القطاع المالي في عشرينات القرن الحالي

كريستالينا غورغييفا

رغم أنه لم يمض على بداية هذا العام سوى أسبوعين، فقد شهدت هذه الفترة سلسلة من الأحداث التي أبرزت طبيعة التحديات المشتركة التي نواجهها.

فحرائق الغابات المستعرة في أنحاء أستراليا هي تذكرة على ما تتكبده الحياة من خسائر جراء تغير المناخ.

وفي الشرق الأوسط، أدت الصراعات والتوترات المتزايدة إلى وضع المنطقة بأسرها في حالة من الاضطراب.

وعلى صعيد التجارة، تم الإعلان هذا الأسبوع عن عقد اتفاق مهم، لكن لا يزال هناك الكثير مما ينبغي عمله لرأب التصدعات بين أكبر اقتصادين في العالم. فالنظام التجاري العالمي، بجانب الولايات المتحدة والصين، بحاجة إلى تطوير كبير.

وإذا ما كان لي أن أحدد السمة الغالبة في بداية هذا العقد الجديد، لقلت إنها تزايد عدم اليقين.

عدم اليقين بأن التوترات الجغرافية-السياسية ستنحسر وأن السلام سيسود. وعدم اليقين بأن إعلان هدنة تجارية سيؤدي إلى سلام دائم وإصلاح تجاري. وعدم اليقين بأن السياسة العامة يمكن أن تعالج الإحباطات وتزايد الاضطرابات في بلدان كثيرة.

ونحن نعلم أن أجواء عدم اليقين هذه تضر بالثقة في الأعمال، والاستثمار، والنمو.

ولكن ليست هذه هي أجواء عدم اليقين التي تشغل بال الملايين من البشر يوميا. فما يشغل بالهم هو قدرتهم على سداد الفواتير في نهاية الشهر. وعدم اليقين بشأن صحة أسرهم ورخائها في المستقبل. والخوف المستمر من التخلف عن الركب.

لذلك، أود التركيز هذا الصباح على أحد دوافع عدم اليقين على وجه التحديد -وهو عدم المساواة– وأن أعرض عليكم نتائج دراستنا البحثية الجدية حول دور القطاع المالي في هذا المجال.

عدم المساواة المتزايد وأدوات معالجته

أولا، الخبر السار. تراجعت درجة عدم المساواة في الدخل بين البلدان تراجعا كبيرا على مدار العقدين الماضيين -بفضل صعود نجم الأسواق الصاعدة الرئيسية في آسيا. ورغم أن هناك بالتأكيد مناطق تستدعي القلق، فمن الضروري الإشارة إلى أن هذا هو أول تراجع في عدم المساواة على المستوى العالمي منذ الثورة الصناعية.[1]

غير أن عدم المساواة في واقع الأمر على مدار نفس الفترة، ظل يواصل ارتفاعه في العديد من البلدان. ففي المملكة المتحدة، مثلا، نجد أن أصحاب أعلى 10% من الدخل يتحكمون في ثروة تكاد تصل إلى حجم ثروة أصحاب أدنى 50% من الدخل.[2] وينعكس هذا الوضع في كثير من بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي حيث بلغت درجة عدم المساواة في الدخل والثروة أعلى مستوياتها أو اقتربت منها.[3]

وهذا الاتجاه العام المثير للقلق يذكرنا إلى حد ما بأوائل القرن العشرين – عندما أدت القوة المزدوجة للتكنولوجيا والتكامل إلى “العصر المُذهّب” الأول، ومرحلة “العشرينات الهادرة”، وفي آخر المطاف الكارثة المالية.

وثمة مشكلة لم نواجهها في عشرينات القرن الماضي لكنها باتت ملحة في الوقت الحاضر وهي ظاهرة تغير المناخ. فالفقراء والفئات الأقل دخلا من السكان غالبا هم من يتحملون العبء الأكبر لهذا التحدي الوجودي الذي بدأ يتكشف. وتفيد تقديرات البنك الدولي بأنه ما لم نُحدث تغييرا في مسار المناخ الحالي فقد يزيد عدد من يعيشون في فقر مدقع 100 مليون نسمة بحلول عام 2030.[4]

لذا علينا استيعاب دروس التاريخ وتطويعها لتتوافق مع الزمن الحالي. فنحن نعلم أن فرط عدم المساواة يعيق النمو وينخر في أسس البلدان. ويتسبب في تآكل الثقة داخل المجتمعات والمؤسسات. ويمكن أن يحفز التوجهات الشعبوية والاضطرابات السياسية.

