إيران: في مواجهة بيئة استراتيجية جديدة

عادت إيران لتحتل موقعًا بارزًا في خارطة الإقليم المشرقي السياسية وعلى جدول الاهتمام بتطورات أوضاع الشرق الأوسط وأطراف تحولاته الاستراتيجية. لم تكن إيران قد غابت عن تدافعات المنطقة ومقدراتها، بالتأكيد، ولكنها لم تُعتبر، طوال حضورها الفعال خلال العقدين الماضين، هدفًا ملحًّا للقوى الدولية ولا حتى للمنافسين الإقليميين، بالرغم من أنها عانت من حصار وعقوبات أميركية ودولية منذ إعلان الجمهورية الإسلامية. بل يمكن القول: إن إيران كانت القوة الإقليمية التي أفادت، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وربما بدون قصد أو تخطيط، من مجمل التحولات التي عاشتها المنطقة منذ أحداث سبتمبر/أيلول 2001.

أفادت الجمهورية الإسلامية من قيام إدارة بوش الابن بالإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان في خريف 2001، الذي كان قد تبنى سياسات معادية لإيران، وصلت حدًّا طائفيًّا. وأفادت من الغزو الأنجلو-أميركي للعراق وإطاحة نظام صدام حسين، لتصبح صاحب النفوذ الأكبر والأوسع نطاقًا في العراق، الدولة العربية الرئيسة. وساعدت حروب إسرائيل المتتابعة على لبنان وقطاع غزة، والسياسة الأميركية قصيرة النظر في تأييد الحروب الإسرائيلية، في تعزيز نفوذ إيران في لبنان، باعتبارها الداعم الرئيس لحزب الله، القوة المسلحة الوحيدة والأكبر داخل لبنان، وفي تعزيز علاقاتها بحركة حماس، التي تسيطر على قطاع غزة، وشركاء حماس الأصغر في ساحة المقاومة الفلسطينية.

عندما اندلعت حركة الثورة والتغيير في الساحة العربية، في أواخر 2010، بدا أن النموذج الإيراني يواجه تحديًا غير متوقع، بعد أن رفعت الجماهير العربية في دول، مثل: تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، شعارات الديمقراطية والتعددية، كما تجنبت العنف المجتمعي ورفضت دعاة السيطرة الأحادية والديكتاتورية الأيديولوجية. ولكن تعثر عملية التغيير الديمقراطي في دول الثورة العربية، وتبني الولايات المتحدة ودول الثورة المضادة في الخليج سياسةَ عدم اكتراث بعملية التغيير، أو موقفًا مناهضًا من قوى التحول الديمقراطي، أتاح لإيران استغلال المناخ الاستراتيجي الإقليمي في سنوات ما بعد 2013 لصالحها.

شجَّعت إيران نظام الأسد على مواجهة شعبه بقوة السلاح، وعندما عجز النظام عن إخماد الثورة السورية، تقدمت إيران، بصورة مباشرة، وباستخدام الحلفاء في الميليشيات الشيعية المختلفة، لتقديم العون للنظام وإقامة وجود عسكري واقتصادي عميق الجذور في كافة أنحاء سوريا. وقد أسهم التفاهم الإيراني-الروسي في خريف 2015، الذي أدخل الروس بصورة مباشرة في الحرب السورية الأهلية، في تعزيز العلاقات التحالفية بين موسكو وطهران.

شجَّعت إيران حكومة المالكي على قمع الاعتصامات الشعبية في مدن الأغلبية السنية العراقية في 2013. وعندما انهارت قوات المالكي أمام تنظيم الدولة في صيف 2014، اتخذت طهرات قرارًا براغماتيًّا بالتخلص من المالكي والتعاون، طوال السنوات التالية، مع القوات الأميركية لإيقاع الهزيمة بتنظيم الدولة ووضع نهاية لسيطرته في شمال وغرب العراق. وعندما تأكدت القيادة الإيرانية من توجه إدارة أوباما للتفاوض حول الملف النووي، فاوضت إيران الولايات المتحدة للتوصل إلى اتفاق 5 1 الشهير، الذي فتح الطريق لوضع نهاية لعزلة إيران الدولية والتخلص من معظم العقوبات الأميركية والدولية التي فُرضت عليها في العقود السابقة.

