزمتين بتعهداتهما، بطريقة ما.

أما موغيريني، من جانبها، فقد قضت على ما تبقى من آمال إيرانية عندما أوضحت، في 30 أغسطس/آب 2019، أي بعد أكثر من 15 شهرًا على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، أن تفعيل آلية “إينستكس” سيستغرق وقتًا، “الكثير من الوقت”(13).

خفض الالتزامات

أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهي هيئة الرقابة التابعة للأمم المتحدة، وفي 15 تقريرًا رُبُع سنوي أصدرتها تواليًا، أن إيران، وإلى تاريخ قريب، التزمت بشكل كامل بشروط خطة العمل الشاملة المشتركة. أما إيران فقد أعلنت، من جانبها، عزمها مواصلة الحفاظ على الصفقة في حال استمرت في جني ثمارها الاقتصادية، وهو ما يعني أن طهران ستظل ملتزمة بشروط خطة العمل الشاملة المشتركة -رغم انسحاب أميركا منها– بشرط تمكينها من بيع نفطها وتأمين حصولها على الأموال من تلك المبيعات، أو مقايضة نفطها بشراء منتجات تحتاجها.

مع فشل أوروبا في الالتزام بالاتفاق من الناحية العملية، فإنه لم يكن لدى إيران من خيار آخر غير تغيير مسار سياسة تعاملها مع الاتفاق النووي. فبعد أن أمهلت إيرانُ أوروبا عامًا كاملًا لتفعيل التزاماتها في الصفقة ولم تر أية نتائج ملموسة تتحقق على أرض الواقع، بدأت طهران في خفض التزاماتها، في 8 مايو/أيار 2019، بمناسبة حلول الذكرى السنوية الأولى لانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي. هكذا، لم تعد إيران تعتبر نفسها ملتزمة بالحدود المتفق عليها بشأن مخزوناتها من اليورانيوم منخفض التخصيب (300 كيلوغرام) والماء الثقيل (1930 طنًّا) بموجب اشتراطات خطة العمل المشتركة الشاملة. ثم في يوليو/تموز من العام 2019، أي بعد 60 يومًا من إعلانها أول خفض في التزاماتها، خفضت طهران مجددًا التزاماتها وذلك برفع مستوى تخصيب اليورانيوم من 3.6% إلى 4.5%. ثم كان أن أطلقت فرنسا مبادرة دبلوماسية لإنقاذ الصفقة تقضي بتقديم الاتحاد الأوروبي لإيران حدًّا ائتمانيًّا بقيمة 15 مليار دولار (للربع الأخير من عام 2019) من أجل تمويل مبيعات النفط مقابل امتثال إيران الكامل لخطة العمل الشاملة المشتركة، لكن الولايات المتحدة رفضت تلك المبادرة.

العقوبات على طهران توجهت بصورة أساسية للنفط والبنوك والموانئ (الجزيرة – ميدان)

بتاريخ السادس من سبتمبر/أيلول 2019، اتخذت إيران خطوتها الثالثة بعد انتهاء مهلة أخرى منحتها للاتحاد الأوروبي، حُددت بستين يومًا، من دون تحقيق أي تقدم يُذكر. تمثلت الخطوة الإيرانية الثالثة في توقف طهران عن الامتثال للقيود الموضحة في الصفقة والمتعلقة بالبحث والتطوير النووي، وهو ما يعني بدء العمل على إنشاء أجهزة طرد مركزي متقدمة في تخصيب اليورانيوم بشكل أسرع. ومع ذلك، فقد تعهد المسؤولون الإيرانيون باستئناف امتثالهم الكامل لشروط الاتفاق النووي إذا حافظت أوروبا على التزاماتها تجاه الصفقة، بحجة أن إيران لم تعد تستفيد من احترام خطة العمل الشامل المشتركة بعد انسحاب الولايات المتحدة منها وفرضها عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على إيران، مضيفين أنه لا يوجد أي منطق يدفع طهران لتنفيذ الاتفاق من جانب واحد بينما تتنصل الأطراف الأخرى فيه من التزاماتها.