ولمعالجة عدم المساواة، تتجه حكومات كثيرة في بادئ الأمر إلى الاستعانة بسياسات المالية العامة، وهي أدوات حيوية بالفعل، وستظل كذلك.

لكننا كثيرا ما نغفل القطاع المالي، الذي يمكن أن يكون له تأثير إيجابي أو سلبي عميق وطويل الأمد على عدم المساواة.

وتوضح دراسة بحثية جديدة أعدها خبراؤنا، وصدرت اليوم، كيف يمكن لقطاع مالي يتسم بالكفاءة أن يخلق فرصا جديدة للجميع في العقد القادم. وتبين كذلك كيف يمكن لقطاع مالي يعاني من ضعف الإدارة أن يزيد من عدم المساواة.

وهذه النتائج تقدم لنا تحذيرا ودعوة للعمل في آن واحد.

ومن خلال العمل، والعمل معا، بإمكاننا تجنب تكرار أخطاء عشرينات القرن الماضي في عشرينات القرن الحالي.

أبعاد ثلاثة لكيفية تأثير القطاع المالي على عدم المساواة

ثمة ثلاثة أبعاد رئيسية يتعين أخذها في الاعتبار عندما يتعلق الأمر بالقطاع المالي وعدم المساواة.

‌أ) التعميق المالي

أولا، التعميق المالي – أي حجم القطاع المالي مقارنة باقتصاد البلد بالكامل.

ونحن ندرك ما لذلك من أثر ملحوظ على الأداء الاقتصادي في البلدان.

ففي الصين والهند، على سبيل المثال، أدى النمو المستمر في القطاع المالي طوال فترة التسعينات إلى تمهيد السبيل لتحقيق مكاسب اقتصادية هائلة في العقد الأول من القرن الحالي. وقد ساعد ذلك بدوره في انتشال أكثر من مليار نسمة من براثن الفقر.[5]

ولكن هذه ليست القصة الكاملة.

توضح دراستنا البحثية الجديدة أن هناك نقطة يقترن عندها التعميق المالي بتفاقم عدم المساواة وتحقيق نمو أقل احتواء.[6]

فهناك عوامل كثيرة تقود إلى عدم المساواة –كالفساد، والضرائب التنازلية، وانتقال الثروة بين الأجيال– ولكن الصلة بين التعميق المالي المفرط وعدم المساواة هي العامل المتأصل عبر مختلف البلدان.[7]

لكن لماذا نرى هذا التحول في تأثير التعميق المالي على عدم المساواة؟ نحن نعتقد أنه رغم ما يعود على الفئات الأكثر فقرا من نفع في المراحل المبكرة من التعميق المالي، فإن تزايد حجم القطاع المالي ودرجة تعقيده، مع مرور الوقت، يؤدي في النهاية إلى مساعدة الأثرياء.

ويتضح التأثير السلبي على وجه الخصوص حيثما تكون القطاعات المالية أصلا عميقة جدا. وهنا نجد أن الأدوات المالية المعقدة، والجماعات التأثيرية ذات النفوذ، والتعويضات المفرطة في القطاع المصرفي يمكن أن تؤدي إلى نظام يخدم نفسه بقدر ما يخدم الآخرين.

ولسنا بحاجة للذهاب بعيدا لكي نستعرض أمثلة على ذلك. فالولايات المتحدة تتميز بواحد من أكثر الاقتصادات تنوعا في العالم. ومع ذلك، ففي عام 2006 كانت شركات الخدمات المالية تشكل قرابة 25% من مؤشر ستاندرد آند بورز 500 وحققت 40% تقريبا من كل الأرباح. وهذا هو ما جعل القطاع المالي هو القطاع الأكبر والأكثر ربحية في مؤشر ستاندرد آند بورز بأكمله.[8]

وما حدث بعد ذلك –أي “الركود الكبير”- هو ما يقودني للحديث عن البُعد الثاني لكيفية تأثير القطاع المالي على عدم المساواة، أي الاستقرار المالي.

