اقتحام السفارة الأميركية في بغداد: تصعيد مفتوح على كل الاحتمالات

لقاء مكي

خلال بضعة أيام فقط، تصاعد زخم الأحداث العنيفة في العراق ليبلغ مدى خطيرًا من التوتر والانفتاح على كل الاحتمالات. طرفا التطورات الجديدة التي ختم بها العراق العام 2019، كانا الولايات المتحدة وجزءًا مؤثرًا من الكيانات العراقية السياسية والعسكرية وأبرزها قوات الحشد الشعبي.

ذروة هذه الأحداث تمثلت في اقتحام مبنى السفارة الأميركية في بغداد من قبل عناصر من أعضاء الحشد الشعبي وقياداته، والتهديد باستصدار قرار برلماني يطالب بإخراج القوات الأميركية من العراق، وطرد السفير الأميركي.

جاء اقتحام السفارة، حسب المشاركين فيه، ردًّا على قصف أميركي استهدف قوات من كتائب حزب الله العراقي التابع للحشد الشعبي في مدينة القائم في أقصى غرب العراق على الحدود مع سوريا، تسبب بقتل 25 من أعضاء الحزب وجرح نحو 50 آخرين، وقالت الولايات المتحدة: إن القصف الجوي كان ردًّا على تعرض قاعدة مشتركة للقوات الأميركية والعراقية في كركوك شمال العراق، تسبب بمقتل مقاول مدني أميركي وجرح أربعة جنود أميركيين واثنين من الجنود العراقيين.

فرضت مشاهد اقتحام السفارة الأميركية نفسها على التداعيات المتوقعة للحدث في العام الجديد 2020، بما في ذلك احتمالات تصاعد العنف الى حدود النزاع العسكري بين الولايات المتحدة والقوى المسلحة التي لا تُخفي علاقتها القوية مع إيران، فيما أكد المسؤولون الأميركيون ومنهم الرئيس، دونالد ترامب، أن إيران هي المسؤولة مباشرة عن اقتحام السفارة، وأن أي رد سيكون موجهًا إلى إيران مباشرة.

لكن هذا الاحتمال لم يقلِّل من فرص جنوح العراق ليكون ساحة مواجهة محتملة بين طهران وواشنطن، أو أنه على الأقل سيكون مركزًا للحوار الخشن بين الطرفين سواء مباشرة أو من خلال الأذرع الحليفة بشكلها السياسي أو العسكري.

التصعيد وسياقه العراقي

تقول الولايات المتحدة: إن قواتها في العراق تعرضت منذ 28 أكتوبر/تشرين الأول إلى 11 هجومًا شملت قواعد عسكرية ومبنى السفارة الأميركية في بغداد، لكن أي طرف لم يعلن مسؤوليته عن هذه الهجمات، كما أن أيًّا منها لم يسفر عن وقوع خسائر بشرية بين الجنود الأميركيين؛ الأمر الذي لم يشكل ضغطًا على الإدارة الأميركية لتقوم بعمليات انتقامية.

ولا يُعرَف طبعًا إن كانت طبيعة كل هذه الهجمات وأحجامها قد تعمدت عدم إلحاق خسائر بشرية بالأميركيين، إلا أن الهجوم الأخير الذي تعرضت له قاعدة (كي 1) في كركوك بشمال العراق في السابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول جاء مختلفًا؛ حيث أُطلق 30 صاروخ مورتر على القاعدة؛ الأمر الذي تسبب لأول مرة بسقوط قتيل أميركي وجرح آخرين من العسكريين الأميركيين والعراقيين الذين يشاركونهم تلك القاعدة.

لم تكن هناك مقدمات لذلك الهجوم أو أسباب تجعله مختلفًا هذه المرة في حجمه وطبيعته القاتلة، كما أن أحدًا لم يعلن مسؤوليته مثل كل المرات السابقة، لكن السلطات الأميركية سارعت إلى اتهام القوى المسلحة المدعومة من إيران وتحديدًا (حزب الله العراق) بالمسؤولية، وكان الإعلان عن سقوط خسائر بشرية أميركية في غمرة أعياد الميلاد، عنصرًا ضاغطًا على إدارة ترامب لاتخاذ ما يمكن أن يعتبر إجراءات سريعة وقوية تمنع الانتقادات المتوقعة بقوة ضد الرئيس من خصومه الكثر في واشنطن.

