المشهد البريطاني: خروج بريطانيا دون اتفاق – الخيار الأصعب أمام الأوروبيين

بعد تولي رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون لمهامه مؤخرًا، أشار إلى أن من أولوياته الرئيسية تحقيق البريكست حتى وإن كان بدون اتفاق مع الاتحاد الأوروبي([1])، وهو الأمر الذي فشلت في تحقيقه رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي وكان أحد أهم الأسباب التي أدت لاستقالتها.

بالمقابل تسود حالة من الترقب بين الأوساط السياسية البريطانية والأوروبية حول خطة العمل التي سيقدمها بورس جونسون بخصوص الخروج من الاتحاد، خصوصًا وأن ملفات معقدة اقتصادية وسياسية وأمنية عسكرية ترتبط بمصير بريطانيا كدولة عظمى، قد تتأثر بخروجها من الاتحاد إذا لم يكن مدروسًا بالشكل الكافي أو إن حصل الخروج بدون اتفاق مع بقية الحلفاء والشركاء.

لذلك فإن خيارات بريكست بالنسبة لبريطانيا لا تزال غير واضحة أمام إصرار أوروبي على ضرورة التوصل إلى وثيقة أولية على الأقل مع بريطانيا تتيح للأوروبيين تجاوز العقبات التي سيخلفها البريكست. الذي قد تكون نتائجه عالية المخاطر على مستقبل الاتحاد الأوروبي الذي يواجه عدة ملفات مصيرية منها: أزمة اللاجئين وصعود اليمين المتطرف، ونمو العنصرية في المجتمعات خصوصًا في أوروبا الشرقية ومنها بولندا وهنغاريا. ما ينذر بعودة انقسام الاتحاد الأوروبي إلى شرقي وغربي.

بالإضافة إلى ملفات خارجية كمستقبل الاتفاق النووي مع إيران وحماية المصالح الاستراتيجية الاقتصادية للاتحاد الأوروبي في الخليج العربي، وطبيعة العلاقة الاقتصادية والسياسية مع الولايات المتحدة سيما بعد انسحاب الأخيرة من الاتفاق النووي واتفاقية التجارة العالمية.

وبناء على ما سبق فإن هناك تداعيات وانعكاسات عدة ستطرأ على بريطانيا داخليًا وخارجيًا من جهة، وعلى تماسك وبقاء الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، ولذلك فإن عملية البريكست يمكن اعتبارها بوابة للدخول في مرحلة انعطاف جديدة لمستقبل الاتحاد إذا تمت.

آثار البريكست دون اتفاق على المملكة المتحدة

سيترتب على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاق عدة إشكاليات عالية المخاطر منها:

مخاطر اقتصادية

سيؤدي بريكست دون اتفاق إلى انعكاسات سلبية على قيمة الجنيه الإسترليني الذي قد يصل إلى مستويات متدنية في أسعار الصرف أمام الدولار وبحسب التوقعات سينخفض إلى نسبة 15% مقابل الدولار -وهو ما لا يرغب به الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الذي “أبدى عدم سعادته من قوة الدولار أمام العملات الأخرى”([2])-. وعلى الرغم من صعود الجنيه بشكل عام بعد التصويت الشعبي على قرار الخروج عام 2016، والتوقعات التي أشارت إلى أن حالة العملة ستصبح أكثر قوة إذا تم الخروج باتفاق لأن  استثمارات الشركات ستشهد موجة انتعاش ما سيؤدي إلى ارتفاع الجنيه الإسترليني ليضغط على معدلات التضخم، ما سيرفع من قيمته([3])، إلا أن تبعات الخروج بدون اتفاق تتعارض إلى حد كبير مع تحسين مستوى العملة لأن مصير الشركات الأوروبية في بريطانيا سيصبح أكثر تعقيدًا إلى حين إيجاد صيغ قانونية ملائمة لوضعها، عدا عن ضبابية ملف الاستيراد والتصدير، مما سيؤدي بالمجمل إلى إضعاف قيمة الجنيه وبأسوأ الأحوال قد يصل مستواه إلى معدلات منخفضة غير مسبوقة تماثل ما حصل في الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008([4])، وحينها حاصرت المخاطر المستثمرين الذين كانوا يخشون انهيار القطاع المالي نتيجة ما واجهته المصارف؛ لذلك فإن الخروج بدون اتفاق سيشكل خطرًا حقيقيًا على مستقبل الجنيه، وسيتعارض مع سياسة الحكومة البريطانية السابقة برئاسة تيريزا ماي التي أعلنت في أواخر 2018 عن عزم حكومتها إنهاء سياسات التقشف التي خفضت التكاليف، والتي اتبعتها بعد الأزمة المالية العالمية في 2008([5]).

