- تواجه إيران حالياً معضلة انهيار السياقات التقليدية التي ظلّت تتحكم بالملفات الداخلية والخارجية الأساسية على مدى عقدين من الزمن. إذ نشهدُ ظهورَ سياقاتٍ جديدة، مُختلفة كليًّا، تؤثِّر في موقع تلك الملفّات فوق طاولات القرار الإقليمية، والدولية.
- الهوّة بين الطلب والإنتاج في إيران أخذت في الاتساع بشكل غير مسبوق تاريخيًّا، نتيجة أعوام متتالية من العقوبات والتوتُّرات، إلى الحدّ الذي باتت فيه معظم القطاعات الاقتصادية تقتربُ من نقطة الانهيار. وينذرُ الوضع الاقتصادي الراهن بالتحوّل إلى مشكلة أمنية واجتماعية، تُهدد استقرار البلاد.
- في ظلّ عودة الرئيس ترمب، وصقور الحزب الجمهوري إلى البيت الأبيض، ستكون المواجهة الأوروبية-الإيرانية المتصاعدة، مُعزّزةً بمواجهةٍ أشدُّ وقعًا بين طهران وواشنطن، عنوانها العودة إلى “أقصى الضغوط” لإرغام إيران على الجلوس إلى طاولة “اتفاق شامل” حول ملفها النووي وسياستها الإقليمية.
- أظهر الإيرانيون على المستويين الشعبي والرسمي وعيًا باللحظة الحرجة التي تواجه البلاد، وضرورة إيجاد حلول مبتكرة لها، وعدم إضاعة “الفرصة الأخيرة”، لكنّ هذا الوعي ظلّ ناقصًا من حيث عدم استيعابه التطور الجوهري الذي حدث في منطق الملفات الخلافيّة، وفي منطق المقاربة الغربية للمسألة الإيرانية برمتها.
تعيشُ المسألة الإيرانية برمّتها لحظة تاريخيّة فارقة، سواء على المستوى الداخلي؛ السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أو على مستوى السياسة الخارجية، وموقع إيران في المشهدين؛ الدولي المضطرب، والإقليمي العاصف.
وتكاد تكون المرحلة الراهنة، هي اللحظة التاريخية الأصعب التي تواجهها الثورة الإسلامية في إيران على مدار أربعة عقود ونصف الماضية. وهي حصيلة تراكم سميك، تكوّن على مرّ نحو عقدين، تضافرت فيهما قراراتٌ داخلية، وتطوراتٌ إقليميّة، ودوليّة. كما أنها حصيلة المكوث على أعتاب “انتقال سيادي” طال انتظاره، وظلّ يُعرقل حسم الخيارات الاستراتيجية، ويعيق المراجعات الجوهرية، وسط مخاوف حقيقية من دخول البلاد في حقبة مظلمة من الصّراع على السلطة في حال تعثَّر هذا الانتقال.
عام اقتصادي مُوحِش يطرُقُ الأبواب
لعلّ أكثر تجليات الأزمة، يمكن التماسها في الاقتصاد، ومؤشراته التي تدلُّ على رسوخ المعضلة حتى أعماق الهيكل الاقتصادي الإيراني. إذْ اتّسعت الهوّة بين الطلب والإنتاج في إيران بشكل غير مسبوق تاريخيًّا، نتيجة أعوام متتالية من العقوبات والتوتُّرات، إلى الحدّ الذي باتت فيه معظم القطاعات الاقتصادية تقتربُ من نقطة الانهيار. ولا يُخفي المسؤولون الإيرانيون اليوم مخاوفهم من أنّ استعادة التوازن بين الطلب والإنتاج، يحتاجُ إلى استثمارات داخليّة وخارجيّة لا تقلُّ عن 400 مليار دولار، وتصلُ في مستوياتها الطموحة إلى 800 مليار دولار.