ردَّت الولايات المتحدة بعد يومين بشنِّ غارات جوية على خمس قواعد لحزب الله العراق، في منطقة الحدود العراقية-السورية، ثلاث منها داخل العراق واثنتان في سوريا، وسقط في الهجوم -حسب البلاغات الرسمية العراقية- 25 قتيلًا ونحو 50 جريحًا، مع قدر كبير من السخط والغضب والتنديد الرسمي والشعبي داخل العراق ضد الأميركيين.

خلال الساعات التي تلت الهجوم الأميركي، شهد العراق تعبئة دعائية وشحنًا سياسيًّا واسع النطاق ضد الولايات المتحدة ومصالحها، و(كل من يواليها) في العراق. خلال هذه الحملة الواسعة ارتفعت بشكل حاد نبرة الدعوة لإخراج القوات الأميركية وإلغاء الاتفاقية الأمنية المسماة (اتفاقية الإطار الاستراتيجي) التي أُبرمت عام 2008 وشكَّلت أساس انسحاب القوات الأميركية في نهاية العام 2011. وخلال يوم واحد بعد الهجوم على القائم أصبح تصاعد محتمل للصراع بين الولايات المتحدة والفصائل المسلحة المدعومة إيرانيًّا مركز الاستقطاب الأساس داخل العراق وخارجه.

جرت كل هذه الأحداث بعد نحو ثلاثة أشهر من بدء حركة احتجاجات شعبية واسعة النطاق في بغداد والعديد من المحافظات في جنوب البلاد، تندد بالفساد والطائفية وتطالب بتغيير شامل للنظام السياسي، وقد جوبهت هذه الاحتجاجات بقسوة فسقط من المشاركين فيها أكثر من 500 قتيل ونحو 21 ألف جريح وعدد كبير من المعتقلين والمختطفين أو الناشطين الذي تعرضوا للاغتيال. وبرغم هذا العنف الذي استخدمته السلطات أو جهات اعتبرتها السلطات مجهولة وسُميت إعلاميًّا بـ”الطرف الثالث”، فإن الاحتجاجات حققت مكاسب مهمة من بينها استقرارها كثابت اجتماعي، وتكريسها لهوية وطنية جامعة، وفرض استحقاقات سياسية من أبرزها اضطرار رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، إلى الاستقالة، وفشل النظام السياسي في فرض بديل له، بعدما اشترط رئيس الجمهورية، برهم صالح، أن يكون المرشح لرئاسة الحكومة مقبولًا من قبل المحتجين.

في غمرة هذا السجال السياسي والميداني الواسع، ظهرت ثنائية جوهرية في حركة الاحتجاجات، فمن جانب، هاجم المحتجون إيران بوصفها -حسب الشعارات التي رفعوها- عاملًا مباشرًا لاستمرار الطائفية والفساد في العراق، بسبب دعمها للأحزاب (الإسلامية الشيعية) التي تسيطر على مراكز القرار والسلطة السياسية والأمنية والثروة في البلاد منذ الغزو الأميركي عام 2003، وتعدى الغضب الشعبي رفع الشعارات المنددة بالنفوذ الإيراني في العراق وحرق صور أبرز الرموز القيادية في إيران، إلى انتشار حملة لمقاطعة السلع الإيرانية، ومهاجمة وحرق القنصليات الإيرانية في كربلاء والنجف والبصرة، ومحاولة الوصول إلى السفارة الإيرانية في بغداد، وهي محاولات لم تنجح، وتسببت بسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى من المتظاهرين برصاص قوات الأمن.

على الطرف المقابل، ومقابل تنديد الاحتجاجات بإيران، اعتبرت عناصر معروفة بعلاقتها القوية مع طهران لاسيما من قيادات القوى المسلحة في الحشد الشعبي، اعتبرت أن (مندسين) اخترقوا الاحتجاجات هم الذين يهاجمون إيران، وأن هؤلاء ينفذون (مؤامرة) أميركية وإسرائيلية. وقد دخلت طهران على خط الأزمة، لتنتقد الاحتجاجات، فوصفها المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، بـ”المؤامرة”، واعتبرتها وكالة أنباء (إيرنا) الإيرانية الرسمية “اضطرابات” تقف وراءها “أميركا وإسرائيل والسعودية لتخريب العلاقات بين العراق وإيران”(1) .