وعليه فقد حذر حاكم بنك إنجلترا المركزي مارك كارني من أن “الخروج دون اتفاق سيشكل صدمة فورية على الاقتصاد لأنه لن يعود بإمكان بعض الشركات القيام بعملها وتحقيق أرباح، وسوف يتسبب ذلك بانهيار الجنيه الإسترليني بسبب ارتفاع أسعار السلع المستوردة مثل البنزين والمواد الغذائية فجأة ما سيؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم التي ستؤثر بدورها على مستوى العملة”([6]).

وبالنسبة لقطاع الوظائف، سيسبب الخروج دون اتفاق فقدان 600 ألف شخص وظائفهم حول العالم، حيث إن “ما يقارب 180 ألف وظيفة في شركات التصدير التي تنقل البضائع والسلع إلى بريطانيا تواجه التهديد، بالإضافة إلى وجود 433 ألف عامل آخرين في الاتحاد الأوروبي وحول العالم سيتأثرون كذلك، لكونهم يعملون في شركات تصدر إلى بريطانيا”([7]).

وفيما يتعلق بقطاع الصناعة والخدمات، بحسب توقعات صندوق النقد الدولي فإن قطاع صناعة الكيماويات ومعدات النقل –على سبيل المثال- سيتأثر نظرًا لاحتمال حدوث زيادات كبيرة في الحواجز التجارية، وقد تتعرض المنتجات إلى الانقطاع بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي. وبالنسبة لقطاع الخدمات المالية من المتوقع أن تنخفض أرباحه بنسبة تصل إلى 15%، لأنه سوف تحتاج الشركات التي تقوم بالخدمات المالية إلى إنشاء فروع تابعة في الاتحاد الأوروبي لمواصلة تقديم بعض هذه الخدمات([8]).

مخاطر سياسية

أحدث البريكست حالة استقطاب سياسي كبيرة داخلية بين الأحزاب المؤيدة للخروج والأحزاب المعارضة له، لكن الأمر لا يتوقف فقط عند هذا الحد بل إن دولًا مثل اسكتلندا وإيرلندا الشمالية التي تتبع للمملكة المتحدة تواجه مصيرًا مجهولًا حول علاقاتها بدول الاتحاد الأوروبي وارتباطها السياسي بلندن، حيث اعتبرت رئيسة وزراء اسكتلندا، نيكولا ستورجن مؤخرًا، أن “الموقف الذي اتخذته الحكومة يجعل من الصعب للغاية رؤية آلية لإبرام أي صفقة مع الاتحاد الأوروبي، وأعتقد أن ذلك سيكون كارثيًا بالنسبة لإسكتلندا وللمملكة المتحدة بأكملها”. وطالبت قبل ذلك بإجراء استفتاء ثان حول استقلال بلادها عن المملكة المتحدة([9]).

في حين حذرت حكومة إيرلندا العضو في الاتحاد الأوروبي والتي تضم مقاطعة إيرلندا الشمالية التابعة للملكة المتحدة، من “خروج الأخيرة من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاق، والذي يمكن أن يؤدي إلى إعادة توحيد جزيرة إيرلندا والإضرار بالمملكة المتحدة”([10]). وقد يؤدي ذلك أيضًا إلى تأجيج الاحتجاجات في إيرلندا جراء بناء حواجز على الحدود بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا. من جهة أخرى ترتبط إيرلندا اقتصاديًا “بشكل وثيق مع بريطانيا بسبب عوامل الجغرافيا والتاريخ واللغة والروابط المشتركة الأخرى، ويتوقع أن يتأثر ناتجها المحلي الإجمالي بأكثر من 10% في حال حدث البريكست بدون اتفاق”([11]).