ولتبرير قرارها الاستراتيجي، استندت إيران إلى المادة 26 من خطة العمل الشاملة المشتركة التي تذكر بوضوح أنه سيكون من حق إيران التعامل مع إعادة فرض العقوبات “كسبب يخوِّل لها وقف تنفيذ التزاماتها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة كليًّا أو جزئيًّا”. إن الخطوات الصغيرة التي اتخذتها إيران حتى الآن، وفقًا لسياستها الجديدة القاضية بخفض التزاماتها خطوة-خطوة، قد تمت معايرتها بعناية من أجل تجنب انهيار كل شيء. كما حرصت إدارة روحاني، في إطار حسابات التكلفة والفائدة، على عدم ترك أوروبا تنضم إلى معسكر ترامب. لقد كان من الممكن أن تقفز إيران إلى مستوى تخصيب بنسبة 20% أو أعلى من ذلك في الخطوة الأولى، لكنها لم تفعل ذلك من أجل إفساح المجال أكثر أمام الجهود الدبلوماسية لمتابعة مسارها وحمل أوروبا على تغيير حسابها.

فخ ناقلة النفط

احتجزت السلطات البريطانية، في الرابع من يوليو/تموز 2019، ناقلة النفط العملاقة “غرايس 1″، الحاملة لعلم دولة بنما، عندما كانت تُبحر قبالة المياه المتاخمة لدولة جبل طارق بحجة أنها كانت تنقل النفط الإيراني الخام إلى سوريا، وهو ما يعد انتهاكًا للحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي. وقد أكدت إيران أن الشحنة التي كانت على متن السفينة لم تكن متجهة إلى سوريا، مضيفة أنها غير مجبرة قانونًا على الالتزام بعقوبات الاتحاد الأوروبي لأن الحظر لا يمكن تطبيقه إلا على دول الاتحاد الأوروبي وحدها.

فشلت المفاوضات التي أُجريت خلف أبواب مغلقة في الإفراج عن السفينة، ما أجبر إيران على الرد عبر احتجاز ناقلة النفط البريطانية، ستينا إمبيرو، في مضيق هرمز في 19 يوليو/تموز. ومع ذلك، فقد أبقت طهران باب الدبلوماسية مفتوحًا لتهدئة التوترات وإيجاد حل للتوتر القائم.

كانت هناك دلائل واضحة على أن مهندس حرب العراق، جون بولتون، المستشار المتشدد السابق للأمن القومي في إدارة ترامب، قد شارك في صناعة دراما جبل طارق. فقد حاول بولتون وضع فخ لبريطانيا وكان حريصًا على وضع المملكة المتحدة على خط مواجهة مفتوحة مع إيران. سقطت لندن، في البداية، في فخ بولتون. وبينما كان تبرير بريطانيا القانوني ضعيفًا، فإن الرد الإيراني كان ناجعًا في الإفراج عن ناقلة نفطها “غرايس 1” التي أُطلق عليها لاحقًا اسم “أدريان داريا 1” في الخامس عشر من شهر أغسطس/آب، وذلك على الرغم من الجهود الأميركية للحيلولة دون حدوث ذلك. رفضت بريطانيا طلب الولايات المتحدة منها الاحتفاظ بالسفينة محتجزة، لأن تحذير إدارة ترامب، على حد تعبير الصحفي غاريث بورتر، “يوضح تمامًا أن الولايات المتحدة تحاول فرض قوانينها المحلية على باقي دول العالم”(14).

رأت الولايات المتحدة في التوترات فرصة لإنشاء تحالف لحماية “حرية الملاحة” في مضيق هرمز، ودعت أكثر من 60 دولة للانضمام إلى التحالف المزعوم، لكن القليل من الدول، مثل بريطانيا وأستراليا، أعربت عن استعدادها للانضمام إلى التعزيزات العسكرية في الخليج بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.

لم يرغب حتى حلفاء أميركا، ألمانيا واليابان وفرنسا، في تصنيفهم ضمن المتحالفين مع إدارة ترامب التي انسحبت من خطة العمل الشاملة المشتركة وبعثت بإشارات تفيد بإمكانية نشوب مواجهة عسكرية كارثية محتملة مع إيران.

