استبقت قطر احتكاكًا متوقعًا بين واشنطن والاتحاد الأوروبي، وذلك تزامنًا مع اقتراب تولي الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. في خطوة وصفت بأنها استراتيجية، حيث لوحت قطر بسحب مبيعاتها من الغاز إلى أوروبا، مبررة ذلك بقانون جديد فرضه الاتحاد الأوروبي يتعلق بالعمالة والضرر البيئي، مما أثار جدلًا واسعًا في أسواق الطاقة العالمية وبالأخص أسواق الغاز.
جاءت الخطوة القطرية بعد يومين فقط من تهديد دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية على السلع الأوروبية إذا لم يزد الاتحاد وارداته من الغاز الأميركي المسال. ويهدف التصعيد الأمريكي إلى تعزيز صادرات الغاز الأميركية وزيادة حصتها في الأسواق الأوروبية، على حساب الغاز الروسي والقطري.
مدخل:
يُشكل الغاز الطبيعي المصدر الرئيس لدولة قطر، صاحبة أكبر احتياطي للغاز في العالم بعد روسيا وإيران، والمورد الرئيس للغاز المسال عالميًا بالتوازي مع الولايات المتحدة وأستراليا. وتسعى الدوحة -عبر إنفاق مليارات الدولارات- لأن تكون أكبر دولة منتجة للغاز الطبيعي المسال على مستوى العالم، وذلك تماشيًا مع التوجه العالمي نحو التحول للطاقة النظيفة الذي يُشكل الغاز جزءًا منها. وعليه، أصبحت قطر موردًا متزايد الأهمية للغاز إلى أوروبا في أعقاب الاضطرابات داخل أسواق الطاقة نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية وتداعيات توترات الشرق الأوسط. ومع سعي الدول الأوروبية لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي، وقعت قطر للطاقة اتفاقيات طويلة الأمد لتوريد الغاز الطبيعي المسال إلى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا.
في ظل التحولات الجيوسياسية الكبرى التي تشهدها الساحة العالمية، تزداد أهمية قطاع الطاقة كأداة استراتيجية تمثل حجر الزاوية للأمن الوطني والاقتصادي للدول. من بين أبرز القضايا التي برزت في الآونة الأخيرة، يأتي التهديد القطري بوقف إمدادات الغاز الطبيعي المسال (LNG) إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما يثير تساؤلات حول التداعيات الاقتصادية والجيوسياسية لهذا القرار في ضوء التحديات العالمية الراهنة.
إشكالية أزمة الطاقة في أوروبا ودبلوماسية الغاز القطري:
يُشكل الغاز الطبيعي أكبر مشكلة بالنسبة للقارة الأوروبية، وذلك لأن استيراد الغاز يُعد أصعب بكثير من استيراد النفط الخام والفحم، حيث يتم تبريده وتحويله إلى سائل وشحنه على ناقلة ثم إعادة تحويله إلى غاز في منشآت خاصة به.
بدأت دول الاتحاد الأوروبي باستهلاك مخزوناتها من الغاز الطبيعي بشكل أسرع منذ أزمة الطاقة قبل ثلاث سنوات حيث أدى الطقس البارد وانخفاض الواردات المنقولة بحرًا إلى زيادة الطلب المحلي على الغاز الطبيعي، ومن المتوقع أن يرتفع الطلب خلال 2025، مما يتطلب شراء كميات إضافية من الغاز الطبيعي المسال، لتعويض النقص الناتج عن خسارة حوالي 16 مليار متر مكعب سنويًا من إمدادات الغاز الروسي عبر أوكرانيا.
علاوة على ذلك، انخفض حجم الغاز في مواقع التخزين في دول الاتحاد الأوروبي بنسبة حوالي 20% من نهاية سبتمبر، عندما ينتهي موسم إعادة التعبئة في أسواق الغاز، إلى منتصف ديسمبر، إذ لم يشهد العامان السابقان سوى انخفاضات أحادية الرقم خلال الفترة نفسها، عندما ضمنت درجات الحرارة الأعلى من المعتاد أن يظل التخزين ممتلئًا نسبيًا حتى موسم التدفئة الشتوي، وكبحت الصناعات الطلب بسبب ارتفاع الأسعار.
من المتوقع زيادة واردات الغاز الطبيعي المسال إلى دول الاتحاد الأوروبي بحوالي 19% على أساس سنوي في عام 2025، أي ما يعادل حوالي 21.7 مليار متر مكعب، خاصةً مع زيادة إمدادات الغاز الطبيعي المسال في النصف الثاني من عام 2025.