‌ب) الاستقرار المالي

شكل الاستقرار المالي، والضرر الاقتصادي الناجم عن الأزمات المالية، قضية حاسمة في العقد الماضي.

فنحن نعلم أن أي أزمة مالية تؤدي في المتوسط إلى خسارة دائمة في الناتج بنسبة قدرها 10%.[9] وهذا من شأنه تغيير مسار مستقبل أي بلد بأكمله ويتسبب في ترك الكثيرين وراء الركب بصفة دائمة.

وسيظل الاستقرار يشكل تحديا في العقد القادم. ففي العشرينات من القرن الحالي، سوف يتعين على القطاع المالي العمل على منع وقوع هذا النوع التقليدي من الأزمات، والتعامل مع الأنواع الجديدة منها، بما في ذلك الصدمات المرتبطة بالمناخ. فلننظر كيف يمكن للأصول المحبوسة أن تتسبب في وقوع خسائر غير متوقعة. وهناك بعض التقديرات تشير إلى أن التكاليف المحتملة لتخفيض قيمة هذه الأصول تتراوح بين 4 تريليون و 20 تريليون دولار.[10]

لذا، نحن جميعا أصحاب مصلحة مكتسبة في تركيز جهودنا لصالح الاستقرار المالي.

وتوضح دراستنا البحثية الجديدة أن عدم المساواة يزداد غالبا قبل وقوع الأزمات المالية، مما يشير إلى قوة الصلة بين عدم المساواة والاستقرار المالي.[11]

ولكن ما السبب في ذلك؟ أحد الأسباب هو أن ازدياد عدم المساواة قد يفرض ضغوطا سياسية من أجل تقديم حل سريع وهو ما يؤدي في الحقيقة إلى تفاقم المشكلة.

ولننظر إلى سوق المساكن في الولايات المتحدة في العقد الأول من القرن الحالي. فقد أدت الرغبة في مساعدة المزيد من الأمريكيين على امتلاك مساكنهم إلى فورة الحماس في صناعة الرهن العقاري ففتحت بذلك المجال أمام تراخي القواعد التنظيمية للإقراض. وبينما أصبح الكثيرون من ذوي الدخول المنخفضة أكثر ثراء على الورق، فإن مكاسب الفئة الأعلى من أصحاب الدخل سرعان ما تفوقت على ما حققوه من مكاسب.

ثم انفجرت فقاعة المساكن في عام 2007. وما كان من “الأزمة المالية العالمية” التي وقعت بعد ذلك إلا أن وجهت لطمة عنيفة للملايين في أنحاء العالم وأدت على المدى الطويل إلى تفاقم عدم المساواة.

هذا مجرد مثال واحد. واليوم، نتيجة لهذه الأزمة، هناك شاب من كل أربعة شباب في أوروبا مهدد بالوقوع في براثن الفقر.[12]

فالأزمة بالنسبة لهؤلاء، وللكثير سواهم، لم تنته أبداً.

ولا تقتصر هذه الصلة بين الاستقرار المالي وعدم المساواة على “الأزمة المالية العالمية” ولا حتى على “الكساد الكبير”. فقد أجري مسح شمل 17 اقتصادا متقدما بحث في كل أزمة مالية وقعت بين عامي 1870 و2013. وأثبتت النتائج ما أوضحته دراستنا من أن اتساع فجوة عدم المساواة في الدخل هو دائما مؤشر قوي للتنبؤ بوقوع أزمة مالية ويمكن أن يكون تأثيره طويل الأمد بعدها[13].

وكما قال مارك توين “إن التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه غالبا ما يتناغم”.

فما هي إذن الدروس التي نستخلصها من أصداء النغمات التاريخية؟

أحد هذه الدروس هو أن الخدمات المالية في الأساس أمر إيجابي. فالاقتصادات النامية بحاجة إلى مزيد من التمويل لكي توفر لكل مواطن فرصة للنجاح. ولننظر مثلا إلى أسواق السندات المحلية الأكثر عمقا التي تموِّل مشروعات الأعمال الجديدة أو إلى فرص الاستثمار التي تساعد المواطنين على الادخار من أجل التقاعد.