ومقابل الموقف الإيراني السريع، تأخرت الولايات المتحدة نسبيًّا في التعليق على الاحتجاجات، واكتفت بالدعوة إلى “وقف العنف ضد المتظاهرين وإصلاح النظام الانتخابي وإجراء انتخابات مبكرة”(2)، لكنها أيضًا ردَّدت بشكل متكرر الجزء المتعلق برفض النفوذ الإيراني في شعارات المتظاهرين، وزادت بأن اتهمت قوى مسلحة وقادة في الحشد الشعبي “بقتل المتظاهرين بأوامر من إيران”، وقامت بفرض عقوبات على بعضهم تحت هذا المسوغ (3) .

دخلت البلاد بسبب هذه التناقضات بين المواقف والمصالح في حالة من الاختناق السياسي، فقد انتهت المهل الدستورية دون اختيار رئيس للوزراء، وتباعدت المواقف أكثر بين القوى السياسية، وبدا أن حركة الاحتجاجات صارت واقعًا قويًّا في المشهد السياسي، لاسيما بعدما حظيت بتأييد المزيد من القوى الاجتماعية والفئوية والدينية ومن أبرزها المرجع الشيعي، السيد علي السيستاني، ولم يعد هناك الكثير من الشك في أن خارطة الطريق التي اقتُرحت لحل الأزمة وتتضمن انتخابات مبكرة بقانون انتخابي جديد، ستُنتج خلال أشهر -لو تم تنفيذها- نظامًا سياسيًّا جديدًا، ربما يتضمن انتهاء عهد ما بعد 2003، وقد يكون من بين معالمه انهيار العلاقة مع طهران مقابل تقويتها مع الدول العربية والولايات المتحدة.

في هذا السياق من الاستقطاب الحاد والتوقعات ذات الطبيعة القوية وربما الراديكالية، جرت الأحداث المتسارعة بدءًا من قصف قاعدة (كي1) وما تلاه من قصف أميركي لكتائب (حزب الله العراق)، ثم اقتحام مقر السفارة الأميركية، ليتحول التركيز السياسي والإعلامي من الاحتجاجات الى الصدام الأخير، ومآلاته المحتملة. وخلال وقت قصير، أصبح لدى معارضي الولايات المتحدة في العراق ذخيرة دعائية وشعبوية مهمة للتصعيد والشحن العاطفي ضد واشنطن، وخلق مناخ من الضغط وربما التهديد ضد من يدافع عن الولايات المتحدة أو العلاقة معها، مقابل خلق فرصة للدفاع عن إيران وتأكيد الولاء لها، وتشكيل مناخ من السلوك الجمعي الداعم لطهران بلا حدود أو حسابات تتعلق بمصالح العراق.

الوجود الأميركي المهدَّد بالخروج

توجد في العراق حاليًّا قوات أميركية مؤلفة من 5200 عسكري إلى جانب أعداد أخرى من المتعاقدين أو المقاولين المدنيين، ويتشارك هؤلاء الأميركيون الجنودَ العراقيين في عدة قواعد عسكرية في شمال وغرب البلاد، وتتعلق مهامهم بشكل خاص بعمليات تدريب القوات العراقية وتقديم الخبرات والمعلومات الاستخبارية، والقيام بأعمال الصيانة والتشغيل لبعض المقاتلات والأسلحة الأميركية.

أما السفارة الأميركية، فقد افتُتح مقرها الحالي في عام 2009، ويعتبر أكبر مبنى دبلوماسي في العالم، حيث يمتد على مساحة 104 أفدنة بما يعادل مساحة نحو 80 ملعبًا لكرة القدم، ويتكون من 21 مبنى، وقد تكلف مبنى السفارة نحو 750 مليون دولار، وجرى بناؤه ليكون محصنًا أمنيًّا بشكل كامل واستثنائي (4) ، وهو يستوعب نحو 16 ألف موظف. وقد كان كل هذا العدد تقريبًا يعمل في السفارة حتى العام 2012، حينما بدأ تقليص العدد، لاسيما بسبب المخاطر الأمنية ليصل اليوم إلى 486 موظفًا فقط (5) . وقد كان هذا الحجم الضخم للسفارة، أحد بواعث انتقادها من قبل خصوم أميركا في العراق بوصفها مقرًّا يتجاوز المهام الدبلوماسية إلى عمليات استخبارية وتجسسية.