وهنا تجدر الإشارة إلى إن الغاز الطبيعي يُسهم في إنتاج نحو حوالي 20% من إجمالي الكهرباء المولدة داخل الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى استخدامه في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، كذلك في التدفئة المنزلية، ولا يُشكل الإنتاج المحلي لدول الاتحاد الأوروبي سوى حوالي 9% من إجمالي استهلاك الغاز، كما هو موضح في الشكل التالي.

تُعد قطر إحدى أكبر موردي الطاقة للاتحاد الأوروبي، في النصف الأول من عام 2024، كانت الولايات المتحدة قد زودت الاتحاد الأوروبي بحوالي 12% من وارداته من الغاز الطبيعي المسال (تأتي في المرتبة الثالثة)، يُظهر هذا التحول في مصادر الغاز الطبيعي أن أي صفقة تتعلق بالوقود الأحفوري قد تتأثر أكثر بالاعتبارات السياسية منها بالاحتياجات الطاقية، كما شهد الاتحاد الأوروبي زيادة ملحوظة في مشترياته من النفط والغاز من خارج القارة الأوروبية، وذلك بعد فرضه عقوبات على روسيا عقب غزوها لأوكرانيا في 2022، وذلك كجزء من محاولاته للحد من الاعتماد على الطاقة الروسية، كما هو موضح في الشكل التالي.

أمام ما تقدم، تعمل قطر على تنمية صادراتها من الغاز الطبيعي المسال، فإن الدولة التي تعد حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فيها من الأعلى عالميًا، ستحصل على المزيد من الأموال. وشكلت المواد الهيدروكربونية، بما في ذلك الغاز الطبيعي المسال، حوالي 44% من الناتج المحلي الإجمالي لقطر في عام 2023. وتمتلك قطر احتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعي قُدرت بحوالي 23.8 تريليون متر مكعب وذلك وفقًا لبيانات عام 2024، كما هو موضح في الشكل التالي.

سجل إنتاج قطر من الغاز الطبيعي أعلى معدل له تاريخيًا عند حوالي 181 مليار متر مكعب، وذلك في نهاية عام 2023، وتراجع إنتاج الدوحة من الغاز الطبيعي إلى حوالي 155.7 مليار متر مكعب خلال المدة من يناير/ حتى نهاية سبتمبر 2024، مقابل حوالي 160.3 مليار متر مكعب في المدة نفسها من 2023، كما هو موضح في الشكل التالي.

استكمالًا لما سبق، وضعت الدوحة إستراتيجية تستهدف زيادة صادراتها من الغاز عبر استثمار حوالي 83 مليار دولار خلال المدّة بين عامي 2021 و2025، وتبلغ حصة شركة قطر للطاقة منها حوالي 59 مليار دولار. وكانت قطر ثاني أكبر الدول المصدرة للغاز المسال عالميًا في 2023، بعد الولايات المتحدة، رغم انخفاض صادراتها إلى حوالي 108.4 مليار متر مكعب (79.9 مليون طن) خلال عام 2023، مقابل حوالي 110.5 مليار متر مكعب (81.25 مليون طن) في عام 2022.
وتجدر الإشارة إلى أن صادرات الغاز المسال في قطر تجاوزت 100 مليار متر مكعب بدايةً من عام 2011، وهي مستويات أعلى بكثير من حجم الصادرات عام 2000، البالغ 14.5 مليارًا فقط.

مع تزايد الطلب العالمي على الغاز الطبيعي وتطور تكنولوجيا استخراج الغاز الصخري، الولايات المتحدة أصبحت واحدة من أبرز منافسي قطر في سوق الغاز المسال. في السنوات الأخيرة، قفزت الولايات المتحدة إلى قائمة أكبر منتجي الغاز الطبيعي في العالم، بفضل تقنيات الحفر الأفقي والتكسير الهيدروليكي، ما سمح لها بتطوير احتياطيات ضخمة من الغاز الصخري. على الرغم من أن الولايات المتحدة تركز بشكل أساسي على توفير الغاز لأسواق أمريكا الشمالية والأسواق الأوروبية، إلا أنها بدأت تتوسع في تصدير الغاز المسال إلى دول أخرى، مما يشكل تهديدًا لشركات الغاز التقليدية في منطقة الشرق الأوسط مثل قطر.
بين الضغوط الأمريكية والخلافات الأوروبية الداخلية، تتجه أسواق الطاقة نحو مرحلة جديدة من التوترات، بالإضافة إلى مع احتمالات إعادة تشكيل ديناميكيات العرض والطلب في واحدة من أكبر الأسواق العالمية.