في اليمن، أفسحت سياسات السعودية المعادية لعملية التحول الديمقراطي المجال للحوثيين، حلفاء إيران المقربين، لتحقيق انقلاب على الحكم الانتقالي في خريف 2014، ومن ثم فرض السيطرة على العاصمة ومعظم الشمال اليمني. وبالرغم من الحرب التي أعلنتها السعودية، بتعاون إماراتي، على الحوثيين في ربيع 2015، لم يزل الحوثيون محافظين على مواقعهم، بل وتحولوا، بمساعدة إيرانية تقنية، إلى مصدر تهديد لأمن السعودية الداخلي. وقد باتت الحرب في اليمن، مهما كانت زاوية النظر إلى مجرياتها، مصدر استنزاف مرير، مالي وعسكري، للسعودية، خصم إيران الإقليمي.

على خلفية من هذا التمدد الاستراتيجي، لم يكن غريبًا أن تأخذ الحماسة مسؤولًا ثانويًّا في طهران للقول بأن إيران باتت تسيطر على أربع عواصم عربية. وحتى عملية حصار قطر، التي تعهدها الثلاثي السعودي-الإماراتي-البحريني، والتي حسبت الدول الثلاث أنها ستظل مسألة خليجية بحتة، لم تلبث أن تحولت إلى شأن إقليمي لم يخل من فائدة لإيران. معارضة إيران لحصار قطر، وفتحها أجواءها للطيران القطري، وقلق الكويت وعُمان من النزعة العدوانية السعودية، عملت على توليد مناخ من الود بين طهران من جهة، والدوحة والكويت ومسقط، من جهة أخرى.

اليوم، يبدو أن إيران تواجه مناخًا استراتيجيًّا جديدًا في الإقليم، وعلى صعيد علاقاتها الدولية. ليس لأن خصومها الإقليميين، مثل: السعودية والإمارات، باتوا في وضع أفضل، بل لأن ثمة مؤشرات متزايدة على أن التوسع الإيراني الإقليمي تجاوز حدود القوة الذاتية الإيرانية، للتعارض بين أهداف طهران وأهداف موسكو في سوريا، من جهة، ولأن قرار إدارة ترامب، من جهة أخرى، الانسحابَ من الاتفاق النووي، وربما بصورة غير محسوبة تمامًا، فتح الباب لأزمة متفاقمة في الخليج، تقف إيران في المركز منها.

أزمة في الخليج وجواره

تُوجِّه الولايات المتحدة، بتأييد من عدد من الدول الأوروبية الغربية، الاتهامَ لإيران بتنفيذ هجمات على أربع سفن بينها ناقلتان سعوديتان قرب ميناء الفجيرة، في 13 مايو/أيار الماضي (2019)، والهجمات على ناقلتين تعود ملكية إحداهما لشركة نرويجية والأخرى لشركة يابانية في خليج عُمان في 13 يونيو/حزيران الحالي. استُخدمت في كلتا المناسبتين وسائل تفجير معقدة، يُستبعد أن تمتلكها أو تستطيع التحكم بها جماعات إرهابية. ويقول الأميركيون إن لديهم أدلة استخباراتية لا يتطرق إليها الشك، تشير إلى مسؤولية الإيرانيين عن الهجمات في الحادثتين، فيما تنفي طهران مسؤوليتها، بينما تطالب دول أخرى بينها روسيا بمزيد التحري قبل تحميل المسؤولية لإيران.

قد تبدو إيران مستفيدًا رئيسيًّا في الحادثتين، اللتين تحملان رسائل تهديد لخصوم إيران الإقليميين وللسوق العالمية والقوى الدولية، أكثر منها محاولة لتعطيل الملاحة في الخليج أو إشعال الحرب. ولكن، أيًّا كان الطرف الذي يدفع المنطقة إلى حافة الهاوية، فإن هذا الوضع قد يخدم مساعي طهران الحثيثة للتخلص من مأزق الحصار والعقوبات الهائلة، التي فرضتها إدارة ترامب على إيران، وعلى كافة الشركات والدول التي يمكن أن تتعامل معها اقتصاديًّا وتجاريًّا وماليًّا. وهنا، تقع عقدة التوتر المتفاقم في الخليج، وأسس الأزمة التي تلقي بثقلها على مياهه وعلى الدول المحيطة بساحليه.