على الجانب الإيراني، سعى الرئيس روحاني إلى إطالة عمر الصفقة شريطة وفاء الأطراف المشاركة فيها بوعودها. وأبقى روحاني أيضًا باب الحوار مفتوحًا مع إدارة ترامب في حال عودتها إلى خطة العمل الشاملة المشتركة ورفع العقوبات. وقال روحاني، في 14 يوليو/تموز 2019: “متى ما توقفتم عن فرض العقوبات والتنمر، فإننا سنكون على استعداد للتفاوض”(15).

حملة ممارسة “أقصى الضغط”

بعد انسحابها من خطة العمل الشاملة المشتركة، تابعت إدارة ترامب بقوة حملة فرض “أقصى ضغط” شاملة بهدف إضعاف إيران وتصوير نظامها السياسي على أنه غير قادر على الحكم وغير جدير به. كان هدف واشنطن من خفض صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر وعزلها عن الشبكة المصرفية العالمية هو دفع إيران نحو الإفلاس الاقتصادي واستفزاز الإيرانيين لدفعهم نحو الثورة، على أمل أن يؤدي الاقتصاد المتعثر، إلى جانب التحديات المحلية، إلى إجبار النظام الحاكم على الاستسلام.

وقد شجعت سلسلة الاحتجاجات التي شهدتها شوارع مدن إيرانية مختلفة في بدايات العام 2018، بالإضافة إلى الارتفاع الحاد في الأسعار والانخفاض غير المسبوق في قيمة العملة الوطنية الإيرانية (الريال) البيت الأبيض على اتباع سياسة فرض أقسى العقوبات بالقوة. وتستند حملة ممارسة “الحد الأقصى من الضغط” إلى افتراض أن كل اقتصاد ينهار عند نقطة معينة، وأن الجمهورية الإسلامية الإيرانية سوف تتراجع، في نهاية الأمر، تحت اشتداد وطأة العبء الهائل من العقوبات وستوافق، بالتالي، على شروط ترامب.

مع عودة العقوبات، شهدت إيران انخفاضًا حادًّا في قيمة عملتها الوطنية (الجزيرة – ميدان)

وعلى الرغم مما أدت إليه العقوبات الصارمة من انخفاض حاد في صادرات إيران من النفط الخام وإلحاقها الضرر باقتصاد إيران، إلا أن إدارة ترامب لم تحقق أيًّا من أهدافها المعلنة، حيث لم يتم إعادة التفاوض حول الاتفاق النووي، ولم يحدث ما كان يطمح إليه ترامب من التوصل إلى إبرام صفقة مثالية، ولم يُفكك برنامج إيران لتخصيب اليورانيوم، ولم يقلص برنامج الصواريخ، ولم يُحجِّم تأثير إيران الإقليمي ناهيك عن إنهائه.

لقد تجاهلت إدارة ترامب، أو قلَّلت، من مراعاة أهمية عامل الفخر القومي في إيران والمذهب الإسلامي الشيعي الداعي إلى عدم الاستسلام للقهر والإرغام. اعترف بذلك كيري الذي أعلن، خلال جلسة استماع أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في 23 يوليو/تموز 2015، أن “العقوبات لم تمنع البرنامج النووي الإيراني من النمو المطرد” لكن دعوة واشنطن للحوار والاحترام نجحت في فعل ذلك. وأضاف كيري: “استسلام إيران الكامل هو محض خيال واضح وبسيط، وستخبرك أجهزة استخباراتنا بذلك”(16). لم يتم التوصل إلى خطة العمل الشاملة المشتركة إلا بعد أن اختارت الولايات المتحدة نهج الاحترام والمحادثات.

وبالرغم من أن السخط العام لم يختف في إيران، فإن احتجاجات الشوارع توقفت واستقرت عملة الريال وبدأ الاقتصاد، وفقًا لما ادعاه عبد الناصر همتي، محافظ البنك المركزي الإيراني، “يُظهر علامات تحسن في المؤشرات الاقتصادية الرئيسية المتغيرة”(17).

من جهة أخرى، أدى تصنيف أميركا الحرس الثوري الإيراني، الذي هو فرع رسمي من أفرع القوات المسلحة الإيرانية، منظمة إرهابية أجنبية إلى رد إيراني مماثل بتصنيف إيران القيادة الأميركية المركزية (CENTCOM) جماعة إرهابية. لقد مثَّل تصنيف الحرس الثوري جماعة إرهابية سابقة كبرى على مستوى الساحة الدولية ما حمل طهران على تعزيز شكوكها في أن ترامب لا يسعى إلى الحوار وإنما إلى تغيير النظام.