والأمر ببساطة هو أن ما يزيد عن حده ينقلب إلى ضده. فالتعميق المالي المفرط والأزمات المالية يمكن أن يحفزا عدم المساواة.

لذا نحن بحاجة لإيجاد التوازن الصحيح بين الإفراط والتفريط.

وهذا ما يقودني للحديث عن البعد الثالث لكيفية تأثير القطاع المالي على عدم المساواة، وهو الشمول المالي.

‌ج) الشمول المالي

الشمول المالي ببساطة هو أن يتمتع المزيد من المواطنين والشركات بفرص أرخص وأسهل للحصول على الخدمات المالية.

وفي دراسة بحثية أجراها خبراء الصندوق وآخرون يتبين لنا أن هناك ارتباط قوي بين زيادة الحصول على حسابات مصرفية وتخفيض عدم المساواة في الدخل.

وتوضح البيانات كذلك أنه رغم استفادة الرجل والمرأة على السواء من مكاسب الشمول، فإن أكبر انخفاض في عدم المساواة في الدخل يتحقق عند إعطاء المرأة فرصة أكبر في الحصول على التمويل.[14]

وجدير بالاهتمام، أن هناك اتساقا في العلاقة بين فرص الحصول على التمويل وعدم المساواة في مختلف بلدان العالم مع اختلاف مستويات الدخل فيها.

ففي السويد، مثلا، وهي من أكثر بلدان العالم توازنا في مستويات توزيع الدخل، نجد أن نسبة أصحاب الحسابات المصرفية مماثلة على مستوى الأغنياء والفقراء.

وفي المقابل، في إندونيسيا، التي تتسم بارتفاع درجة عدم المساواة في الدخل، نجد أن احتمالات حصول أغنى 20% من السكان على حسابات مصرفية تكاد تصل إلى ضعف الفرص المتاحة لأفقر 20% من السكان.

والتكنولوجيا المالية تقوم بدور رئيسي في شتى أنحاء العالم عن طريق تيسير حصول المواطنين على الخدمات المصرفية وإتاحة فرصة الحصول على مستوى معيشي أفضل.[15]

فلننظر إلى حالة كمبوديا حيث ساهمت خدمات التمويل الإلكترونية المحمولة إلى زيادة قدرها 2 مليون مقترض جديد على مدار العقد الماضي، يمثلون 20% من تعداد السكان البالغين. ولم يسبق لكثير من هؤلاء المقترضين أن كانت لديهم حسابات مصرفية.[16]

ورغم أن هذه التغييرات قد لا تحدث انخفاضا مباشرا في عدم المساواة في الدخل، فإنها قد تتيح الفرصة – وتفسح المجال أمام المواطنين للادخار، وبدء مشروعات صغيرة، وتحسين فرص التعلم لأولادهم.

فماذا يعني ذلك بالنسبة للاقتصاد الأوسع نطاقا؟ توضح دراسة خبراء الصندوق البحثية أن هناك فرقا يتراوح بين نقطتين إلى ثلاثة نقاط مئوية في نمو إجمالي الناتج المحلي على المدى الطويل بين البلدان التي تتمتع بالشمول المالي ونظرائها الأقل شمولا.[17]

وبالتالي فإننا نعلم أن الشمول المالي قادر على إحداث تغيير جذري في المشهد الاقتصادي. وبإمكانه تحطيم الحواجز التي تفرضها عوامل الجنس والعِرق والجغرافيا وعدم تكافؤ نقطة البداية في الحياة…

وفي كل من الأبعاد التي ذكرتها –من التعميق إلى الاستقرار إلى الشمول– هناك مفاضلات عندما يتعلق الأمر بالقطاع المالي وعدم المساواة.

فالقطاع المالي الذي ننشده يتسم بالقوة، لكنه ليس مفرطا في التعقيد. وننشد الشمول المالي الذي يجلب الفرص الجديدة والتدفقات الائتمانية الجديدة، ولكن دون أن يخلق أعباء مديونية ثقيلة ويهدد النظام بأكمله.