ملتزمًا بنهج تنفيذ وعوده الانتخابية، أعلن ترامب، في مايو/أيار 2018، انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق 5 1 النووي، الذي توصلت إليه إدارة أوباما مع إيران، في صيف 2015، ووافقت عليه الدول الأعضاء الدائمة الأخرى في مجلس الأمن، إضافة لألمانيا. حينها رأى البعض أن إلغاء ترامب التزام الولايات المتحدة بالاتفاق تقرَّر لإرضاء حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، سيما السعودية وإسرائيل. ولكن المؤكد أن دوافع ترامب كانت أميركية بحتة، ليس فقط لأنه سبق وأعلن نيته الانسحاب من الاتفاق خلال حملته الانتخابية، بل أيضًا لأن الساحة السياسية الأميركية كانت قد انقسمت حول الاتفاق من البداية وبمجرد الإعلان عنه، وهو ما أدى لإخفاق إدارة أوباما في الحصول على تصديق الكونغرس عليه.

ما دفع إليه حلفاء أميركا شرق-الأوسطيين، ربما، كان حثَّ إدارة ترامب على توسيع نطاق الشروط التي وضعتها لبدء التفاوض من جديد مع إيران. ففي حين فصلت إدارة أوباما بين الملف النووي ومسائل الخلاف الأميركي-الإيراني الأخرى عندما بدأ التفاوض في 2014، الذي انتهى باتفاق صيف 2015، تربط إدارة ترامب بين الدعوة لإعادة التفاوض على اتفاق جديد وعدد من المسائل الأخرى، بما في ذلك برنامج الصواريخ الإيرانية، والنشاط الإيراني الإقليمي، وموقف طهران من المسألة الفلسطينية وعلاقاتها بقوى فلسطينية وغير فلسطينية مسلحة في الشرق الأوسط.

خلال فترة قصيرة من خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، بدأت إدارة ترامب في فرض عقوبات جديدة على إيران، ليس فقط إعادة تلك التي كانت إدارة أوباما قد فرضتها، ولكن أيضًا سلسلة من العقوبات بالغة القسوة الأخرى، التي وصلت ذروتها في مايو/أيار الماضي. تطول العقوبات الأميركية صناعة وتصدير النفط الإيراني، ومعظم النشاطات الاقتصادية والمالية الأخرى، كما تتضمن وضع الحرس الثوري الإيراني وعدد من قياداته والشركات وثيقة الصلة به على قائمة الإرهاب. ولأن هذه عقوبات أميركية، وليست دولية، فقد زرعت إدارة ترامب لمنظومة العقوبات أسنانًا حادة عندما أعلنت أنها ستعمل على فرض عقوبات ثانوية على الدول والشركات، التي تخترق العقوبات، سيما تلك التي تحتفظ بصلات بالسوق الأميركية.

خروج النفط الإيراني، أو معظمه، من السوق، كان يعني ارتفاعًا حادًّا لأسعار مصادر الطاقة، في وقت يعاني فيه الاقتصاد العالمي من ركود نسبي، لأسباب تتعلق بتوترات أوروبية مختلفة، والحرب الاقتصادية الأميركية-الصينية. ولكن السعودية، المنتِج والمصدِّر الأكبر للنفط في العالم، أعلنت تأييدها للموقف الأميركي من إيران ووعدت بتعويض النقص الناجم عن تراجع الصادرات الإيرانية. وهذا ما حدث بالفعل؛ إذ لم تحافظ أسعار النفط على مستوياتها منذ مايو/أيار 2019، بل إنها تراجعت قليلًا. ولم تتعرض الأسعار للارتفاع الطفيف، والذي يبدو أنه سيكون مؤقتًا، إلا بعد هجمات خليج عمان في 13 يونيو/حزيران الحالي (2019).