شارك في اقتحام السفارة، ظهيرةَ اليوم الأخير من عام 2019، عدد غير محدد قد يضم بضعة آلاف من أفراد الحشد الشعبي وقياداته الأساسية، بمن فيهم شخصيات رسمية مثل رئيس هيئة الحشد ومستشار الأمن الوطني، فالح الفياض، ونائب رئيس الحشد وقائده العملياتي، أبو مهدي المهندس، قائد منظمة بدر، أكبر فصائل الحشد، ورئيس كتلة البناء البرلمانية، هادي العامري، وزعيم عصائب أهل الحق، قيس الخزعلي، وقادة آخرون يرأسون فصائل حشدية، جميعها تنضوي تحت ما يسمى (الفصائل الولائية) التي تتبع عقائديًّا للمرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، ولها ارتباط مباشر مع إيران، وقد كتب وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، تغريدة على موقعه في تويتر قال فيها: إن الهجوم على السفارة جرى تنظيمه من قبل من وصفهم بـ”الإرهابيين”، أبو مهدي المهندس وقيس الخزعلي، و”بتحريض من وكلاء إيران، هادي العامري وفالح الفياض”، ملحقًا تغريدته بصور للشخصيات الأربع قال إنها التُقطت لهم خارج مبنى السفارة.

انسحب المقتحمون من داخل مبنى السفارة إلى سياجها الخارجي مساء نفس اليوم، بناء على مناشدات من رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، وأقاموا مخيمًا للاعتصام هناك، قبل أن ينسحب الجميع مساء الأربعاء، بعد ساعات من وصول مئات من قوات المارينز التي تم إرسالها من القواعد الأميركية في الكويت لتعزيز حماية السفارة.

شكَّل اقتحام السفارة الأميركية حدثًا مفصليًّا في علاقة العراق مع الولايات المتحدة وفي علاقة القوة الخشنة بين طهران وواشنطن، وقد بدا من الوهلة الأولى بعد الحادث أن الهدف الأساسي للإدارة الأميركية كان تأمين السفارة وحياة الموظفين والجنود داخلها، وهذا ما بدا من مجمل التصريحات والاتصالات الأميركية مع القيادات العراقية، لكن تداعيات الحادث وآثاره العاجلة وربما المؤجلة، ما زالت تتفاعل من خلال نقاشات محتدمة في واشنطن، توزعت ما بين اتهام مباشر لإيران بالمسؤولية، وتهديدات بالانتقام، وما بين انتقادات لإدارة ترامب بعدم القدرة على حماية المصالح الأميركية، عبَّر عنها السيناتور الديمقراطي، كريس مورفي، في تغريدة على تويتر بقوله: إن ترامب “جعل أميركا عاجزة في الشرق الأوسط. لا أحد يخافنا، لا أحد يستمع إلينا”.

وفيما عزز حادث اقتحام السفارة من حدة الصراع السياسي المحتدم في واشنطن قبل نحو عشرة أشهر من الانتخابات الرئاسية، بدا واضحًا أن خصوم ترامب من الديمقراطيين سيسعون لاستغلال الحادث من أجل تقديم الرئيس الأميركي بوصفه رئيسًا عاجزًا أسهمت سياساته في إثارة الاضطراب في الشرق الأوسط، أما إدارة ترامب فقد اعتبرت أن انتهاء أزمة اقتحام السفارة بدون خسائر بشرية نجاح كاف، يبعد عن الولايات المتحدة شبح ما حدث في أزمة السفارة الأميركية في طهران، عام 1979، أو في القنصلية الأميركية في بنغازي، عام 2012.

في سياق هذا الانقسام السياسي في واشنطن بدت طهران أكثر وضوحًا في مواجهة الاتهامات الأميركية، وجاء ردها فوريًّا من خلال المرشد الأعلى، علي خامنئي، الذي نفى علاقة بلاده بحادث اقتحام السفارة، معتبرًا الاتهامات الأميركية “ترهات”، وهدَّد بأن إيران “إذا أرادت محاربة أية دولة ستفعل ذلك جهارًا وتضرب دون أي تحفظ” (6) .

وبين كل من واشنطن وطهران، بدت بغداد في خضم ضبابية سياسية بدت فيها الحكومة العراقية المستقيلة وهي تواجه أكثر من أزمة في وقت واحد، ففيما تستمر الاحتجاجات في بغداد ومحافظات جنوبية أخرى وهي تدخل شهرها الرابع، ظهرت الأزمة الجديدة التي اتخذت شكل اعتصام مواز انسحب من منطقة السفارة الأميركية إلى شارع أبي نواس القريب من ساحة التحرير وكذلك من المنطقة الخضراء، وستكون هذه الحكومة مغلولة اليد دستوريًّا، كونها حكومة تصريف أعمال فقط، أمام استحقاق التعامل مع ضغوط المحتجين الجدد المطالبين بتشريع عاجل في البرلمان يطالب بخروج القوات الأميركية من العراق.

