المجمع الصناعي العسكري الأمريكي في زمن الحرب الأوكرانية

 إيهاب عمر

 

في 4 مارس 2022 جرى حدث تاريخي في مسار العلاقات بين مؤسسة الرئاسة الأمريكية والشركات العسكرية الخاصة، حيث زار الرئيس جو بايدن مركز التصنيع الرئيسي لشركة “لوكهيد مارتن” في ولاية ألاباما، التي تعد واحدة من أهم قلاع التصنيع العسكري الأمريكي.

التقارير المتخصصة في الشؤون العسكرية ذهبت إلى أن الصاروخ “جافلين” Javelin الذي تنتجه الشركة كان السبب الرئيس في فك الحصار الروسي عن العاصمة الأوكرانية كييف، بعد أن كانت توقعات المخابرات الأمريكية تذهب إلى أن الروس سوف يسيطرون على العاصمة الأوكرانية خلال ثلاثة أسابيع من بدء الحرب، إلا أن الصمود الأوكراني يقف خلفه منتجات شركة لوكهيد مارتن وعلى رأسها صاروخ جافلين المحمول على الكتف زنة 15.9 كجم الذي تمكن من إصابة آلة الحرب الروسية المدرعة من دبابات حديثة وغيرها بصداع كبير.

وتشير التقديرات إلى أن الجيش والميليشيات الأوكرانية تستخدم 500 قذيفة من هذا الصاروخ يوميًا منذ بدء الحرب، وأن لوكهيد مارتن تمتلك أكثر من موديل لهذا الصاروخ، وعقب ما جرى في الحرب الأوكرانية فإن هنالك خطة لتحديث الجيش الأمريكي بهذا النوع من الصواريخ. وأعادت الزيارة للأذهان مصطلحًا حاولت نخبة واشنطن إخفاؤه طويلًا عن وسائل الإعلام، ألا وهو “المجمع الصناعي العسكري الأمريكي”.

ما هو المجمع الصناعي العسكري الأمريكي؟

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) وبدء صراع تسليح غير مسبوق في التاريخ، بدأت شركات السلاح في الغرب عمومًا وفي الولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد في التغول والتوسع والسيطرة على مقاليد صناعة القرار، باعتبارها جزءًا من شبكات المصالح الغربية التي تدير أغلب صناعات الغرب مما جعلها اليوم الحاكم والمدير الحقيقي للعالم الغربي بينما كافة حكومات الغرب المنتخبة ديموقراطيًا هي مجرد منفذ لتوصيات – بل قل إملاءات – لشبكات المصالح الغربية وعلى رأسها شبكات صناعة وتجارة السلاح.

وفي يناير 1961، وبينما الشعب الأمريكي يحتفل بقرب تسلم السيناتور جون كينيدي للسلطة، وهو الشاب المتحمس الذي عرف نفسه للأمريكيين باعتباره أول مولود في القرن العشرين يتولى الرئاسة الأمريكية وأصغر رئيس في تاريخ أمريكا وأول كاثوليكي يتولى الرئاسة في تاريخ الدولة التي قامت على أكتاف الإنجيليين، كان الرئيس المنتهية ولايته، الجنرال الصارم الهادئ، دوايت أيزنهاور يكتب خطاب الوداع، ومعه مجموعة من الكتاب والمفكرين، ويحاول صياغة مصطلح يفند فيه مخاوفه مما سعى لمجابهته وعرقلته في سنوات حكمه التي امتدت لولايتين ما بين يناير 1953 ويناير 1961.

رأى أيزنهاور أن سياسة الردع النووي سوف تقلص النفقات العسكرية، وأن امتلاك أمريكا للسلاح النووي قد أدى إلى تقليص الإنفاق العسكري ولا حاجة للتوسع الضخم في تمويل الشركات العسكرية الخاصة، وقد استطاع أيزنهاور فرض رؤيته على مجتمع واشنطن ولكنه رأى بعينه هذا التحالف الثلاثي وهو يحاول أن يضغط عليه للتوسع في الإنفاق العسكري دون النظر إلى العجز الحكومي أو عدم حاجة أمريكا في بعض الأحيان لهذا التوسع في الإنفاق على الشركات العسكرية الخاصة.

هذا التحالف الثلاثي كما رآه أيزنهاور، مكون من الشركات العسكرية الخاصة، وشبكة داخل وزارة الدفاع الأمريكية “بنتاجون”، إضافة إلى شبكة مماثلة منتفعة داخل مجلسي النواب والشيوخ “كونجرس”.