ويشهدُ الوضع الاقتصادي في إيران تَردِّيًا غير مسبوق على الرغم من أنّ الأرقام الصّادرة عن المراكز الرسميّة ومؤسسات الرّصد العالمية، تُظهِرُ ارتفاعًا مُطردًا وكبيرًا في حجم مبيعات النفط الإيرانية في خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة؛ حيثُ تؤكد المعطيات أنها تجاوزت في أكتوبر 2024 مليوني برميل في اليوم على الرغم من العقوبات. وفي ظل إصرار الحكومة الحالية، وحاجتها الماسّة إلى اتّخاذ قرارات غير شعبيّة، فإن هذا الوضع الاقتصادي بات ينذرُ بالتحوّل إلى مشكلة أمنية واجتماعية، كأن يُطلق موجة احتجاجات شعبية واسعة.
وتشيرُ الأرقام إلى أنّ العجز الذي يشكّلُ في موازنة العام الجاري نحو 25% من إجمالي الموازنة، سيتضاعف -وفق المصادر الرسمية- في موازنة العام الإيراني المقبل. في حين تُظهِرُ المعطيات أنّ موازنة العام المقبل، ستكون من بين الأسوأ على صعيد تحريك ماكنة التضخم، نتيجة رفع الدين العام والضرائب اللّذَيْن يُشكّلان أكثر من نصف إجمالي حجم الموازنة؛ حيثُ ستشهد موازنة العام المقبل ارتفاعًا بنسبة 39% في الضرائب، بينما لا ترتفع أجور المتعاقدين مثلاً بأكثر من 20%، وهو ما يضع مزيدًا من الضغوط على الأعمال الصغيرة، والطبقات العاملة التي تعيش نسبة كبيرة منها دون خط الفقر.
وتعتزم حكومة الرئيس بزشكيان تطبيق سياسات تقشف قاسية للتأقلم مع “عام العيش على لحم الجسد”؛ إذ تحدّثت الحكومة عن رفع سعر الوقود بنسبة 40%، وقطع الدعم النقدي عمّا لا يقل عن 30% من الشارع الإيراني، وخفض الدعم على السلع الأساسية بنسبة 33%، ورفع سعر الدولار المعتمد لتوفير السلع الأساسية بالنسبة ذاتها.
وتنصّل وزير الاقتصاد الإيراني عبد الناصر همتي عن وعود حكوميّة سابقة بخفض التضخُّم إلى أقلّ من 30%، ورفع نسبة النموّ إلى أكثر من 3% في العام المقبل. وأعلنت الحكومة لأول مرة بعد 165 شهرًا عجزها عن صرف الدعم النقدي الشهري الذي تقدّمه للمواطنين؛ ما يُعدُّ مؤشرًا على نفاذ المال في الخزينة في مطلع الربع الأخير من العام المالي الإيراني.
وعلى الرغم من أنّ تجليات الأزمة على الصعيد الاقتصادي تظلُّ الأوضح، غيرَ أنّها ليست الأعمق، ولا الأوقع أثرًا؛ فالسياسة الخارجيّة التي تُعتَبرُ المدخل الأهم لتحديد مصير المؤشرات الاقتصاديّة، تشهدُ أيضاً هذه الأيام مسارًا مُتسلسلًا من الانتكاسات.
السياسة الخارجيّة: ملفاتٌ عالقةٌ على مُفترقَات حَرِجة
في شكل عامّ، لا يُمكن فهم السلوك الإيراني على مختلف المستويات؛ السياسي والعسكري والاقتصادي والأيديولوجي، من دون فهم طبيعة المشروع الذي يُمارسه النظام الإيراني منذ أول أيام تأسيسه للتوسع الإقليمي. وهو مشروعٌ يستند إلى أسس أيديولوجية بالمعنى الديني والثوري. كما يستند إلى قناعات استراتيجية لدى صانع القرار الإيراني، وترك أثره في الجغرافيا السياسية الإقليمية، والعلاقات الخارجية لإيران. كما ترك أثره في بنية القرار الإيراني، وأثّر في مستويات أعمق على النسيج الاجتماعي الإيراني، والإقليمي، من طريق تقديم العقيدة على المواطنة التي تستند إليها مؤسسة الدولة. ويترك هذا المشروع اليوم، آثارًا واضحة على منظومة العلاقات الخارجية الإيرانية، ويُعقّد فرص حل الملفات العالقة مع إيران، على الرغم من وجود حكومة “اعتدال” في طهران، خُصوصًا في ضوء هيمنة الحرس الثوري على الملفات الخلافية.