أغلق قرار الإدارة الأميركية وضع كل من المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، ووزير الخارجية، محمد جواد ظريف، تحت العقوبات الباب فعليًّا أمام المفاوضات، لأن ظريف هو الشخص الذي كان سيقود فريق التفاوض الإيراني، إن وُجد تفاوض أصلًا. ولهذا، فإن فرض العقوبات على أكبر دبلوماسي في إيران يُعتبر غلقًا للباب أمام الجهود الدبلوماسية.

يميل الإيرانيون من مختلف التوجهات إلى الاتفاق على أن ترامب قد ذهب بعيدًا، من خلال فرضه أقسى العقوبات على بلدهم، في إلقاء الكثير من ثقله على إيران ولم يبق أمامه مساحة كبيرة للمناورة، وبالتالي فإن المقاومة ورفض الاستسلام لـ”الإرهاب الاقتصادي”، على حد تعبير ظريف، هما الطريق الذي ستسلكه إيران في المستقبل.

خيارات إيران

اعتمدت إدارة روحاني استراتيجية متعددة الجوانب في مواجهة العقوبات القاسية بهدف إبطال تأثير الضغوط الأميركية وتحسين أداء الاقتصاد الإيراني. يتمثل أحد العناصر الرئيسية في هذه الاستراتيجية في اتباع سياسة خارجية نشطة تعمل على كشف التوجه أحادي الجانب لترامب الساعي إلى هدم خطة العمل الشاملة المشتركة وتجاهل القانون الدولي. وتدل دبلوماسية ظريف “التويترية” (لجوؤه إلى تويتر للتعبير عن مواقف بلاده) على استخدام إيران القوة الناعمة من أجل الكشف عن الأجندة الخطيرة التي ينفذها الرباعي المعروف بـ”الفريق ب” (بولتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، وولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد) في دفع الولايات المتحدة نحو صراع غير محسوب العواقب مع طهران. وبالتزامن مع ذلك، واصلت إيران ربط علاقات بنَّاءة مع العالم الخارجي، وتواصل أيضًا عملها لجعل أوروبا تحتفظ بالتزاماتها في الصفقة والحيلولة بينها وبين الارتماء في أحضان ترامب.

ثمة عنصر رئيسي آخر في الاستراتيجية الإيرانية متعددة الجوانب يتمثل في بلوغ إيران مرحلة الاكتفاء الذاتي في إنتاج البنزين. فخلال السنوات الست الأخيرة تضاعف إنتاج إيران من البنزين، في عهد الرئيس روحاني، من حوالي 50 مليون لتر إلى أكثر من 100 مليون لتر يوميًّا، وهو ما أدى إلى وقف استيراد الوقود المكرر.

لقد كان افتتاح روحاني المرحلة الثالثة من مصفاة الخليج، الواقعة بالقرب من بندر عباس، في فبراير/شباط 2019 -والتي تقدر تكلفتها بـ 3.4 مليارات دولار- دليلًا على إرادة حكومته جعل إيران بلدًا مصدِّرًا للوقود؛ إذ لن تواجه إيران مشكلة كبيرة في بيع البنزين المُربح بدلًا من النفط الخام. وفي هذا السياق، قال وزير النفط الإيراني، بيجان نمدار زنغنه، للصحفيين، بتاريخ 30 يوليو/تموز 2019: “إن ما ندخره من فائض إنتاجنا من البنزين يفوق مستوى طلب الاستهلاك الداخلي في البلاد بخمسة عشر مليون لتر، وقد بدأنا أيضًا في تصديره”(18). وهكذا تواصل إيران، عبر بناء المزيد من مصافي تكرير النفط ومن ثم تحولها إلى دولة مصدِّرة للبنزين، سعيها إلى وقف صادرات النفط الخام على المدى الطويل، وذلك سواء مع وجود العقوبات أم بدونها.