ليس ثمة شك في أن ترامب لا يريد حربًا مع إيران، ولا حتى صدامًا عسكريًّا محدودًا. فقد قامت حسابات ترامب على أن العقوبات ستترك أثرًا مدمرًا على الاقتصاد الإيراني، الذي لم يكن قد تعافى بعدُ عندما وُقِّع اتفاق 2015، وأن العقوبات وحدها كفيلة بتركيع إيران والإتيان بها إلى طاولة التفاوض من جديد. ولكن خطوة إلغاء الالتزام الأميركي بالاتفاق، والشروط التي أعلنتها واشنطن للتفاوض، اعتُبرت مهينة في طهران. ويعتقد قادة النظام أن القبول بها سيصنع شرخًا عميقًا في رؤية النظام الإيراني لنفسه، في وضعه الإقليمي، وفي مركب علاقات السيطرة والسيادة التي تربطه بشعبه. فكيف إذن ستخرج إيران من المأزق، مأزق العقوبات التي بدأت في تقويض الوضع الاقتصادي-المالي الإيراني، من جهة، وصعوبة القبول بشروط التفاوض من جديد، من جهة أخرى؟

نظرت طهران بإيجابية لإعلان دول الاتحاد الأوروبي، التي رفضت الانسحاب الأميركي المنفرد من الاتفاق النووي، العملَ على وضع نظام جديد للعلاقات الاقتصادية-المالية مع إيران. ولكن أوروبا لم تتقدم بعد أية خطوات فعلية في إقامة المنظومة البديلة، بل إن هناك شكًّا في إمكانية إيجاد مثل تلك المنظومة. كما أن الأوروبيين أعربوا عن معارضة واضحة لإعلان طهران رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى مستوى وقود المفاعلات (وليس السلاح النووي)، الذي بدأته إيران بالفعل كوسيلة أخرى للضغط على القوى الدولية المعنية بالحفاظ على اتفاق 2015. ولأن كلتا الخطوتين لا تكفيان لفتح نافذة في جدار الأزمة، تُحمِّل الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة إيران مسؤولية التعرض غير المعلن لحركة الملاحة في الخليج.

يقول الأميركيون إنهم رصدوا مؤشرات على تصعيد إيراني في الخليج؛ ما دفعهم إلى حشد عسكري ملموس في المنطقة، وهو ما يُعرف في العسكرية الأميركية بمجموعة حاملة للطائرات كاملة، بما في ذلك سفينة لتقديم الخدمات الصحية العاجلة، إضافة إلى سربين من القاذفات الاستراتيجية. ثم جاءت تفجيرات الفجيرة لتقدم مبررًا إضافيًّا لتعزيز ذلك الحشد. وطبقًا للنيويورك تايمز (15 يونيو/حزيران 2019)، كان هناك اجتماع عالي المستوى، من مسؤولي الدفاع والخارجية، انطلق بالفعل فيما يُعرف في البنتاغون بالتانك، عندما ورد التقرير حول الهجمات في خليج عُمان، لبحث طلب القيادة المركزية، المسؤولة عن العمليات في الخليج والشرق الأوسط، بزيادة عشرين ألفًا من الجنود على القوات المتواجدة في الخليج، لمواجهة التهديدات المحتملة من إيران. في النهاية، ولتجنب الانطباع بأن الولايات المتحدة تستعد لحرب لتغيير النظام في طهران، تمت الموافقة على زيادة تصل إلى ألف فقط من الجنود.

ليس من الواضح أن أيًّا من الوساطات الساعية لخفض التوتر ونزع فتيل الأزمة في الخليج أحرزت تقدمًا، لا تلك التي قام بها العراقيون والقطريون واليابانيون، بطلب أو موافقة أميركية، ولا تلك التي تطوعت بها أطراف أخرى. بمعنى أن أيًّا من الوسطاء لم يعثر بعد على المفتاح السحري لإخراج إيران من مأزق العقوبات وتغيير شروط التفاوض الأميركية المهينة. فالأزمة الآن تمر بلحظة إعادة ضبط الإيقاع لدى كل من إيران والولايات المتحدة. فمن ناحية، لا تستطيع طهران القبول باستمرار العقوبات والحصار طويلًا، وتجد من الضرورة رفع مستوى التوتر إلى أقصاه دون الحرب، لدفع إدارة ترامب إلى تغيير شروط التفاوض. ومن ناحية أخرى، وبعد أن أكدت الإدارة الأميركية على مسؤولية إيران عن هجمات الفجيرة وخليج عُمان، بات عليها الاستعداد لأي مساع إيرانية قد تعطل حركة الملاحة في الخليج، دون أن يتسبب ذلك في حرب معها قد يكون من الصعب تقدير عواقبها ونهايتها.