سعي قطر لزيادة طاقتها الإنتاجية من الغاز المسال:
قطر لا تقتصر على الحفاظ على مكانتها في سوق الغاز فقط، بل تسعى لتعزيز دورها في الأسواق العالمية بشكل أكبر. في هذا السياق، قطر للطاقة (المعروفة سابقًا باسم قطر للبترول)، وهي الشركة الحكومية المسؤولة عن صناعة النفط والغاز في قطر، أعلنت عن خطط لزيادة قدرتها الإنتاجية من الغاز المسال بشكل ملحوظ.
الزيادة المخطط لها: تخطط قطر لزيادة طاقتها الإنتاجية من الغاز المسال إلى 142 مليون طن سنويًا بحلول عام 2027. وهذه الزيادة الكبيرة في الطاقة الإنتاجية تأتي في وقت حساس بالنسبة للسوق العالمي، حيث يسعى العديد من اللاعبين الدوليين لتوسيع حصصهم في السوق.
النمو الحالي: في الوقت الحالي، تنتج قطر حوالي 77 مليون طن من الغاز المسال سنويًا، مما يعني أن الزيادة المخططة ستصل إلى زيادة بنسبة 84% في قدرتها الإنتاجية.

التهديد القطري بوقف شحنات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي
قال وزير الطاقة القطري، سعد الكعبي، إن قطر ستوقف شحنات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي إذا قامت دول الاتحاد بفرض قانون جديد بشكل صارم يتعلق بالعمالة القسرية والأضرار البيئية.
هذا القانون، تم اعتماده هذا العام، ويلزم الشركات الكبرى العاملة في الاتحاد الأوروبي بالتحقق من عدم استخدام سلاسل الإمداد لديها للعمالة القسرية أو التسبب في أضرار بيئية. وإذا تبين أن هذه الشركات متورطة في مثل هذه الممارسات، يتعين عليها اتخاذ التدابير اللازمة لمعالجتها. كما يفرض القانون عقوبات مالية تصل إلى 5% من إجمالي الإيرادات العالمية للشركة المتورطة (هذا القانون يعني خسارة 5% من الإيرادات القطرية).
وتُعد الخطوة القطرية ذات أهمية استراتيجية، حيث قد تقلص خيارات الدول الأوروبية والشركات الخاصة، مما يعقد المساعي الأمريكية في صناعة الغاز المسال والتي تهدف إلى زيادة الصادرات الأمريكية من الغاز المسال إلى دول الاتحاد الأوروبي. إذا نفذت الدوحة تهديدها، فإن ذلك سيترك فراغًا في سوق الغاز الأوروبية، ويزيد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
خطة قطر لزيادة طاقة تسييل الغاز المسال:
قطر تُعد واحدة من أكبر مصدري الغاز الطبيعي المُسال في العالم، وتعد شركة قطر للطاقة، المملوكة للدولة، القوة الرئيسية في صناعة الغاز القطري. والغاز الطبيعي المسال (LNG) هو غاز طبيعي يتم تبريده إلى درجة حرارة منخفضة جداً ليصبح سائلاً، مما يجعل نقله عبر السفن أسهل وأقل تكلفة مقارنة بنقل الغاز عبر خطوط الأنابيب.
زيادة الطاقة الإنتاجية: تسعى قطر للطاقة إلى زيادة طاقتها لتسييل الغاز بشكل كبير من 77 مليون طن سنويًا في الوقت الحالي إلى 142 مليون طن سنويًا بحلول عام 2027، هذه الزيادة الضخمة تعكس سعي قطر لتعزيز موقعها كلاعب رئيسي في سوق الغاز العالمي، خاصةٍ في ظل النمو الكبير في الطلب على الغاز الطبيعي.
الظروف العالمية المؤثرة: تدفع قطر لزيادة قدرتها الإنتاجية في وقت حاسم، حيث يتزايد الطلب على الغاز الطبيعي بشكل كبير على مستوى العالم، لا سيما في آسيا و أوروبا، وفي ظل هذه الظروف، تسعى قطر لزيادة حصتها في أسواق الغاز الدولي، خاصةً مع ظهور منافسين جدد مثل الولايات المتحدة.