أما العنصر الثالث في الاستراتيجية فيتمثل في تطوير نظام أعمال جديد. وفي هذا الإطار، يقود سورينا ستاري، مساعد رئيس الدولة المكلف بالعلوم والتكنولوجيا، سياسة الحكومة لتشجيع تأسيس القطاع الخاص شركاتٍ ناشئةً كجزء من استراتيجية تهدف إلى الحد من الاعتماد على عائدات النفط. وقد تم بالفعل إنشاء مجمع بارديس للتكنولوجيا، الذي تغطي مساحته 60 هكتارًا من الأراضي الواقعة خارج العاصمة طهران، لتأسيس أعمال قائمة على المعرفة. لقد تحول مجمع برديس للتكنولوجيا في إيران، وهو أكبر مركَّب جامعي في غرب آسيا، إلى ما يعادل “وادي السيليكون” في أميركا. وتهدف الحكومة من وراء إنشائه إلى تحويل الاقتصاد الإيراني القائم على النفط إلى نظام اقتصادي قائم على المعرفة. ووفقًا لتصريحات ستاري، فإن هناك 4500 شركة ناشئة تنشط في إيران الآن وتوظف 350 ألف شخص، وقد حققت أرباحًا تقدر بـ 90 مليار ريال إيراني (ما يعادل 782 مليون دولار) في عام 2018 (19).

وتمكنت إيران أيضًا، خلال السنوات الأخيرة، من تعزيز قدراتها في قطاع صناعة الأغذية وحققت اليوم اكتفاءً ذاتيًّا بنسبة 82% (20).

“محور إلى آسيا” هو خيار استراتيجي آخر تبنته إيران خلال عهدة حكم الرئيس روحاني. ويمثل “محور إلى آسيا” جزءًا من رؤية إيران المميزة لـ”إعادة التوازن” تجاه الشرق. وتفسر معاناة إيران من جرَّاء حملة “الضغط الأقصى” التي مارسها ترامب ضدها، في جزء منها، إعادة توجه طهران نحو الشرق. كما يرجع ذلك، في جزء آخر منه، إلى ما عرفه تاريخ علاقات إيران المرير مع الغرب خلال التاريخ المعاصر بشكل عام. لقد برزت آسيا، في الفترة الحالية، كشريان حياة اقتصادي مهم بالنسبة لإيران، خاصة مع وجود الصين في مركزها. وبالتزامن مع هذا، تبنت إيران سياسة تعمل على تعزيز العلاقات مع خمسة من الاقتصادات الناشئة الأخرى، هي: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، المعروفة تحت اسم (مجموعة بريكس)، وبذلك فقد باتت إيران تبحث عن شركاء لها خارج إطار حدودها الإقليمية المباشرة.

على مستوى الجبهة الداخلية، تبنت الحكومة “اقتصاد المقاومة” كوسيلة للتحايل على العقوبات أو التقليل من تأثيرها. ويسعى “اقتصاد المقاومة”، وهو مفهوم طوره خامنئي، إلى توسيع خيارات الصادرات غير النفطية وزيادة مستويات الإنتاج المحلي للسلع الاستراتيجية وتطوير الأسواق في البلدان المجاورة. ولأن فرض عقوبات على منتجات المشتقات الثانوية للنفط سيكون أصعب بكثير من فرضه على النفط الخام، فإن هذه الاستراتيجية تشجع على زيادة تصدير الكهرباء والغاز والبتروكيماويات والمنتجات النفطية بدلًا من النفط الخام. ولهذا، فإن إيران، وكرد فعل على العقوبات، بدأت فعليًّا تحرُّكَها نحو إنشاء مناطق تجارة حرة جديدة على طول حدودها لتعزيز التجارة مع دول الجوار. وكان البرلمان الإيراني قد صادق بالفعل على مشروع قانون لإنشاء ثماني مناطق حرة جديدة ليصل العدد الإجمالي لمناطق التجارة الحرة في إيران إلى 16 منطقة. بالإضافة إلى ذلك، يكافح النظام الحاكم من أجل محاربة الفساد وسوء الإدارة لأنهما ألحقا بإيران ضررًا أكثر مما ألحقته بها العقوبات.