قلق الوجود في سوريا

عندما دعا الإيرانيون، نيابة عن بشار الأسد، روسيا للتدخل العسكري المباشر في سوريا، لم يأخذوا في الحسبان أن روسيا أكبر من أن تلعب مجرد دور الأداة لحسم الصراع الأهلي على مستقبل الدولة العربية. كان واضحًا من البداية أن ثمة تباينًا بين دوافع كل من إيران وروسيا للتواجد العسكري في سوريا، وأن المسألة مجرد وقت قبل أن يبدأ هذا التباين في التجلي على مستوى الحسابات السياسية وتصور المستقبل السوري.

في 26 أبريل/نيسان الماضي (2019)، قال رئيس هيئة الأركان العامة للقوات الروسية، الجنرال فاليري غيراسيموف: إن دعم موسكو العسكري لنظام الأسد جنَّب “الدولة السورية الانهيار” تحت ضربات الفصائل المسلحة. وأشار إلى أنه لولا الدعم الجوي الروسي لانهار نظام الأسد خلال شهر أو شهر ونصف، عندما كان النظام لا يسيطر على أكثر من 10 بالمئة من الأرض السورية.

تقدير غيراسيموف صحيح، بالفعل. فبالرغم من تورط قوات الحرس الثوري وقوات حزب الله، منذ ما بعد 2012، وتدفق الميليشيات الشيعية المختلفة، التي جندتها إيران، بعد ذلك، في الحرب إلى جانب نظام الأسد، كان النظام وصل إلى حافة الهاوية في صيف ومطلع خريف 2015. ولولا الدخول الروسي المباشر، جوًّا بصورة كبيرة، وبمئات المستشارين العسكريين، على الأرض، لكان مصير سوريا قد اختلف إلى حدٍّ كبير. ولكن السؤال هو: لماذا كان على غيراسيموف أن يقول ما قاله؟ ولماذا الآن، وفي هذا الوقت المتأخر من الحرب الأهلية السورية؟ لا يحتاج غيراسيموف لتذكير بشار الأسد بالدور الروسي، وليس ثمة مؤشر على أن الأسد بدأ انتهاج سياسة مستقلة عن موسكو، على أية حال. الأرجح، أن رئيس هيئة الأركان الروسية أراد تذكير الحليف الإيراني بحقيقة مجريات المسألة السورية، في وقت تصاعد فيه التوتر بين الطرفين الحليفيين في سوريا.

بالرغم من وجود قاعدة بحرية روسية في الساحل السوري، مخصصة لتقديم دعم للأسطول الروسي في المتوسط، إلا أن سوريا لا تمثل ضرورة استراتيجية حيوية لروسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي. فسوريا في الحسابات الاستراتيجية الروسية ليست جورجيا ولا أوكرانيا ولا حتى أذربيجان. كما أن بشار الأسد لم يكن بالضرورة حليفًا يُنظر إليه وإلى سياساته بأي قدر من الإعجاب في موسكو. لقد ذهبت روسيا إلى سوريا لأسباب أخرى، تتعلق بانهيار التفاهم الروسي-الأميركي في إدارة أوباما الثانية، والخسائر الفادحة التي أُوقعت بروسيا فيما يُعرف في موسكو بالخارج القريب.

