المرونة التكتيكية للقاهرة والوصول لعتبة التسوية في ليبيا

رامي شفيق

 

تستجيب مصر بمرونة كافية لكافة المتغيرات التي تحيط بالشرق الأوسط، على مدار سنوات العقد الفائت، بينما تتماهى نحو ذلك بما راكمته من خبرات سياسية عرفت مفاصل التحول في النظام الإقليمي والدولي، وكذا ما يعتريه من أوقات الاضطراب وبؤر التوتر وساحات النزاع.

يقينًا؛ بدا للجميع أن الشرق الأوسط متخم بعديد من الأزمات التي تفجرت عبر سنوات العقد الفائت، مما أفضى إلى تذويب هيكل الدولة المستقرة التي اصطلح على هويتها منذ سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، في أكثر من موقع يحمل دلالة وارتكازًا استراتيجيًا صوب موجات الهزة التي تعصف بالنظام الدولي حاليًا، وما يرتبط به من درجة الأمن والاستقرار الإقليمي في المنطقة.

مثلما كانت الحرب الروسية الأوكرانية أحد أهم أعراض الأزمة في النظام الدولي، فقد كان مسرح الأحداث في ليبيا وتعقد عناصر الحل وتشابكها داخل تناقضات المصالح  بين الفاعلين سواء داخليًا أو دوليًا هو أحد أبرز تجليات الصراع داخل محددات النظام الإقليمي، بكل ما يتصل بمسارات صراع القوى الدولية ونفوذها في أكثر من موقع.

تدرك القاهرة أن خطواتها داخل متاهات الأزمة الليبية تتسق تمامًا مع درجة ليبيا في معادلة الأمن القومي المصري، وأن منسوب استقرارها يمضي في عقل الدولة المصرية بثبات لا يعرف التيه مطلقًا، استجابة لأكثر من عامل تقدره مصر صوب الحدود المشتركة وأهمية تأمينها وضبط نشاط الجماعات والتنظيمات الجهادية، فضلًا عن التشاركية في المحيط الجيوسياسي الخاص بشرق المتوسط.

نحو ذلك، تستطيع أن تتلمس انفتاح القاهرة عبر كافة الفاعلين ورعايتها للقاءات مباشرة بين كافة الأطراف بوتيرة تتسق مع رعاية القاهرة نحو ضرورة الوصول لحل يهيئ الاستقرار، مما يسمح بالوصول للاستحقاق الانتخابي الذي يفرض شكل وملامح الدولة القابضة على حدودها القادرة على فرض الأمن.

إن خطر ذوبان الدولة في محيط الشرق الأوسط يتسق مع تعاظم صراع نفوذ القوى الدولية داخل الجغرافيا العربية، وتسارعت وتيرته خلال السنوات الأخيرة كنتيجة مباشرة لرفض هيمنة القطب الواحد، الأمر الذي البادي لمن يعاين ما يدور على ساحة سوريا والعراق و ليبيا واليمن، مما يمثل خطرًا وتهديدًا لكافة دول المنطقة.

ثمة من يرى أن موسكو تعظم من القيمة الجيوسياسية لحضورها الاستراتيجي في سوريا عن أي قيمة تدركها في ليبيا، وأن الأولى نقطة كبرى في عقل الدب الروسي لا يمكنه التنازل عنها أو التغاضي عن المفاعيل التي يمتلكها إزاءه، بينما الأمر جد مختلف في ليبيا؛ إذ لا يعدو كونه حضورًا تكتيكيًا يمكنه من توظيف أدواته لتحقيق مصالحه أو الضغط على خصومه. غير أن واقع الأحداث يكشف مدى أثر الحضور الروسي داخل ليبيا في الرؤية الكلية للولايات المتحدة الأمريكية، وكيف تدرك الأخيرة أن ليبيا تمثل محطة فارقة نحو مساحات جغرافية أفريقية، الأمر الذي بدا واضحًا مع فاعلية تحركاتها الأخيرة وممارسة الدبلوماسية النشطة على كافة الجهات.