ويعدُّ الملف النووي المحور الأساسي للسياسة الخارجية الإيرانية منذ ما يقارب 15 عامًا، إذْ كان مدخلًا لفرض المئات من العقوبات المشدّدة في خلال هذه الفترة. كما كان مدخلًا إلى اتفاقٍ نوويٍّ ألغى العديد من العقوبات، وفتحَ أبواب إيران على العالم. كان ذلك عام 2015، لكنّ هذا الاتفاق يقفُ اليوم على مشارف النهاية، بحكم موادّ الاتفاق المعروفة باسم “بنود الغروب”، والتي ينتهي معظمها بعد عشرة أعوام من بدء تنفيذ الاتفاق الذي دخل منذ مايو 2018 مرحلة الموت السريري، بعد أن مزَّقه ترمب بانسحابه منه، ثمّ مزقته إيران من طريق خطواتٍ تصعيديّة نوويّة متتالية، كانت نتيجتها بلوغ طهران مستوى تخصيب 60%، وإنتاج معدن اليورانيوم، وبلوغ مخزون إيران من اليورانيوم المخصب 60% حوالي 182 كيلوغراماً؛ أي بلوغها قاب قوسين أو أدنى من لحظة القنبلة النووية.
وتعني النهاية القانونية للاتفاق النووي بالدرجة الأولى، تصعيدًا غربيًّا حتميًّا عبر تفعيل “آلية الزناد”، وإعادة العقوبات الدولية التي ألغاها القرار الأممي 2231؛ ما سيضع أوروبا في حالة تماهٍ كاملٍ مع سياسة “الضغوط القصوى” التي تنوي إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب العودة إليها.
وتعني عودة العقوبات الدولية، إلى جانب التطبيق المشدد للعقوبات الأمريكية، حصيلةً كارثيّةً للاقتصاد الإيراني المتهالك. وقد بدأت معالم هذه الحصيلة الكارثية تتضح، من طريق تفاعل سعر العملة مع تطورات الملف النووي الإيراني في “الوكالة الدولية للطاقة الذرية”. وقد يترافق ذلك مع تصعيد سياسيّ، وعسكريّ، خاصّة في حال تبنّى صانع القرار الإيراني، دعوات المتشدّدين في الداخل إلى ضرورة تجاوز العتبة النووية.
ولن تكون هذه المواجهة الأوروبية-الإيرانية محدودة بالمقاربة الصّلبة للملف النووي، بل ستتجاوزها كما يبدو إلى خطوات تصعيدية غربيّة أخرى ضدّ الدولة العميقة الإيرانية، بدواعي دعم الإرهاب، والمساهمة في الحرب الروسية على أوكرانيا؛ حيث تلمح أطراف أوروبية إلى تحرُّك قريبٍ لوضع “الحرس الثوري” على قائمة المنظمات الإرهابية. كما تُظهر مواقف الإدارة السياسية الجديدة للاتحاد الأوروبي، أن عصر الغزل السياسي مع طهران قد انتهى، وأن هناك خطاب أوروبي مُتشدّد حيال إيران قيد التشكُّل.
وفي ظلّ عودة الرئيس ترمب، وصقور الحزب الجمهوري إلى البيت الأبيض، ستكون المواجهة الأوروبية-الإيرانية، مُعزّزةً بمواجهةٍ أشدُّ وقعًا بين طهران وواشنطن، عنوانها العودة إلى “أقصى الضغوط” لإرغام إيران على الجلوس إلى طاولة “اتفاق شامل”. وستُمارس إدارة ترمب الضغوط على طهران، بهامش كبير من الارتياح هذه المرة؛ إذ لديها أغلبية مريحة في مجلسي الشيوخ والنواب، وتناغم أوروبي، واستعداد إسرائيلي صريحٌ لوضع التهديد العسكري قيد التنفيذ في حال أخفقت الضغوط السياسية والاقتصادية.