فخروج أوكرانيا من دائرة نفوذ موسكو، بكل ما تعنيه للأمن القومي ولذاكرة الشعب الروسي، وخسارة روسيا النسبية لجورجيا وتوسع نطاق الناتو إلى حافة الحدود الروسية، ونشر الولايات المتحدة لمنظومة الصواريخ المضادة للصواريخ في الجوار الأوروبي والتركي، دفع بوتين للبحث عن أوراق إضافية للعلاقة مع الولايات المتحدة. فجاءت سوريا منحة من السماء لموسكو، التي حسبت في البداية أنها ستدفع الولايات المتحدة للتفاوض حول أوكرانيا، لتعزز من وضع الدولة الروسية في العلاقة مع شعبها، وتعيد وضع روسيا كطرف رئيس على خارطة القوة العالمية. ولكن، وبالرغم من أن الأميركيين لم يكونوا سعداء بالتدخل الروسي في سوريا، فقد نظروا إلى جانبه الإيجابي من جهة المواجهة مع خطر تنظيم الدولة في العراق وسوريا. ولأن سوريا لم تكن أبدًا ضمن دائرة المصالح الاستراتيجية الأميركية، لم تجد واشنطن في الوجود الروسي في سوريا مبررًا للمساومة.

إن دوافع الوجود الإيراني في سوريا مختلفة إلى حد كبير. فمن ناحية، هناك الروابط التاريخية مع نظام أسرة الأسد، وحماية النفوذ الإيراني في لبنان والعراق، والرغبة الإيرانية في جمع أكبر عدد ممكن من الأوراق انتظارًا للحظة التفاوض مع واشنطن، والخشية من وقوع سوريا ضمن دائرتي النفوذ التركي والسعودي، عندما كان يُنظر للرياض وأنقرة باعتبارهما صاحبتي التأثير الأكبر على المعارضة السورية المسلحة وغير المسلحة.

خلال العام الماضي، بدا واضحًا أن ميزان القوى في ساحة الصراع السورية يميل بصورة متزايدة لصالح بقاء نظام الأسد. فالنظام لم يحسم المعركة تمامًا ضد المعارضة، ولا نجح في إيجاد صيغة سياسة لتأسيس شرعية لاستمراره، ولكن سيطرته على الأرض السورية اتسعت ولم يعد وجوده على المحك. وهنا، بدأ التباين في أهداف روسيا وإيران في التبلور الملموس. الوجود الإيراني المسلح في سوريا يُنظر إليه باعتباره مصدر تهديد للأمن الإسرائيلي. وهذا ما دفع الإسرائيليين، الذين تحرص موسكو على إرضائهم، لاستباحة الفضاء السوري، واستهداف مواقع التمركز والتخزين الإيراني. كما أن خروج إيران من سوريا أصبح شرطًا معلنًا لأية مساعدات يمكن أن يقدمها الأميركيون والأوروبيون، كما دول الخليج، لإعادة بناء سوريا (التي تُقدَّر حاجتها بـ 250 مليار دولار على الأقل)، المدمَّرة بصورة هائلة. إضافة إلى ذلك، تعتقد موسكو أن الأزمة السورية لا يمكن أن تنتهي دون توافق سياسي، بينما ترى أن إيران تشجع نظام الأسد على التشدد وعدم الجدية في التفاوض مع قوى المعارضة.

في 27 فبراير/شباط الماضي، وأثناء زيارة لموسكو، قال بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، إنه اتفق مع الرئيس الروسي، بوتين، على تشكيل لجنة لبحث خروج إيران والميليشيات الموالية لها من سوريا. وبالرغم من المفاجأة التي جاء بها تصريح نتنياهو، لم يصدر عن موسكو أي توضيح أو تكذيب لرئيس الحكومة الإسرائيلية. المؤكد، على أية حال، أنه بالرغم من أن الإسرائيليين قاموا بعشرات الغارات على مواقع التمركز الإيراني العسكري في سوريا، فإن منظومة الدفاع الجوي الروسي عن سوريا لم يتم تفعيلها ولو حتى في حادثة واحدة من هذه الغارات؛ بل ثمة اعتقاد بأن الروس يُبلَّغون عادة بصورة رسمية قبل وقت قصير بطبيعة الغارة الإسرائيلية.