بموجب الأحكام الأوروبية المعروفة CSDDD (قواعد العناية الواجبة لاستدامة الشركات)، يتم فرض التزامات قانونية صارمة على الشركات بهدف تحديد ومنع ومعالجة انتهاكات حقوق الإنسان والمخاطر البيئية عبر سلاسل التوريد الخاصة بها. بناءً على ذلك، يتعين على الشركات أن تقوم بتحديد المخاطر المحتملة التي قد تشمل عمل الأطفال، والعمل القسري، وظروف العمل غير الآمنة، وإزالة الغابات، والتلوث البيئي. علاوة على ذلك، يجب على الشركات تنفيذ تدابير فعالة للتخفيف من هذه المخاطر ومنع حدوث الأضرار، مع التأكد من مراقبة هذه التدابير وإبلاغ الجمهور بها بانتظام.
وتتحمل الشركات مسؤولية ضمان أن جميع الموردين في سلاسل التوريد العالمية الخاصة بها يلتزمون بالمعايير ذاتها. يمكن أن يتضمن ذلك تضمين بنود تعاقدية مع الموردين تضمن التزامهم، ومراقبتهم من خلال التدقيق المستمر، وأيضًا اتخاذ إجراءات مثل إنهاء العلاقات التجارية مع الموردين الذين لا يلتزمون بالمعايير المحددة. كما يحق لأي شخص تأثر بأفعال الشركات التي تنتهك قواعد الاستدامة والعناية الواجبة، أن يطالب بالتعويضات من خلال المحاكم الأوروبية.
أما بالنسبة لدور الاتحاد الأوروبي في هذه العملية، فإنه يشمل الإشراف والمراقبة لضمان التزام الشركات بتطبيق القواعد، بالإضافة إلى فرض عقوبات على الشركات غير الملتزمة. وتشمل هذه العقوبات فرض غرامات مالية، والاستبعاد من المناقصات والتمويل الأوروبي. وتشمل الأحكام أيضًا الشركات غير الأوروبية التي تحقق إيرادات صافية تزيد عن 450 مليون يورو في الاتحاد الأوروبي، حيث ستكون هذه الشركات عرضة للغرامات بموجب التوجيه الأوروبي. يستهدف هذا القانون بشكل أساسي الشركات الكبرى التي تضم أكثر من 500 موظف وإيرادات سنوية تتجاوز 150 مليون يورو. كما ينطبق أيضًا على الشركات الصغيرة في القطاعات عالية المخاطر مثل المنسوجات، والمعادن، والزراعة.
في الختام، يعكس التهديد القطري بوقف إمدادات الغاز المسال للاتحاد الأوروبي تصاعد التوترات الجيوسياسية والاقتصادية في وقت يتسم بتحديات معقدة على الصعيدين الإقليمي والدولي. إن مثل هذه الخطوة، إن حدثت، ستُحدث تأثيرات عميقة على أسواق الطاقة العالمية، خصوصًا في أوروبا التي تعتمد بشكل كبير على الغاز القطري في تأمين احتياجاتها من الطاقة. كما أن التهديد القطري يسلط الضوء على تزايد الصراع بين المصالح الاقتصادية و الاعتبارات البيئية و الحقوق الإنسانية، وهو ما يُضاف إلى التعقيدات التي تواجهها العلاقات الدولية في ظل الأزمات السياسية والجيوسياسية المستمرة. وفي ظل التوترات السياسية والتجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تلقي خطوة قطر بسحب صادرات الغاز المسال من أوروبا بظلالها على أسواق الطاقة العالمية وبالأخص الغاز الطبيعي. القرار القطري المحتمل يمثل ورقة ضغط قوية قد تعيد تشكيل ديناميكيات سوق الغاز الطبيعي في العالم، بينما تبقى تداعياته على العلاقات الدولية وتوازنات القوى مفتوحة على احتمالات متعددة.
على الصعيد الاقتصادي، سيعاني الاتحاد الأوروبي من تحديات كبيرة في تأمين البدائل الفعالة والمستدامة للغاز القطري، مما قد يُؤثر على الاستقرار الاقتصادي الأوروبي، خاصةٍ في ظل تزايد المنافسة من دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية. ومن الناحية الجيوسياسية، قد تُسهم هذه الأزمة في إعادة تشكيل التحالفات الدولية، مع احتمالية تصعيد التوترات بين دول الخليج والاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فإن هذا التهديد قد يكون بمثابة دعوة لإعادة التفكير في استراتيجيات الطاقة العالمية، وتعزيز التعاون بين الدول المنتجة والمستهلكة للطاقة لضمان الاستدامة في تأمين الإمدادات وحماية مصالح الأطراف المختلفة. في هذا السياق، تتطلب المرحلة المقبلة نهجًا دبلوماسيًا مرنًا يوازن بين المصالح الاقتصادية، البيئية، والجيوسياسية، ويُفضي إلى حلول متوازنة تضمن الأمن الطاقي والتنمية المستدامة.