وتظهرُ المواقف الأمريكية تطورًا لافتًا في مقاربة واشنطن للملف الإيراني، ترفعه إلى مستوى الملفات الاستراتيجية الأساسية ضمن السياسة الخارجية الأمريكية؛ إذ تُعنى الولاياتُ المتحدة بمعالجة التحدي الناجم عن شبكة الميليشيات لمعالجة هواجس الحليف الإسرائيلي، ولتسحب من يد إيران ورقةً استخدمتها بشكل متكرّر، لابتزاز المجتمع الدولي، والتّحكم في الممرّات، وخطوط الملاحة، والضغط على الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط. ومن جهة ثانية، تُعنى واشنطن بمواجهة النفوذ الإقليمي الإيراني في سياق معالجتها للتحدي الصيني وذلك في إطار سياسة “فكّ الارتباط” بين الصين وحلفائها، وحرمان الصين من الحصول على إمدادات النفط الإيراني الرخيص الذي يعزز من فرص نموّ الاقتصاد الصيني.
وفي سياق استراتيجية “فك الارتباط”، يمكن الحديث عن رغبة الأطراف الغربية بعزل إيران عن الحليف الروسي؛ فالولايات المتحدة ترصد باهتمام خطوات الصين وروسيا لممارسة النفوذ الإقليمي من طريق الحليف الإيراني وشبكة وكلائه في المنطقة لعرقلة مساعي واشنطن في عزل الشرق الأوسط عن الصين، ودعم البديل الهندي.
دلالاتُ انهيار السياقات التقليديّة للملفات الاستراتيجيّة
تقفُ إيران في اللحظة الراهنة أمام انهيار السياقات التقليدية التي ظلّت تتحكم بالملفات الأساسية على مدى أكثر من 15 عامًا. إذ نشهدُ ظهورَ سياقاتٍ جديدة، مُختلفة كليًّا، تؤثِّر في موقع تلك الملفّات فوق طاولات القرار الدولية، والإقليمية. وهو ما يضع المسألة الإيرانية في وضع جديد يتطلّب مقاربة جديدة، سواء فيما يتعلّق بالمستوى الداخلي (الاقتصاد، وتوزيع القوة، وتغيير بُنية القرار)، أو على المستوى الخارجي، عبر إنتاج مقاربات جديدة للملفات التي شكّلت العمود الفقري للسياسة الخارجية.
وقد أدّت هذه التحوُّلات الجوهرية في ملفّات السياسة الخارجية الإيرانية إلى وصول “الملف النووي الإيراني” إلى وضعٍ جديد، ما عاد قادرًا معه على فضّ الخلاف مع الغرب، حتى بافتراض استجابة إيران الكاملة للمطالبات الغربية بشأنه. وتواجه إيران في مختلف الملفات اليوم، مُقاربات غربيّة مُتشدّدة، تهدف إلى إعادتها لنقطة الصفر، وإرغامها على الخضوع لاتفاق شاملٍ، يُعيدُ إيران إلى إطار الدولة الطبيعيّة. كما يرفعُ مستوى معالجة المعضلة الإيرانية من رؤية ظرفيّة إلى مستوى السياقات الاستراتيجية؛ بما يعني تحولاً بنيويًّا في مُقاربة ملفات عالقة على رأسها “شبكة الوكلاء”، وسياسة “التوجه نحو الشرق”.
أما على الصعيد الداخلي، فكانت حصيلة انهيار تلك السياقات التقليدية، هي فشل الخطوات التي بذلتها المؤسسات الرسمية (الحكومة) لمعالجة الأزمة الاقتصادية، عبر إجراءات تقليديّة، لم تؤتِ ثمارًا لأنها تأتي في سياقات غير تقليدية. ويُنذر الاستمرار في تبنّي الحلول والمقاربات القديمة، بتحول الأزمة الاقتصادية التي تعيشها إيران إلى معضلة بنيوية، قد تتحول معها مؤسسة الدولة الإيرانية إلى دولة هشة، تعيش على مشارف الانزلاق الدائم إلى الاضطرابات الاجتماعية، خاصّة وأنها تأتي مدفوعة بأزمات هيكلية أخرى، على صعيد البيئة والمناخ، وبحالة التأجيل المتواصل التي يعيشها المشهد الإيراني بانتظار مآلات الانتقال السيادي.