إن بعض القراءات ذهبت إلى أن الشركات العسكرية الخاصة هي التي صنعت شبكات المنتفعين داخل الكونجرس والبنتاجون وساهمت في تصعيدها داخل المؤسسة العسكرية والتشريعية الأمريكية، سواء عبر تمويل حملات المرشحين لمجلسي النواب والشيوخ، أو تزكية الترقيات داخل الجيش الأمريكي عبر شبكة معقدة من الموالين لهذه الشركات.

والغرض الأساسي هنا هو جعل الولايات المتحدة الأمريكية في حالة حرب دائمة، سواء بشكل مباشر أو بالوكالة، لأن هذه الحرب الدائمة دون نهاية هي السبب الرئيس في قيام الحكومة الأمريكية بزيادة الإنفاق العسكري، وشراء السلاح من الشركات العسكرية الخاصة، سواء للجيش الأمريكي أو للجيوش الحليفة في حروبها بالوكالة ضد أعداء الولايات المتحدة الأمريكية، كما جرى في سنوات الحرب الباردة أو كما يجري في الحرب الأوكرانية اليوم وسيل الأسلحة الذي يصل إلى الحكومة الأوكرانية عبر دوائر الغرب.

هذا التحالف الثلاثي بين شركات السلاح والكونجرس والبنتاجون، أطلق عليه أيزنهاور لقب “المجمع الصناعي العسكري”، وكان ينوي في بادئ الأمر أن يستخدم في خطابه الأخير مصطلح “المجمع الصناعي العسكري التابع للكونجرس” أو المجمع الصناعي العسكري الكونجرسي military-industrial-congressional complex أو مصطلح المجمع الصناعي الذي يستمد أهميته من استمرار الحرب war-based industrial complex ولكن مستشاري أيزنهاور نصحوه بتجنب ذكر الكونجرس الأمريكي صراحة في مصطلحه الجديد، وكذا أن المصطلح الثاني غير مفهوم قياسًا بفكرته، وهكذا أصبح مصطلح “المجمع الصناعي العسكري” هو الموجود في النسخة النهائية من الخطاب الرئاسي military–industrial complex (MIC).

خدم أيزنهاور في الجيش الأمريكي لمدة أربعة عقود، وشارك في الحملة على المكسيك (1916 – 1917) ثم الحرب العالمية الأولى والثانية، وقاد جيش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ثم أصبح رئيس أركان الجيش الأمريكي كما كان الحاكم العسكري لألمانيا الغربية لبعض الوقت. وفي 17 يناير 1961، قبل ثلاثة أيام من تسليم البيت الأبيض لسليل آل كينيدي، ألقى الجنرال أيزنهاور خطابه الأخير، وجاء فيه:

“مؤسستنا العسكرية عنصر حيوي في المحافظة على السلام. يجب أن تكون أسلحتنا قوية، جاهزة للرد الفوري، حتى لا يغرر لأي معتد محتمل بالمخاطرة بدماره الذاتي. هذا الاجتماع بين المؤسسة العسكرية الضخمة والصناعات العسكرية الكبيرة هو شيء جديد في التجربة الأمريكية، إن النفوذ الشامل – الاقتصادي والسياسي وحتى الروحي – يُشعر به في كل مدينة ودار تشريع في الدولة وكل سلطة في الحكومة الاتحادية. ونحن نعترف بالحاجة الحتمية لهذا التطور. لكن علينا ألا نخفق في استيعاب تبعاته الهائلة”.

وأضاف “كدحنا ومواردنا ورزقنا كلها ترتبط بهذا؛ وكذلك بنية مجتمعنا ذاتها. في مجالس الحكومة، يجب علينا الاحتراس من النفوذ الذي لا مبرر له، سواءً كان بطلب أو بغير طلب، من المجمع الصناعي العسكري. إن الاحتمال موجود للصعود الكارثي للسلطة في غير مكانها، وسيظل موجودًا. لا يجب علينا أبدًا أن نترك أثر هذا الجمع يعرض حرياتنا وعملياتنا الديمقراطية للخطر. لا يصح أن نسلم بضمان أي شيء. فقط المواطنة المتنبهة والعارفة هي التي ستجبر التشابك المناسب بين الصناعات الكبرى والآلة الدفاعية من جهة وطرقنا السلمية وأهدافنا من جهة أخرى، حتى يزدهر الأمن والحرية معًا”.