إذاً، ما السياسات التي نحتاجها لبناء نظام أكثر احتواء للجميع في العقد القادم؟

سياسات بناء نظام أكثر احتواء للجميع في العقد القادم – نظام أكثر أمانا واستقرارا وذكاء

هناك ثلاثة مجالات على مستوى السياسات لكي تتوافق مع الطرق الرئيسية الثلاث التي يؤثر بها القطاع المالي على عدم المساواة.

أولا، بناء نظام أكثر أمانا. لا بديل عن تحقيق مستوى عال من الجودة في التنظيم والرقابة. والتعميق المالي هدف جدير بالاهتمام من كل الاقتصادات، ولكن على غرار نمو المدن، ينبغي أن يكون نمو النظام المالي قائما على أساس مستدام ومخطط بعناية.

وقد اتخذت إجراءات إيجابية لتنفيذ جدول أعمال الإصلاحات التنظيمية في أعقاب الأزمة. وبرهنت هذه الجهود على أن تنفيذ إصلاحات قوية في القطاع المالي في هذا الاقتصاد العالمي المترابط لا بد من التعاون الدولي القوي.

واليوم، باتت البنوك تضع شروطا إلزامية أعلى لرأس المال والسيولة. وأصبحت تصفية البنوك المتعثرة أكثر سهولة. وتحسنت مستويات الشفافية والمساءلة.

إننا الآن أكثر أمانا، ولكن ليس بالقدر الكافي. والتراجع عن هذه الإنجازات – مثلما بدأ يحدث بالفعل في بعض الأماكن – سيكون خطأ فادحا.

وبدلا من ذلك، ينبغي أن تستكمل البلدان تنفيذ جدول أعمال الإصلاحات ثم تعززه ببذل مزيد من الجهود الجديدة. فالنمو الآمن للأسواق المالية يقتضي تزايد الوعي المالي، بحيث يستوعب المواطنون حقيقة ما يطرح عليهم وما يعنيه بالنسبة لأسرهم.

وهذا يقودني للحديث عن نقطتي الثانية، وهي بناء نظام أكثر استقرارا.

هناك دور حيوي للقطاع الخاص والصناعة المصرفية في هذا الشأن.

ويصدق هذا بالتأكيد عندما يتعلق الأمر بالمناخ والاستقرار، وهو مجال سنكشف عنه في دراسة بحثية جديدة في فصل الربيع. فالقطاع المالي يمكن أن يضطلع بدور حيوي في انتقال العالم إلى صافي انبعاثات الكربون الصفري وبلوغ أهداف اتفاق باريس بشأن تغير المناخ.

ولبلوغ هذه الأهداف، على الشركات مراعاة آثار تغير المناخ بصورة أفضل عند تسعير قروضها. وهنا يتضح الفرق الذي يحدث عند التفكير في العقد القادم مقارنة بالعام القادم فقط. وباعتماد أفق زمني أطول أمدا سيجعل رؤيتنا للفرص والمخاطر أكثر وضوحا. ففي العام الماضي وقعت أولى حالات إفلاس شركة في مؤشر ستاندرد آند بورز 500 من جراء تغير المناخ.[18] ومن الواضح أن المستثمرين يبحثون حاليا عن سبل للتكيف.

ومن شأن وضع معايير أقوى للإفصاح أن يساعد المؤسسات المالية على رؤية الصورة الكاملة. فإذا ارتفع سعر قرض لتنفيذ مشروع معرض للخطر، يمكن أن تقرر الشركات ببساطة أنه من الأفضل إنفاق أموال هذا المشروع في مجال آخر.

وهذا ليس المجال الوحيد الذي يمكن لزيادة المعلومات أن تؤدي إلى زيادة الاستقرار.

وفي الوقت الراهن، تشترط بنوك كثيرة توافر مستويات مفرطة الارتفاع من الضمانات للحصول على قروض الرهن العقاري أو الائتمان التجاري.

وليس كل إنسان يملك مسكنا، ولا ينبغي أن يكون ذلك شرطا لكي يتمكن من بدء مشروع تجاري.

فكيف يمكن تغيير تقييمات المخاطر هذه؟

بإمكان المؤسسات المالية أن تستند في قرارات الإقراض أكثر على التدفقات النقدية المستقبلية. ومن شأن ذلك أن يعيد صناعة الخدمات المالية لما كان يفترض أن تكون عليه – أي صناعة تقوم على خدمة المواطنين.