الوعيُ الإيراني باللّحظة الراهنة: محاولةُ إيجاد ثقبٍ في الجدار
تكشف التطوُّرات الميدانيّة التي جرّبها المشهد السياسي الإيراني في خلال الأشهر الستة الماضية عن وعي واضح – سواء على المستوى الرسمي أو على الصعيد الشعبي – باللحظة الحرجة، والحاجة إلى مسارات جديدة لإيجاد مخارج تكفل الحؤول دون غرق السفينة الإيرانية:
- على الصعيد الرسمي، دفع هذا الوعي صانع القرار نحو اتخاذ قرارات عدة، على رأسها إشراك التيار الإصلاحي في العملية السياسية عبر الانتخابات الرئاسية، وذلك بعد إقصاء هذا التيار من العمليّة السياسية لفترة غير قصيرة.
- وعلى المستوى الشعبي، دفع الوعي ذاته الشارع الإيراني نحو التفاعل مع المشهد السياسي، وإنهاء المقاطعة، والتصويت لصالح المرشح الإصلاحي؛ ما رفع نسبة المشاركة في الانتخابات إلى ما فوق الخمسين بالمائة، بعد أن انخفضت في خلال آخر ثلاث جولات رئاسية إلى الأربعينيات.
ومن منطلق الوعي نفسه، أظهرت إدارة الرئيس مسعود بزشكيان رغبتها في العودة للمفاوضات، ومنحت حقيبة الخارجية لأحد أعضاء الوفد المشارك في المفاوضات النووية، كما عيّنت عراب الاتفاق النووي؛ محمد جواد ظريف، مساعداً للرئيس للشؤون الاستراتيجية على الرغم من الضغوط التي مارسها المتشددون لإقصائه. وسعت الحكومة إلى إحياء القناة الأوروبية للمفاوضات، وحاولت إثبات جدّيتها في الانفتاح على الغرب من طريق تجاهل الحليف الروسي، وممارسة ضبط النفس في المواجهة الإقليمية.
وجاء الوعي الإيراني باللحظة الحرجة، وضرورة القيام بخطوات كبيرة لإيجاد مخرج منها، في سياق ما أطلق عليه محللون إيرانيون “الفرصة الأخيرة”. لكنّه كان وعيًا مبتورًا؛ إذ أدّى إلى تبنّي الإجراءات التقليدية ذاتها التي عهدناها من صانع القرار الإيراني طوال العقدين الماضيين في مختلف الملفّات. وهو ما أدى بدوره إلى فشل تلك الإجراءات التي اتخذتها الحكومة، لتحسين المؤشرات الاقتصادية، وحشد الطبقة الوسطى ورائها، وجلب انتباه المجموعة الغربية.
ورأت حكومة بزشكيان أنها قادرة على تكرار تجربة حكومة روحاني في لجم التضخم ومعالجة التردي الاقتصادي عبر الانفتاح على الغرب. وكانت حكومة روحاني استطاعت ضبط مؤشر التضخم (من 44% في يوليو 2013 إلى 19.7% في فبراير 2014)، وتحسين مؤشر سعر العملة بنسبة 27%، بعد رفع شعار المفاوضات مع الغرب، لكن ذلك لم يحدث في عهد بزشكيان، إذ سجلت أسعار الدولار ارتفاعًا بنسبة 22%، وراوحت نسبة التضخم مكانها في خلال الأشهر الخمسة الأولى من حكومة الإصلاحيين على الرغم من كل محاولاتهم للانفتاح على الغرب. وتجاهل الغربيون – خلافاً لما حدث في الأسابيع الأولى من حكومة روحاني – الإشارات الإيجابية التي أرسلتها إيران باستمرار، وفضلوا سلوك نهجٍ متشدد لمواجهة النظام الإيراني، ووضع حلول نهائية للملفات الخلافية معه.