علامات استفهام في سنوات جون كينيدي

قبل أن يكمل كينيدي عامه الثالث في الرئاسة الأمريكية، وبينما كانت القراءات تذهب إلى اكتساحه لانتخابات الرئاسة في نوفمبر 1964، تم اغتيال الرئيس الأمريكي في أشهر حادث غامض بالقرن العشرين يوم 22 نوفمبر 1963، ومن ضمن عشرات الروايات التي قيلت عن أسباب هذا الاغتيال، شاع بين الأمريكيين أن لشبكات المصالح عمومًا وشبكات تجارة السلاح بالتعاون مع الكونجرس على وجه التحديد مصلحة في إزاحة كينيدي عن المشهد، لأن الأخير اعتزم إبرام اتفاقية سلام مع الاتحاد السوفيتي تنهي الحرب الباردة وتنهي سباق التسليح الجنوبي، ولم يكن كل هذا في مصلحة المجمع الصناعي العسكري.

إن لكينيدي تسجيلًا شهيرًا يحذر فيه الأمريكيين من شبكات وجماعات غامضة غير منتخبة تحاول التأثير على صناعة القرار الوطني والسلطة المنتخبة في أمريكا، وقد حاول البعض القول إن كينيدي كان يقصد التنظيمات الماسونية، بينما كان الرئيس الأمريكي يقصد شبكات المصالح الغربية ومحاولاتها الهيمنة على صناعة القرار الأمريكي.

أتى الرئيس ليندون جونسون مع جوقة من أباطرة شبكات المصالح في تكساس، وذلك خلفًا لجون كينيدي، ومنذ ذلك التاريخ لم نسمع عن خلافات تذكر بين البيت الأبيض والمجمع الصناعي العسكري، فقد كان دوايت أيزنهاور وجون كينيدي هما أكبر عقبتين في مسيرة المجمع للهيمنة على صناعة القرار العسكري الأمريكي حتى اليوم.

كيف يعمل المجمع الصناعي العسكري؟

إن وظيفة المتعاقدين أو متعهد البنتاجون هي وظيفية رسمية داخل وزارة الدفاع الأمريكية، وعبرها تقوم المؤسسة العسكرية الأمريكية بإسناد مهمة التعاقد مع شركات السلاح إلى شركات أو أفراد متخصصين في هذه المهمة، هذه الدائرة “البيروقراطية العسكرية” هي مفتاح سيطرة شركات السلاح الخاصة على توريد الأسلحة إلى الجيش الأمريكي، حيث أصبح سماسرة السلاح لهم مسمى وظيفي ويتم التعاقد معهم بشكل مؤقت أو دائم بحسب العقد بين الطرفين.

وفي حالة الحرب الأوكرانية الجارية اليوم، فإن الكونجرس الأمريكي أقر مبالغ هائلة من أجل شراء أسلحة من شركات السلاح الخاصة وإرسالها إلى الحكومة الأوكرانية، وهكذا فإن اندلاع الحرب الأوكرانية قد أنعش سوق السلاح الغربي وشبكات المصالح الغربية وشركات السلاح الخاصة، والمجمع الصناعي العسكري على وجه التحديد.

لا يوجد عضو واحد في الكونجرس الأمريكي وقف ليسأل الحكومة الأمريكية عن أولوية تقديم أموال الناخب الأمريكي لمشاريع البنية التحتية، أو نظام الرعاية الاجتماعية، أو حتى تسليح الجيش الأمريكي ذاته، ولكن تجري الموافقة بشكل جماعي وهستيري من أجل دفع المليارات لشركات المجمع الصناعي العسكري من أموال الناخب ودافع الضرائب الأمريكي من أجل إرسال تلك الأسلحة لأوكرانيا.

هذا المشهد تكرر عشرات المرات في سنوات الحرب الباردة، وفي سنوات ما بعد الحرب الباردة خاصة في حقبة الحرب على الإرهاب، في العراق وأفغانستان ولاحقًا القصف الجوي على أهداف بالصومال وباكستان والسودان واليمن، ثم حروب ما سمى بـ “الربيع العربي” حينما أرسلت واشنطن أطنانًا من الأسلحة لما أسمته بالثوار والمعارضة في ليبيا وسوريا.

إن واحدًا من أهم بنود قيام أمريكا بسن سياسة “التدخل لإدارة الحروب وليس إيقاف الحروب” هو استمرار تدفق السلاح على تلك الحروب، تمامًا كما جرى في الحرب بين الهند وباكستان في سبعينيات القرن العشرين، أو العراق وإيران في ثمانينيات القرن العشرين، أو حروب تفكيك يوغوسلافيا في تسعينيات القرن العشرين.