وعندما تقوم البنوك بتقييم المخاطر على نحو أفضل فإنها على الأرجح ستزيد من حجم قروضها للشركات الأصغر. وهذا هو العامل الرئيسي لتحقيق الاستقرار.

وتشير دراستنا البحثية إلى أن الإقراض للشركات الصغيرة يزيد من الاستقرار المالي ويحد من المخاطر مقارنة بالإقراض للشركات الكبيرة.[19]

فعند توزيع المخاطر على مئات الشركات، بدلا من بضع مجموعات عملاقة، ينشأ اقتصاد أكثر احتواء لجميع الفئات وأكثر قوة.

ولكن كيف يمكن الاستفادة على النحو الأمثل من اقتصاد أكثر قوة؟

وهذا يقودني إلى نقطتي الثالثة والأخيرة، وهي بناء نظام أكثر ذكاء.

إن توسيع نطاق الحصول على الخدمات المالية ليشمل الأسر منخفضة الدخل والمشروعات الصغيرة هو واحد من أكثر الطرق فعالية للحد من عدم المساواة.

ولكن الإفراط في الإتاحة وسرعة التنفيذ يمكن أن يأتي بنتائج عكسية.

وفي المرحلة المقبلة، سنشهد تحديا فريدا يتمثل في الأعداد الهائلة من شركات التكنولوجيا المالية الجديدة التي تقدم الائتمان حول العالم. وبإمكان الحكومات العمل مع الشركات لإطلاق الإمكانات الكاملة للتكنولوجيا المالية، مع التحكم في مخاطرها.

وهذا هو هدف جدول أعمال بالي للتكنولوجيا المالية الذي أطلقه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في عام 2018. ويطرح مجموعة من المبادئ الرئيسية، ومنها ما يتعلق بقضايا تشجيع المنافسة، وتعزيز حماية المستهلكين، ومكافحة غسل الأموال. وهذه المبادئ يمكن أن تساعد في إرشاد صناع السياسات وتخفيف المخاطر على البنوك وتوفير وظائف جديدة.

وفي واقع الأمر، أوضحت دراسة أجراها البنك الدولي شملت 135 ألف شركة من 140 بلدا أن إقراض الشركات الأصغر يرتبط ارتباطا مباشرا بالتحسينات على مستوى عدم المساواة في الدخل.[20] والسبب في ذلك هو أن هذه الشركات تقوم غالبا بتعيين من هم بحاجة ماسة للعمل.

ومن الأمثلة الجيدة على ذلك، خدمة “إم بيسا” (M-Pesa) لتحويل الأموال عبر الهاتف المحمول. فقد بدأت خدمة “إم بيسا” كخدمة للدفع عبر الهاتف المحمول بين النظراء في كينيا في مطلع العقد الماضي.

وبدءا من عام 2020 ستصبح هذه الشركة منصة مالية لعموم إفريقيا. ولا تزال هناك تحديات جسام تواجه “إم بيسا”، لكن الهدف سليم، وهو ربط الملايين ممن لا يستفيدون من الخدمات المصرفية والذين لا يستفيدون منها بالقدر الكافي عبر شبكة الإنترنت.

وبطبيعة الحال لم يحدث ذلك بين عشية وضحاها. فقد جاءت نتيجة سنوات من الجهد الذي بذله رواد الأعمال، والمسؤولون الحكوميون، والأهم من ذلك المواطنون الذين كانوا يبحثون عن فرص جديدة. إنه حقا نموذج جيد يحتذى به.

خامسا: خاتمة

لقد جاءتنا إشارة واضحة من العقود الماضية بأن تزايد عدم المساواة يمثل مشكلة لن يترتب على تركها بلا علاج سوى ازدياد تفاقمها.

وبينما لا تزال سياسة المالية العامة أداة فعالة في هذا المجال، فلا ينبغي لنا أن نغفل سياسات القطاع المالي. فإذا أغفلناها، قد نجد عشرينات القرن الحالي شديدة الشبه بعشرينات القرن الماضي. غير أننا إذا استخلصنا الدروس من التاريخ، وجعلناها متوائمة مع عصرنا الحالي، سنتمكن من بناء نظام أكثر قوة يلائم المستقبل.