خاتمة

وضع الانسحاب أحادي الجانب من خطة العمل الشاملة المشتركة إدارة الرئيس ترامب في موضع الجهة غير المسؤولة التي أجهضت صفقة دولية متعددة الأطراف كانت تؤتي ثمارها بشكل كامل، فانسحاب إدارة ترامب جرَّد أميركا من مصداقيتها كشريك تفاوضي جدير بالثقة، ودفع بالعالم نحو فوضى أكبر. لقد هدَف قرار الانسحاب إلى الحيلولة دون تحقيق إيران أي تقدم اقتصادي مستندًا إلى رفض ترامب الاتفاقيات الدولية متعددة الأطراف وتفانيه في تدمير ما حققه سلفه، أوباما، من إنجازات على مستوى السياسة الخارجية. هذا، ولا يزال البيت الأبيض يؤكد على أن العقوبات ستحمل إيران على الركوع، لكنه في المقابل لا يملك أية خطة بديلة في حال فشل في تحقيق ذلك.

وفي الوقت الذي يستنكر فيه الاتحاد الأوروبي انسحاب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة، نجده قد أوقف المعاملات المصرفية وجمَّد شراء النفط الخام الإيراني بسبب مخاوفه من فرض واشنطن عقوبات على الشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران.

أدى فشل الاتحاد الأوروبي في الحفاظ على دوره في الصفقة إلى إجبار إيران، بعد عام من الصبر، على البدء في خفض التزاماتها تجاه خطة العمل الشاملة المشتركة على مراحل تبلغ مدتها 60 يومًا، وذلك من أجل تحميل الولايات المتحدة نتائج انسحابها من الاتفاقية، من جهة، وممارسة الضغط على أوروبا للوفاء بالتزاماتها، من جهة ثانية. من جهتها، أكدت إيران على ضرورة تمكنها من بيع نفطها والحصول على المال إذا ما أُريد إنقاذ الصفقة. وقال المتحدث باسم الحكومة، علي ربيعي، في مؤتمر صحفي عُقد في 2 سبتمبر/أيلول: “الالتزام كرد على الالتزام هي الاستراتيجية التي اعتمدناها الآن”(21).

لقد ألحق استخدام واشنطن العقوبات الاقتصادية، كسلاح سياسي، أضرارًا كبيرة بالاقتصاد الإيراني، لكنه، مع ذلك، لم يُتح لواشنطن تحقيق أهدافها المعلنة الرامية إلى حمل إيران على إعادة التفاوض حول صفقة جديدة من شأنها أن تؤدي إلى تفكيك البنية التحتية الإيرانية لتخصيب اليورانيوم من جهة، وتقييد برنامجها الصاروخي ووقف تأثير نفوذ إيران وحلفائها في المنطقة، من جهة أخرى. غير أن تلك العقوبات المشددة دفعت إيران إلى إنشاء مناطق تجارة حرة جديدة على طول حدودها لتشجيع التبادلات التجارية مع دول الجوار الإقليمي البالغ عددها 15 دولة، بالإضافة إلى تشييد مصافي تكرير النفط ورفع مستويات إنتاج المشتقات النفطية، ومتابعة توجهها الاستراتيجي المسمى “محور إلى آسيا” بهدف خفض تأثير العقوبات إلى حدها الأدنى، وتنفيذ سياستها الاستراتيجية “اقتصاد المقاومة”- وهي استراتيجية محلية المنشأ تشجع الإنتاج والصادرات وتشجع الاكتفاء الذاتي وتدعو إلى اقتصاد قائم على المعرفة بُغية تقليل الاعتماد على عائدات النفط.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*علي أكبر داريني، باحث في مركز الدراسات الاستراتيجية في طهران، ومؤلف كتاب “الردع المشروع”  “Legitimate Deterrence”

*ملاحظة: النص أُعِدَّ لمركز الجزيرة للدراسات باللغة الإنجليزية، وترجمه إلى اللغة العربية د. كريم الماجري.