وتستفيد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها من هذه اللعبة، فلا يمكن للدولة الوسيط بين شبكات المصالح الغربية وتلك المكاسب أن تخرج بلا مكاسب سياسية أو حتى اقتصادية، إذ يقوم الجيش الأمريكي ببيع بعض أسلحته القديمة في هذه الصفقات كما جرى خلال الأيام الأولى للحرب الأوكرانية، كما أن الساسة الذين يقدمون الولاء الكامل والشامل لشبكات المصالح الغربية عمومًا والمجمع الصناعي العسكري على وجه التحديد يحظون بتمويل ودعم هائل في الحملات الانتخابية، سواء انتخابات الكونجرس أو انتخابات الرئاسة وانتخابات حكام الولايات وعمداء المدن الأمريكية وغيرها من الانتخابات الأمريكية.

ولعل اختيار أسلوب انتخاب كل مسؤولي الولايات المتحدة الأمريكية، أو لنقل “الديموقراطية الأمريكية”، كان الغرض منه أن صاحب التمويل الأكبر هو الفائز دائمًا، وبالتالي فإن الشركات القادرة على تمويل المرشحين للانتخابات كانت دائمًا هي الحزب الحقيقي لكل مرشح فائز في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية خاصة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وبينما العالم يقسم الكونجرس الأمريكي إلى حزبي الديموقراطيين والجمهوريين، فإن التقسيمة الحقيقية هي بين عشرات الشركات التي لها مصالح عابرة للقارات وكافة أعضاء الكونجرس ما هم إلا ممثلين لتلك الشركات وتم الاستيلاء على منصة التشريع الأمريكية ومصادرتها من يد الشعب الأمريكي لصالح شبكات المصالح الغربية بوجه عام والمجمع الصناعي العسكري على وجه التحديد.

إن ميزانية مجموعة لوكهيد مارتن وحدها تصل إلى 70 مليار دولار، ويعمل بها 114 ألف موظف، لوكهيد مارتن تمتلك جهاز مخابرات خاص بها، إلى جانب شركة قوات عسكرية خاصة أو لنقل جيش قطاع خاص يعمل على حماية مصالح لوكهيد مارتن على وجه التحديد، ومنتجات لوكهيد مارتن لا تتوقف عند التسليح فحسب ولكن تكنولوجيا الفضاء والاتصالات أيضًا، وتأسست عام 1995 وقامت بشراء عشرات الشركات العسكرية والمراكز البحثية وتحليل البيانات والمعلومات منذ ذلك الحين لتصبح أجنحة بحثية واقتصادية وتجارية تابعة للمجموعة.

تتحكم المراكز البحثية في لوبي ضخم داخل الكونجرس الأمريكي والصحافة والإعلام والبيت الأبيض على مر العصور، يتم استخدام تلك المراكز البحثية ومنتجاتها البحثية من أجل تشجيع الولايات المتحدة الأمريكية على ابتكار صراعات وحروب دولية لتزدهر صناعة السلاح.

وتعمل على صناعة أعداء للولايات المتحدة الأمريكية كل فترة وتسويقهم للرأي العام الأمريكي ثم الدولي من أجل تمهيد الأرض أمام صانع القرار الأمريكي لاتخاذ القرارات اللازمة لإثراء خزائن شبكات المصالح الغربية.

يقول ويليام هنتزبيرجر، مدير مشروع الأسلحة والأمن في مركز السياسة الدولية الأمريكي، أن “قعقعة السيوف الروسية لها فوائد إضافية لصانعي الأسلحة لأنها أصبحت جزءًا أساسيًا من الحجة الداعية إلى زيادة إنفاق البنتاجون، على الرغم من أن البنتاجون لديه بالفعل ما يكفي من المال لمواجهة أي تهديد حقيقي للولايات المتحدة “، وكتب الصحفي الروسي يفجيني فيودوروف، بصحيفة “فويينيه أوبزرينيه” الروسية أن الخمس الكبار في المجمع الصناعي العسكري وهم:

1 – لوكهيد مارتن.

2 – بوينج.

3 – جنرال دايناميكس General Dynamics

4 – رايثيون Raytheon

5 – نورثروب جرومان

قد ارتفعت قيمة أسهمهم بسبب الحرب الأوكرانية لـ 30 % على الأقل، وأن المجمع الصناعي العسكري يمول مركز الفكر للدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، الذي يغذي النزعة العسكرية لدى واشنطن والجمهور الأمريكي.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/69766/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M