وقد أصدرت كتائب (حزب الله العراق) التي كان العشرات من مقاتليها قُتلوا أو جُرحوا في الغارة الأميركية يوم الأحد، بيانًا قالت فيه إنها انسحبت من قبالة مبنى السفارة الأميركية تلبية لدعوة رئيس الوزراء، لكن ذلك حصل مقابل وعود بـ”العمل الجاد لإقرار قانون إخراج القوات الأجنبية في الأسبوع المقبل”، ويؤيد هذا المطلب مجموعة مؤثرة في البرلمان تمثل الحشد الشعبي أو القوى الشيعية الأخرى ومنها كتلة سائرون الصدرية، وهو ما يفتح سجالًا سياسيًّا جديدًا دون حسم الخلافات المستمرة المتعلقة باختيار رئيس وزراء جديد، أو التعامل مع مطالب المحتجين المطالبين بتغيير النظام.

ومع مفارقة قرار واشنطن الخاص بإرسال نحو 4 آلاف عسكري إضافي للعراق، فإن الحكومة العراقية العاجزة أصلًا ستكون أمام ضغوط إضافية قد لا تكون مؤهلة لتحملها، لاسيما بعد الضرر الجسيم الذي تعرضت له صورتها العامة أمام المجتمع الدولي بعد حادث السفارة، وربما تلاشت قدرتها على محاججة حلفائها ناهيك عن خصومها داخل النظام السياسي بالتداعيات الناجمة عن إخراج القوات الأميركية على الصعيدين الأمني والاقتصادي فضلًا عن السياسي، بسبب ما توفره العلاقة مع الولايات المتحدة من غطاء مهم للاقتصاد العراقي المتداعي، إلى جانب الدعم السياسي على الصعيد الدولي، والإسناد العسكري المهم لاسيما الغطاء الجوي لعمليات القوات العراقية ضد بقايا تنظيم الدولة.

تداعيات وفرضيات

لم تنته أزمة السفارة الأميركية بانسحاب المقتحمين من المنطقة الخضراء، لا أميركيًّا ولا عراقيًّا، ففي واشنطن، أصدر الرئيس ترامب إشارات متضاربة في التعاطي مع الأزمة، تراوحت بين تهديد مباشر لإيران، وتصريح واضح بأنه “لا يريد الحرب”.

وبين الحالين المتناقضين لن يكون بمقدور الإدارة الأميركية تجاهل الرسائل الواضحة من حادث السفارة وتتمثل بهشاشة الوجود الأميركي في العراق مقابل قوة النفوذ الإيراني، وخسارتها لحلفائها الذين أسهمت في تمكينهم من السلطة. والأمر هنا لا يتعلق فقط بالقوة العسكرية، بل بالهيبة التي جسد اقتحام السفارة ضعفها. كانت الرسالة التي تلقتها واشنطن واضحة: إيران أو حلفاؤها في العراق هم من يمكن أن يحفظوا للولايات المتحدة مصالحها في العراق كما فعلوا خلال إدارتي الرئيس، باراك أوباما، ومن بين ذلك أمن الرعايا والدبلوماسيين الأميركيين، وحتى الوجود العسكري الأميركي المحدود، ولكن مقابل تنازلات واضحة ومباشرة لا تقل عن عودة واشنطن للاتفاق النووي والاعتراف بالهيمنة الإقليمية لطهران.

ولا يبدو مثل هذا الخيار واقعيًّا بالنسبة لإدارة ترامب في الوقت الحاضر على الأقل، لكن البديل صعب أيضًا، فاستعادة الهيبة الأميركية في الشرق الأوسط من بوابة العراق، ناهيك عن تجنب انسحاب مذل بإرادة البرلمان، لا يبدو ممكنًا من غير خشونة أميركية مضادة قد تصل إلى حافة حرب شاملة مع إيران، لا تبدو واشنطن مستعدة لها أو راغبة فيها، وستكون مغامرة لن يرضى عنها حتى أنصاره الذين وعدهم بإنهاء حروب أميركا في الخارج، وقد تودي بحظوظ ترامب في ولاية ثانية.