أسبابُ الإخفاق، وسُبُل الخروج من المأزق الإقليمي
كما أوضحنا، أظهر الإيرانيون على المستويين الشعبي والرسمي وعيًا باللحظة الحرجة، وضرورة إيجاد حلول مبتكرة لها، وعدم إضاعة “الفرصة الأخيرة”، لكنّ هذا الوعي ظلّ ناقصًا من حيث أنه لم يستوعب – على الصعيد الرسمي على الأقل – التطور الجوهري الذي حدث في منطق الملفات الخلافيّة، وفي منطق المقاربة الغربية للمسألة الإيرانية برمّتها. لذلك، بقي تفكيرهم في الحلول مأسورًا في المربع التقليدي، بينما تجاوزت الأطراف الأخرى السياقات التقليدية. وعلى الرغم من أن الخطوات التي قام بها الجانب الإيراني كانت خطوات صحيحة، لكنها لم تؤت النتائج المطلوبة لأنها جاءت في مناخ مختلف.
وتتطلّب السياقات الجديدة التجاوب مع رؤية أمريكية/غربية تطرح الملف الإيراني بمحاوره الخلافية ضمن مستويات مختلفة كليًّا، وهي ترغب في تحول بنيوي في الرؤى الإيرانية، لكنّ الاستجابة الإيرانية اقتصرت على استبدال حكومة المحافظين بحكومة الإصلاحيين، على غرار ما حدث في 2013. وكانت الحصيلة تطبيق إجراءات وظيفية (Functional Procedures) لمعالجة تطورات هيكلية (Structural developments) أو أعطاب بنيوية (Structural damages).
واتخذ الإيرانيون خطوات عمليّة في مختلف الملفات العالقة، تتناغم مع السياق التقليدي، وليس مع السياق غير التقليدي الراهن. فأنتجت في المناخ الجديد أخطاء ظرفية صغيرة، ظلّت تتراكم تِباعًا، وتؤدي إلى تقلُّص مساحات المناورة التي يمتلكها الإيرانيون لإصلاح المشهد؛ ما عمل على تصلب المشهد، وتقليل مساحات الفراغ، وتقليص فرص التأقلم والنجاح، تماماً كما يحصل في لعبة تتريس الإلكترونية (Tetris game)[1].
ولا شكّ أنّ هذه الاستجابة الإيرانية جاءت تحت تأثير “عصر الانتظار” المتعلق بخلافة القائد الأعلى؛ علي خامنئي، والذي يُعرف في إيران باسم “الانتقال السيادي”. إذ أدت حالة الانتظار إلى تقليص الشفافية، وانهيار ثنائيات تقليدية من ضمنها ثنائية الحكومة/الدولة العميقة، وتشظّي القوى السياسية التي كانت تنطوي تحت عباءة القائد الأعلى، وانطلاق مسارات المنافسة على الخلافة، كما أدت إلى تلكؤ في القرارات السيادية نتيجة ما يمكن تسميته بـ “الهيمنة المؤجلة” (Deferred domination)؛ حيثُ يحاول الفاعلون المؤثرون تأجيل قراراتهم، وخیاراتهم الأساسية، بانتظار اكتمال المشهد، وتحديد مصير خلافة القائد. لينعكس هذا التلكؤ في مرحلة لاحقة على القرارات الإيرانية بشأن الملفات الخلافية الأساسية في السياسة الخارجية.
ولا يعني كلُّ ما سبق، انعدام الأفق السياسي لحلّ الملفّات الخلافية العالقة بين إيران والمجتمع الدولي، لكنّه يعني بشكل واضح أنّ الحلول والمقاربات المطلوبة اليوم، سواء من الجانب الإيراني، أو من الأطراف الدولية، ينبغي أن تختلف في ماهيّتها، وجوهرها عن الحلول، والمقاربات التقليدية التي كانت تحكم الملف الإيراني في خلال العقدين الماضيين، وحتى عهد قريب. كما يعني أن استمرار السلوك الإيراني التقليدي، لن يؤدّي إلّا إلى تقليص آفاق الحلّ. وقد يتعين على طهران أن تتجاوز هذا الوعي المبتور في التعامل مع الملفات الخلافية، والتوجهات الدولية، في ظلّ السياقات الجديدة التي غيّرت الملفات الخلافية، وبدّلت طبيعة الأوراق التي تمتلكها إيران، من كونها أوراق تضغط بها إيران على المجتمع الدولي، لتصبح أوراقًا ضاغطة على إيران.