لذلك فإن التعهدات التي أطلقها بوريس جونسون في تموز/يوليو الماضي، بتوحيد المملكة المتحدة من خلال تحقيق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتقديم حزمة اقتصادية بقيمة 300 مليون دولار للدول الأربع التي تشكل المملكة([12]). يبقى مثار شكوك عن إمكانية تحقيقه في ظل الخلافات المتصاعدة بين دول المملكة المتحدة التي قد تتفكك جراء سياسات حكومة لندن وتؤدي إلى إضعاف قيمة بريطانيا العالمية كدولة عظمى ومؤثرة في مسار السياسات الدولية.

تداعيات البريكست دون اتفاق على الاتحاد الأوروبي

اقتصاديًا يرتبط 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي لدول الاتحاد بالصادرات إلى المملكة المتحدة. كما أن دول الاتحاد تستوعب 44% من صادرات بريطانيا و60% من إجمالي تجارة المملكة المتحدة مشمولة بعضويتها في الاتحاد، مما يمنحها الوصول إلى 53 سوقًا خارج التكتل. كما تعتبر بريطانيا أحد أهم الوجهات الرئيسية الاستثمارية لبقية دول أوروبا بفضل المرونة القانونية وسهولة وصول المنتجات المصنعة بها إلى السوق الأوروبية الموحدة الذي يضم أكثر من 500 مليون عميل([13]). وعليه فإن خروج لندن بدون اتفاق مع الأوروبيين سيدفع الشركات الأجنبية إلى الانسحاب من السوق البريطانية، وقد حدث ذلك بالفعل بشكل جزئي حين أغلقت ما لا يقل عن 50 شركة مقارها في بريطانيا بسبب المخاوف من غموض اتفاق البريكست([14])، وهذا يعني تأثر قطاع الاستثمار لدول الاتحاد الأوروبي بشكل سلبي مباشر بحيث سيؤدي ذلك إلى انخفاض عوائدها، وفرض رسوم جمركية غير معلومة المقدار إذا تم خروج بريطانيا دون اتفاق، أي أن عجلة الاستيراد والتصدير وحجم التبادل التجاري ستتضرر فيما بين دول الاتحاد.

أما أمنيًا فيواجه الاتحاد مخاطر عديدة في مقدمتها، أن تسلم اليمين المحافظ لزمام السلطة في بريطانيا وتبنيه سياسات غير واضحة المعالم، أدى إلى استثمار اليمين المتطرف بدول أوروبا لهذه الحالة وتوظيفها لبناء قاعدة جماهيرية له، وهو ما يحدث حاليًا في أوروبا الشرقية التي بدأت تتصاعد فيها دعوات لانفصال أوروبا الغربية عن الشرقية، مثل بولندا التي تسلمت فيها حكومة يمينية محافظة مقاليد السلطة وبدأت تظهر فيها خطابات “الديانة الكاثوليكية لاستغلالها في تشجيع الميول الوطنية، من مثل تفوق البولنديين على الدول الأخرى”. ومثل هنغاريا أيضًا التي ينتشر بها خطاب الكراهية والتعصب بشكل كبير والمدعوم من رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان، الذي عٌقدت من أجل سياساته جلسة خاصة لكتلة المحافظين الأكبر في البرلمان الأوروبي لمناقشة مستقبل عضويته فيه([15]).

ولا تقتصر المخاطر على ما سبق فحسب، بل بدأ الأوربيون يستشعرون أن الاتحاد بات أمام خطر التفكك وقد اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن أوروبا باتت “معرضة لارتهان أمنها بالخيارات الأميركية وتقلباتها، وتصاعد حضور صيني متزايد في البنى التحتية الأساسية، وعرضة أيضًا لميل روسيا إلى تدخل وتضليل، إضافة إلى مصالح مالية كبرى وأسواق تتجاوز مكانة الدول أحيانًا”([16]). ولذلك فإن خروج بريطانيا من الاتحاد وخصوصًا دون اتفاق سيؤدي إلى إضعاف الحلف الكلاسيكي بين الدول الكبرى الأوروبية (ألمانيا-فرنسا-بريطانيا) بالتالي ستزداد الأعباء أمام باريس وبرلين لمواجهة ملفات وقضايا مرتبطة بالأمن الأوروبي ومنها حماية المصالح الاستراتيجية في الخليج العربي ومضيق هرمز وطبيعة العلاقة مع إيران. لذلك إن التساؤل المطروح هل سيتكمن الاتحاد الأوروبي من تجاوز عقبة بريكست والحفاظ على وحدته؟ وهل ستبقى بريطانيا دولة مؤثرة في مسار السياسات والاستراتيجيات العالمية بعيدًا عن التكتل الأوروبي؟