وعلى ذلك، اسمحوا لي أن أختتم حديثي باستعارة عبارة لرجل رصد روح عشرينات القرن الماضي في أمريكا أفضل من سواه من الكتّاب، وهو “فرانسيس سكوت فيتزجيرالد. فقد كتب ذات مرة “العمل دليل شخصية صاحبه”.

ومن المعروف أن أعمال فيتزجيرالد لم تحظ في عصره بما تستحقه من تقدير، فلم يلتفت إلى نصيحته.

دعونا لا نرتكب ذات الخطأ مرتين.

ولنجعل العام المقبل عاما للعمل، ومن ثم نجعل عشرينات القرن الحالي عقدا مفعما بالرخاء للجميع.

* كلمة السيدة كريستالينا غورغييفا، مدير عام صندوق النقد الدولي، في معهد بيترسن للاقتصاد الدولي-واشنطن العاصمة
https://www.imf.org

………………………………
[1] Ana Revenga and Meagan Dooley, “Is Inequality really on the rise?,” The Brookings Institution, May 28, 2019.
[2] Feargal McGuinness and Daniel Harari, 2019, “Income Inequality in the UK,” House of Commons Library, Briefing Paper No. 7484.
[3] Carlotta Balestra and Richard Tonkin, “Inequalities in household wealth across OECD countries: Evidence from the OECD Wealth Distribution Database,” OECD Statistics Working Papers 2018/01.
[4] Jean-Pierre Robin, “Kristalina Georgieva: Global warming can add 100 million poor people by 2030,” The World Bank, September 14, 2017.
[5]Carolina Sanchez, “From local to global: China’s role in global poverty reduction and the future of development,” The World Bank.
[6] Martin Čihák, Ratna Sahay, and other IMF Staff, 2020, “Financial Services and Inequality,” IMF Staff Discussion Note, SDN/20/XX.
[7] الحاشية السابقة.
[8] تحليل خبراء صندوق النقد الدولي.
[9] Valerie Cerra and Sweta C. Saxena, “The Economic Scars of Crises and Recessions,” IMFBlog. March 21, 2018.
[10] Sarah Breeden, “Avoiding the storm: Climate change and the financial system,” Bank of England, April 15, 2019.
[11] Martin Čihák, Ratna Sahay, and other IMF Staff, 2020, “Financial Services and Inequality,” IMF Staff Discussion Note, SDN/20/XX.
[12] Tingyun Chen, Jean-Jacques Hallaert, Alexander Pitt, Haonan Qu, Maximilien Queyranne, Alaina Rhee, Anna Shabunina, Jérôme Vandenbussche, and Irene Yackovlev, 2018, “Inequality and Poverty Across Generations in the European Union,” IMF Staff Discussion Note, SDN/18/01.
[13] Pascal Paul, 2017, “Historical Patterns of Inequality and Productivity around Financial Crises,” Federal Reserve Bank of San Francisco Working Paper 2017-23.
[14] Ratna Sahay, Martin Čihák, and other IMF Staff, 2018, “Women in Finance: A Case for Closing Gaps,” IMF Staff Discussion Note, SDN/18/05.
[15] See Lael Brainard, “FinTech and the Search for Full Stack Financial Inclusion,” Board of Governors of the Federal Reserve System.
[16] Christine Lagarde, “Belt and Road Initiative: Two Key Channels to Achieving Financial Connectivity,” International Monetary Fund, April 24, 2019.
[17] Ratna Sahay, Martin Čihák, Papa N’Diaye, Adolfo Barajas, Srobona Mitra, Annette Kyobe, Yen Nian Mooi, and Seyed Reza Yousefi, 2015, “Financial Inclusion: Can It Meet Multiple Macroeconomic Goals?,” IMF Staff Discussion Note, SDN/15/17.
[18] See Mark Carney, “A New Horizon,” Bank of England, March 21, 2019. Citing PG&E Corp. example.
[19] Martin Čihák, Ratna Sahay, and other IMF Staff, 2020, “Financial Services and Inequality,” IMF Staff Discussion Note, SDN/20/XX.
[20] الحاشية السابقة، مع الاستشهاد ببيانات مسح البنك الدولي “2018 World Bank Enterprise Survey Data”.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/economicarticles/22202

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M