مراجع

  1. Helen Regan and Sharif Paget, “Pompeo hints that Trump could meet with Iranian President at UN meeting”, CNN September 11, 2019 https://edition.cnn.com/2019/09/11/middleeast/bolton-iran-trump-pompeo-rouhani-intl-hnk/index.html
  2. Micheline Maynard, Donald Trump sacks John Bolton, moves Iran to backburner, but he has other foreign policy dramas”, ABC News, September 11 2019 https://www.abc.net.au/news/2019-09-11/bolton-sacking-cant-solve-trumps-foreign-policy-problems/11500846
  3. Bradley Klapper, “Will Trump try to renegotiate the Iran deal?”, AP, November 11, 2016. Available at: https://www.pbs.org/newshour/world/iran-nuclear-deal-renegotiate
  4. Times of Israel, “Trump: My No. 1 priority is to dismantle the disastrous deal with Iran”, March 21, 2016. Available at: https://www.timesofisrael.com/liveblog_entry/trump-my-no-1-priority-is-to-dismantle-the-disastrous-deal-with-iran/
  5. Donald Trump, “Remarks by President Trump on the Joint Comprehensive Plan of Action” May 8, 2018. Available at: https://www.whitehouse.gov/briefings-statements/remarks-president-trump-joint-comprehensive-plan-action/
  6. Caroline Kelly, Caroline, “Trump left Iran deal to spite Obama”, July 15, 2019. Available at: https://edition.cnn.com/2019/07/13/politics/daily-mail-trump-iran-nuclear-deal-leaked-cables/index.html
  7. John Mearsheimer, “The Tragedy of Great Power Politics”, 21–31.
  8. Carla Norrlof, “Hegemony and inequality: Trump and the liberal playbook”, International Affairs, 94(1), 63-88. Available at https://www.chathamhouse.org/sites/default/files/images/ia/INTA94_1_5_262_Norrlof.pdf
  9. Donald Trump, “Remarks by President Trump in Joint Address to Congress”, February 28, 2017. Available at: https://www.whitehouse.gov/briefings-statements/remarks-president-trump-joint-address-congress/
  10. Federica Mogherini, “Remarks by HR/VP Mogherini on the statement by US President Trump regarding the Iran nuclear deal (JCPOA)”, May 8, 2018. Available at: https://eeas.europa.eu/headquarters/headquarters-homepage/44238/remarks-hrvp-mogherini-statement-us-president-trump-regarding-iran-nuclear-deal-jcpoa_en
  11. Joint Comprehensive Plan of Action, July 14, 2015. Available at: http://www.europarl.europa.eu/cmsdata/122460/full-text-of-the-iran-nuclear-deal.pdf
  12. Donald Trum, tweet, August 7, 2018. Available at:  https://twitter.com/realdonaldtrump/status/1026762818773757955?lang=en
  13. Federica Mogherini, “Remarks by HR/VP Federica Mogherini at the press conference following the informal meeting of EU Foreign Ministers”, August 30, 2019. Available at: https://eeas.europa.eu/headquarters/headquarters-homepage/66820/remarks-hrvp-federica-mogherini-press-conference-following-informal-meeting-eu-foreign_en
  14. Jake Johnson, “Bolton Is Desperate to Start a War”, August 17, 2019. Available at: https://www.commondreams.org/news/2019/08/17/bolton-desperate-start-war-us-issues-warrant-seize-iranian-oil-tanker
  15. AP, “Iran says ready to negotiate if US lifts sanctions”, July 14, 2019. Available at: https://www.apnews.com/29a2e3b173ab40ab96f88ed55a755193
  16. John Kerry, “Secretary Kerry’s Remarks SFRC Hearing on the Iran Nuclear Deal”, July 23, 2015. Available at: https://www.foreign.senate.gov/download/secretary-kerry-iran-testimony
  17. Financial Tribune, “Iran’s Economy Improving Gradually”, August 20, 2019. Available at: https://financialtribune.com/articles/business-and-markets/99505/irans-economy-improving-gradually
  18. Tehran Times, “Iran’s daily gasoline output exceeds 100m liters”, August 13, 2019. Available at: https://www.tehrantimes.com/news/439210/Iran-s-daily-gasoline-output-exceeds-100m-liters
  19. ISNA News Agency, July 27, 2019. Available at: https://www.isna.ir/news/98050502482
  20. Tehran Times, “Iran 82% self-sufficient in producing foodstuff”, February 12, 2019. Available at: https://www.tehrantimes.com/news/432876/Iran-82-self-sufficient-in-producing-foodstuff
  21. Tehran Times, “Iranian government: Nuclear commitment is reciprocal”, September 2, 2019. Available at: https://www.tehrantimes.com/news/439885/Iranian-government-Nuclear-commitment-is-reciprocal

 

رابط المصدر:

http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2019/09/190924123027345.html

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M