خلال أبريل/نيسان الماضي، وردت تقارير تفيد بأن روسيا تعمل على تحجيم دور ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري، نظرًا لعلاقاته الوثيقة مع الإيرانيين. كما اندلعت مواجهات عسكرية فادحة ومكلفة، في أكثر من موقع من سوريا، بين ميليشيات مرتبطة بإيران، وأخرى تدعمها روسيا. وبالرغم من أن إيران تحاول الحصول على امتيازات في صناعة النفط والتعدين السورية، لتعويض خسائرها المالية الهائلة في دعم نظام الأسد، إلا أن رجال المال والأعمال السوريين، سيما السنَّة منهم، بمن في ذلك وثيقو الصلة بأسرة الأسد، يعقدون شراكات مع نظراء روس ويتحدثون بوتيرة عالية النبرة عن ضرورة خروج إيران من سوريا، وإعادة الصلات مع المحيط العربي والخليجي.

من المقرر، في نهاية شهر، يونيو/حزيران 2019، عقد لقاء بين مسؤولي الأمن القومي الروسي والإسرائيلي والأميركي. مثل هذا اللقاء بين الدول الثلاث غير مسبوق، وليس ثمة شأن يشغل الدول الثلاث معًا في هذه المرحلة سوى إيران. وهذا ما دفع كثيرين للتوقع بأن اللقاء يتعلق بوضع إيران في سوريا وكيفية خروجها العسكري من الساحة السورية. الروس ينكرون أن اللقاء سيبحث إخراج إيران من سويا، ولكن الإيرانيين، وعلى اعتبار مؤشرات أخرى في الاتجاه نفسه، قلقون.

في مايو/أيار 2019، حاول الإيرانيون بناء توافق جديد مع تركيا لمواجهة الضغوط الروسية. ولكن أنقرة، التي قطعت خطوات ملموسة في علاقاتها مع موسكو، سواء بسبب الوضع في سوريا أو لأسباب أخرى، ردت بأن طهران تأخرت كثيرًا في عرضها هذا، بعد سنوات من الإعراض عن اقتراحات التوافق الإيراني-التركي في سوريا، التي اقترحتها أنقرة مرارًا. ورغم أن طهران تولي أهمية بالغة لموقف الأسد، وما إن كان سينحاز للعلاقة الاستراتيجية، عميقة الجذور معها، أو أنه بات يرى في الوجود الإيراني عبئًا على نظامه ومستقبله، إلا أنها تمتلك شبكة نفوذ تتجاوز العلاقة مع الأسد. كما أن إيران قادرة على جعل الوجود الروسي مكلفًا في حال تصاعد الخلاف بين الطرفين إلى درجة تهدد مصالح طهران في سوريا.

نهاية مرحلة وبداية أخرى

لا تعني البيئة الاستراتيجية المعادية، الآخذة في التبلور، في مواجهة إيران أن نفوذ الأخيرة الإقليمي سينهار خلال يوم وليلة. القوى التي تنجح في بناء توسع إقليمي بهذا الحجم، سيما القوى متوسطة الحجم مثل إيران، والتي تُحكَم من قِبل نظام أيديولوجي راسخ، لا تخسر استراتيجيًّا بصورة مفاجئة ولا سريعة.

الولايات المتحدة، بالتأكيد، لا تسعى لإشعال حرب مع إيران، كما أن الأخيرة لا تريد حربًا. فكلا الطرفين، ولأسباب تتعلق بالمخاوف من العواقب، يتجنب إشعال الحرب. وقد عاشت الجمهورية الإسلامية مع العقوبات الأميركية والدولية طوال عقود. وليس ثمة ما يشير إلى خشية النظام من اندلاع حركة احتجاجات شعبية واسعة، بل إنه يُظهر ثقة كبيرة في قدرته على التحكم وإخماد أية معارضة داخلية. لم تواجه دولة في الشرق الأوسط، قبل موجة الثورات العربية، احتجاجات بحجم تلك التي شهدتها إيران في 2009، ولكن النظام استطاع مواجهة الاحتجاجات بكفاءة أمنية بالغة.