إلى ذلك، يبدو من المهم فهم سياق تجليات الأيام الأخيرة على مسرح الأحداث في ليبيا، وتحسس الألم جراء الأطراف الحادة والمدببة التي سار عليها كافة ممثلي الأجسام السياسية الفاعلة في ليبيا، وكذا تحولات المواقف وتبدلها، خاصة فيما بين رئيس مجلس النواب المستشار عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، فضلًا عن ظهور رئيس المخابرات التركية مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية عبدالحميد الدبيبة وخالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة وعبدالله اللافي والصديق الكبير محافظ المصرف المركزي في لقاء بالعاصمة الليبية طرابلس، ثم اجتماع آخر جمع المستشار عقيلة صالح رئيس مجلس النواب والقائم بالأعمال بسفارة الولايات المتحدة الأمريكية في ليبيا ليزلي اوردمان في مكتبه بديوان عام مجلس النواب قبل جلسة مجلس النواب الأخيرة، بينما موسكو تتحرك هي الأخرى نحو خطوات لتطبيع العلاقات مع حكومة الوحدة الوطنية، وقد أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسومًا رئاسيًا بتعيين الدبلوماسي أيدار أغانين سفيرًا لبلاده لدى طرابلس.

يمكن القول إن كافة المؤشرات الأخيرة المرتبطة بتحركات واشنطن تحديدًا  تكشف بعمق عن عديد  الإشارات نحو صياغة مقاربة أمريكية  للأزمة في ليبيا تحمل في جنباتها عناصر ضاغطة على كافة الفاعلين المحليين لحسم العالق من الملفات السياسية والأمنية بشكل عاجل ووضع الجميع أمام ارتباطاتهم ومسؤولياتهم.

إن المضي في فضاء الأزمة الليبية دون إنجاز حاسم يمنح الخصوم مساحات حركة، الأمر الذي ترى واشنطن أنه يحمل مخاطر على المصالح الأمريكية في المرحلة القادمة، وهو ما لا ينبغي قبوله خاصة مع تطور الحالة العسكرية على مسرح الأحداث في أوكرانيا والتقدم الذي تحرزه قوات فاجنر الروسية ميدانيًا.

القاهرة التي تغوص عميقًا في الأزمة الليبية تدرك منذ أمد بعيد صعوبة الرهان على طرف واحد بغية بلوغ عتبة التسوية، مرة لتعدد الفاعلين سواء إقليميًا أو دوليًا، وأخرى ترتبط بطبيعة المكون القبلي في التركيبة الاجتماعية الليبية، وما يتصل بها عبر مناطق جغرافية محددة تملك الأثر اللازم والتأثير الفاعل في مجريات الاحداث.

لذلك تصر القاهرة وهي تمضي في إطار تسوية الأزمة وتفكيك عناصر التعقد والتشابكات على أمور محددة ينبغي منحها الأهمية القصوى، وخاصة خروج كافة القوات الأجنبية، وتفكيك الميلشيات والكتائب المسلحة ودمجها داخل إطار القوات المسلحة الوطنية، وحصر السلاح داخل قبضة الدولة. ومن ناحية أخرى، ضرورة الحفاظ على استقلالية الحل الليبي، وأن يظل ذلك رهن تطلعات الشعب الليبي دون فرض أي حل أو ترتيبات تثقل أحلامه وتطلعاته لبناء مؤسسات الدولة السيادية عبر التقاء الرؤى وممثليها من كل الفاعلين السياسيين الرئيسين في ليبيا، سواء من الشرق أو الغرب أو من الجنوب للتشاور في نطاق إقليمي ودولي  يسعى نحو فض الاشتباك مع الأزمة والوصول لمسار إعداد الوثيقة الدستورية وبناء الجيش الوطني الليبي والانطلاق نحو رؤية ليبية – ليبية للحل من خلال الانتخابات، دون غض البصر عن مجمل التحديات التي تجابه تلك التصورات وتقف أمام تجاوزها.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/75125/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M