([1]) “رئيس الوزراء البريطاني لا يستبعد “بريسكت بدون اتفاق”. الأناضول، 25-7-2019. https://bit.ly/2zdJHYm

“ما هو اتفاق بريكست؟”. بي بي سي، 18-11-2018. https://bbc.in/2wRklhU

([2]) “ترامب يبدي “عدم سعادته” بقوة الدولار نتيجة سياسات الفيدرالي”. الأناضول، 8-8-2019. https://bit.ly/2ZiSPFN

([3]) “تعرف على مستقبل الجنيه الإسترليني في حالة تمرير اتفاق البريكست”. سي إن إن، 15-11-2018. https://cnn.it/2DrANd9

([4]) “خروج بريطانيا.. هل يكرر الأزمة الاقتصادية العالمية”. العربي الجديد، 25-6-2016. https://bit.ly/2KLIY7B

([5]) “بريطانيا تعتزم إنهاء سياسة التقشف المستمرة منذ 10 أعوام”. الأناضول، 3-10-2018. https://bit.ly/2ZhkgE0

([6]) “بنك انكلترا يحذر من “صدمة فورية” للاقتصاد في حال بريكست بدون اتفاق”. صحيفة الحياة اللندنية، 2-8-2019. https://bit.ly/2KXFspn

([7]) “بريكست دون اتفاق.. تراجع اقتصاد بريطانيا وفقدان آلاف الوظائف”. الجزيرة نت، 28-3-2019. https://bit.ly/2UeiYqV

([8]) “مسار غير متوازن في الفترة المقبلة: أثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على مختلف القطاعات في اقتصاد المملكة المتحدة”. صندوق النقد الدولي، 6-12-2018. https://bit.ly/2ZcEvTr

([9]) “رئيسة وزراء اسكتلندا: عواقب استراتيجية حكومة جونسون في “بريكست” خطيرة”. يورونيوز، 30-7-2019. https://bit.ly/2Z7mvdX

([10]) “اقتصاد  أيرلندا تحذر من مخاطر بريكست بدون اتفاق”. العين الإخبارية، 28-7-2019. https://bit.ly/2NleCKE س

([11]) “بريكست: “فوضى وغلاء وشح في الطعام والدواء” حال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق”. بي بي سي، 18-8-2019. https://bbc.in/2z2hGTJ

“10 دول الأكثر تأثرًا بالـ Brexit.. تعرف عليها”. العربية نت، 13-2-2018. https://bit.ly/33LQOFB

([12]) “جونسون يتعهد بتوحيد المملكة المتحدة من خلال “بريكست”. الأناضول، 30-7-2019. https://bit.ly/2Z4c4Yt

([13]) انظر المرجع رقم (5).

([14]) “بريكست: سوني تنضم إلى الشركات الكبرى التي تنقل مقارها من بريطانيا بعد إتمام خروجها من الاتحاد الأوروبي”. بي بي سي، 23-1-2019. https://bbc.in/2WdiEa0

“42شركة تنتقل من بريطانيا إلى هولندا بسبب غموض “بريكست”. العربي الجديد، 9-2-2019. https://bit.ly/2I4FfT0 .

([15]) “كيف تستخدم الشعارات الدينية لتغذية التطرف الديني في بولندا؟”. يورونيوز، 11-7-2018. https://bit.ly/33LSX4a

“البرلمان الأوروبي يصوّت اليوم حول عضوية رئيس وزراء المجر المتشدّد وحزبه “فيديز”. العربي الجديد، 20-3-2019. https://bit.ly/2FoJqWE

([16]) “ماكرون ينبّه من خطر «تفكك» أوروبا”. صحيفة الحياة اللندنية، 2-11-2018. https://bit.ly/2MtJ5GC

 

رابط المصدر:

https://barq-rs.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D9%87%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%AE%D8%B1%D9%88%D8%AC-%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A7-%D8%AF%D9%88%D9%86-%D8%A7%D8%AA/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M