أما الوضع الإيراني في سوريا، وثيق الصلة بحسابات ونفوذ إيران في لبنان والعراق، فلا يقتصر على الوجود العسكري، بعد أن نجحت طهران في تعزيز وجودها الاقتصادي والثقافي والطائفي، بل وحتى العلاقات مع مؤسسات الدولة السورية. إن اضطرت إيران إلى الخروج العسكري من سوريا، فذلك لا يعني نهاية نفوذها فيها.

هذا كله صحيح، دون شك. ولكن المشكلة أن ابتعاد مخاطر الحرب مع الأميركيين أو السعوديين لا يعني تخلص إيران من العقوبات ثقيلة الوطأة وغير المسبوقة، وأن قدرة النظام على البقاء لا تعني التخلص من الآثار الفادحة للعقوبات على الوضع الاقتصادي-المالي للدولة الإيرانية، التي بدأت بالفعل في الانعكاس على قيمة العملة والسوق الإيرانيين. فتقلص قدرات إيران المالية والاقتصادية سيفضي إلى تقلص قدرات إيران على تعهد مشاريع نفوذ خارجية، وعلى دعم حلفاء حاليين، أو محتملين، في المناطق التي يستهدفها النفوذ الإيراني.

إحدى نتائج العقوبات والحصار يمكن أن تُرى، مثلًا، في طبيعة علاقات إيران بالعراق، حيث كانت إيران السيد الآمر في الساحة السياسية العراقية. اليوم يشعر سياسيون عراقيون بحاجة إيران الملحَّة للعراق الذي يمكن أن يصبح إحدى ساحات الالتفاف على بعض العقوبات، ويرون أن إيران في سياق هذه الأزمة أصبحت عبئًا على بلدهم، وهو ما يعزز موقف القوى الداعية للحفاظ على العراق خارج دائرة الصراع وتجنب الانحياز لأي من طرفي التدافع في المنطقة. كما أن ثمة شكًّا في قدرة إيران على توفير الدعم المالي والاقتصادي لنظام الأسد، الذي كان الشق الآخر (إلى جانب الدعم العسكري) في معادلة خضوع دمشق لطهران.

ومهما كان حجم ونطاق النفوذ الإيراني في سوريا، فإن اضطرت إيران إلى الانسحاب العسكري من البلاد، سيرى كثيرون، بما في ذلك أركان نظام الأسد، أن إيران هُزمت أمام إسرائيل، وأنها أضعف من أن تقاوم الضغوط الروسية. مثل هذا الوضع سيجعل معارضي إيران في نظام الأسد وحوله أعلى صوتًا ويجعل النظام ككل أكثر حرية في قراره، بما في ذلك في دائرة المسائل التي تمس النفوذ الإيراني في سوريا. المشكلة الإضافية، وبالغة الخطر، في التوسع الاستراتيجي الإيراني أنه يقع في مناطق لا يلقى فيها ترحيبًا شعبيًّا، شاملًا أو جزئيًّا، بل يجد مقاومة شعبية في حالات أخرى.

خلال السنوات القليلة الماضية، وصل التوسع الاستراتيجي الإيراني في المحيط الإقليمي إلى مستوى غير مسبوق، مسلحًا بتصميم أيديولوجي ورؤية طَموح للمصالح القومية وروح مبادِرة لالتقاط الفرص التي أتاحتها أخطاء الخصوم الإقليميين والولايات المتحدة. توسَّع النفوذ الإيراني بصورة لم تعرفها الدولة الإيرانية الحديثة منذ تشكلها في أوائل القرن العشرين. وقد تستفيد إيران من خبرتها التاريخية في التمدد الاستراتيجي رغم الحصار والعزلة في تجاوز العقوبات الأميركية المشددة. ولكنها، مع ذلك ليست أول قوة في التاريخ تذهب إلى توسع يفوق طاقتها على الإدارة وتحمُّل التكاليف. وعندما يغيب عن قوة ما إدراك الحد الفاصل بين التوسع الاستراتيجي الضروري، وذلك الذي يتجاوز حدود المقدرات الذاتية، يصبح التراجع حتميًّا.

 

رابط المصدر:

http://studies.aljazeera.net/ar/positionestimate/2019/06/190620153500226.html

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M