وفي المقابل، تبدو إيران وقد كسبت نقطة لصالحها، فهي استدرجت الولايات المتحدة إلى معركة لم تكن في حساباتها، وحشرتها في زاوية ضيقة، وسيكون أي خيار مستقبلي نجاحًا في صراعها مع واشنطن، أقله إخراج القوات الأميركية أو استمرار التلويح به في أضعف الحالات. وفي غمرة هذا الصراع، تبدو إيران وقد تحررت نسبيًّا من زاوية الحرج الذي حُشرت فيه حينما واجهت على مدى أشهر رفضًا شعبيًّا عراقيًّا وسط ترحيب أميركي، فردَّت الصاع صاعين، بعدما قلبت الطاولة وحولت الانتباه من الاحتجاجات العراقية المطالبة بتغيير النظام السياسي وكل حلفاء طهران، إلى صراع من نوع آخر أبطاله وكذلك ضحاياه عراقيون آخرون معارضون للعلاقة مع الولايات المتحدة، ولكل من يتعامل معها.

وبرغم هذا الوضع المعقد والمتداخل، فإن المفاجآت ما زالت متوقعة، لاسيما مع إدارة أميركية لا يمكن التنبؤ بسلوكها، وقد يضطرها الحرج والضغوط الداخلية والانتخابية إلى قرارات متطرفة، قد تتضمن مغامرة حرب صفرية لا مناص منها.

ويمكن بالمقابل أيضًا توقع صفقة من نوع ما تجري تحت الطاولة تتضمن هدنة مؤقتة بين الجانبين، مقابل وعود بتنفيذ مطالب إيران وربما أكثر إذا ما فاز ترامب بولاية ثانية، وهو من نوع الصفقات البراغماتية غير الغريبة في التاريخ السياسي الأميركي.

ولا يمكن استبعاد فرضية أن أحد أهداف عملية السفارة إحراج الرئيس ترامب في عامه الانتخابي وتوفير فرص مهاجمته داخليًّا وتقديمه كرئيس ضعيف وعديم الحيلة، بغية إسقاطه، تمامًا كما فعلت إيران من قبل مع الرئيس، جيمي كارتر، في انتخابات عام 1980، وبنفس الأسلوب الذي استخدمه ترامب للفوز على منافسته في انتخابات 2016، وطهران تدرك بالطبع أن رئيسًا ديمقراطيًّا في البيت الأبيض سيكون على الأغلب مستعدًّا للعودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات عنها. ومثل هذه الفرضية، إن صحت، تعني بالتأكيد أن هناك المزيد مما تخبئه إيران في جعبتها ضد إدارة ترامب وتحديدًا في العراق وربما خارجه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*لقاء مكي، باحث أول في مركز الجزيرة للدراسات، وأستاذ دكتور في الإعلام والدعاية من جامعة بغداد.

مراجع

(1)  إيران: مظاهرات العراق مؤامرة أمريكية-سعودية-إسرائيلية، موقع مونتي كارلو الدولية، 8 أكتوبر/تشرين الأول 2019، (تاريخ الدخول 30 ديسمبر/كانون الأول 2019):https://bit.ly/2F9miKR

(2)   أمريكا تدعو العراق إلى الوفاء بتعهداتها وإجراء انتخابات مبكرة، سبوتنك عربي، 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، (تاريخ الدخول 30 ديسمبر/كانون الأول 2019):https://bit.ly/39yMY5p

(3)   الخارجية الأمريكية: لدينا أدلة ثابتة على تورط قادة في “الحشد الشعبي” بقتل المتظاهرين بأوامر من إيران، سبوتنك عربي، 6 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول 30 ديسمبر/كانون الأول 2019): https://bit.ly/37qoMAv

(4)  الأكبر والأغلى حول العالم.. لماذا السفارة الأميركية في بغداد استثنائية؟، الحرة 1 يناير/كانون الثاني 2020، تاريخ الدخول (1 يناير/كانون الثاني 2020):https://arbne.ws/2SPuS9k

(5)  Why the U.S. Became the Focus of Iraqis’ Anger? The New York Times, 1 Jan 2020, (enter 1/1/2020):https://www.nytimes.com/2020/01/01/world/middleeast/iraq-embassy-iran.html?action=click&module=Top%20Stories&pgtype=Homepage

(6)  الموقع الرسمي للسيد علي خامنئي، 1يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول:1يناير/كانون الثاني 2020): http://arabic.khamenei.ir/news/4877

 

رابط المصدر:

https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2020/01/200102090623779.html

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M