حياد تكتيكي: بين روسيا والغرب.. إلى من تنحاز الصين في الأزمة الأوكرانية؟

 نرمين سعيد

 

ليست الصين طرفًا في الأزمة الأوكرانية الحالية ولكنها دومًا تكون واحدة من أهم الأطراف التي تقفز إلى مناطق الأزمات في محاولة لانتزاع المصالح وملء الفراغات. وعلى الرغم من كون بكين ليست طرفًا أساسيًا، إلا أن هذا ليس كافيًا لنفي كون هذه الأزمة مهمة جدًا لها: لأنها ببساطة تؤسس لتغيير ضخم في النظام العالمي على خلفية حدوث حراك داخل أوروبا لم يحدث منذ الحرب العالمية الثانية.

وبطبيعة الحال فإن قوة كبيرة مثل الصين ينبغي أن تكون لها حساباتها بخصوص ما يدور في العالم اليوم بمنطق التكاليف والمكاسب. وقد أطلقت بالفعل بعض الإشارات في الأيام الأولى للأزمة، ولكنها إشارات لا تنقلها من خانة الحياد إلى الدعم المطلق لروسيا أو الغرب- فرفضت من جانبها وصف العملية العسكرية الروسية بالغزو، ما يعكس تفهم المخاوف الأمنية لموسكو، ولكنها أكدت أنها تحترم سيادة أوكرانيا في نفس الوقت، وعلى جانب آخر رفضت التصويت لمشروع قرار يدين روسيا في مجلس الأمن الدولي كونها من الأعضاء دائمي العضوية، وكذا دعت الخارجية الصينية الجميع إلى الانخراط في عملية المفاوضات.

دلالات الموقف الصيني “الحيادي” حتى الآن

 تنظر بكين للأزمة الحالية في أوكرانيا بوصفها وسيلة إلهاء مهمة للغرب وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة الأمريكية التي انخرطت منذ وصول جو بايدن للبيت الأبيض في سياسات الاتجاه لمنطقة الإندوباسيفبك، وتعزيز وجودها في منطقة بحر الصين الجنوبي، إلى حد إنشاء تحالف أوكوس للحد من نفوذ بكين هناك.

ولما كانت واشنطن قد سعت مسبقًا بانسحابها الفوضوي من أفغانستان إلى جعل البلد بؤرة توتر وإرهاب للصين ودول أخرى فإن بكين لن يزعجها بالتأكيد أن تكون الولايات المتحدة منشغلة في مناطق أخرى. خصوصًا أن الصين ترى أن عودة سياسة التحالفات القائمة على أساسات أمنية على وجه التحديد تزيد من حدة الاستقطاب في مجتمع دولي شديد التوتر من الأساس. وفي هذا الإطار فربما تنعكس حالة الرصانة الصينية في السياسات الخارجية على سير الأمور في الفترة المقبلة عن طريق دعمها لعملية التفاوض.

– تمتلك الصين حالة مشابهة للحالة الروسية فيما يتعلق بالوضع في تايوان، وبالتالي فإنها يمكن أن تتخذ من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أساسًا يبنى عليه في تعاملها مع تايوان إذا ما تعالت الاستفزازات الغربية المتعلقة بالمنطقة التي تراها الصين جزءًا من أراضيها، وهو ما عادت السلطات في بكين وكررته وقت أن اشتعلت الأزمة الأوكرانية.

ولكن الصين هنا تتعامل مع الأمر بشكل حذر ليس فيما يتعلق بالمخاوف الأمنية للروس ولكن في الأساس الذي بني عليه استقلال دونيتسك ولوهانسك في دونباس لأن الأساس الذي قام عليه مرتبط بتحدث سكان تلك المناطق للغة الروسية وانتمائهم للقومية الروسية، وهو ما يشكل خطرًا على الصين التي تتعدد فيها اللغات والقوميات. مع الوضع الحسبان أنه إذا كانت موسكو عبرت عن صلابتها في مواجهة العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب عليها، فالأكثر وقعًا أن الصين وهي التي تمتلك اقتصادًا أضخم وأقوى لن تأبه كثيرًا بالعقوبات التي سوف تفرض عليها إذا حان حديث البنادق- ولكن علينا أن نذكر هنا أن الوضع بين الصين وتايوان يشهد حالة من الاستقرار النسبي في الوقت الحالي.

 تحظى بكين بعلاقات جيدة مع كييف وتعد شريكًا تجاريًا مهمًا لها، علاوة على أن أوكرانيا توفر فرصة تجارية مهمة لمبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين. ويصل حجم التجارة البينية بين البلدين في 2020 وحده حوالي 16 مليار دولار. الأمر الذي يفسر تصريحات بكين عن سيادة كييف.

ومن هنا فإن بكين وفي الوقت الذي تنتظر فيه انتهاء الأزمة التي قد يطول أمدها لتحدد إلى أي الأطراف تميل ستحرص على إيجاد حالة من الغموض التكتيكي الذي يكسبها المزيد من القوة في تحركاتها المستقبلية.

وفي هذا الإطار، هناك سيناريوهان بعد انقضاء الأزمة- الأول يرجح أن تختار الصين كفة الروس لعدد من الأسباب التي ربما تبدو ظاهريًا أكثر أهمية إلا أن هناك أسباب أخرى ترجح السيناريو الثاني وهي دوافع طويلة الأمد من الناحية الاستراتيجية.

السيناريو الأول: انحياز بكين لموسكو:

– هناك سابقات يمكن البناء عليها في موقف بكين من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا؛ في عام 2014 عندما قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم امتنعت الصين عن التصويت ضدها، بل أنها اتخذت مواقف اقتصادية متقاربة معها عن طريق توقيع اتفاقيات متعلقة بقطاعات الطاقة، والكهرباء، والطيران، والاتصالات السلكية واللاسلكية، ومجالات أخرى.

ومنذ ذلك التوقيت الذي يعد علامة فارقة في التعاون الاقتصادي بين روسيا والصين استمرت العلاقات في التنامي، إذ حققت الواردات الصينية من روسيا قفزة لترتفع إلى مستوى قياسي بقيمة 79 مليار دولار خلال السنة الماضية، مدعومة في الأغلب بمشتريات الطاقة. وتعتبر الصين كذلك سوقًا رئيسة بالنسبة لروسيا، إذ قامت بشراء 17% من صادراتها في سنة 2020، لتأتي بعد أوروبا فقط في الترتيب.

– وفي هذا السياق يمكننا الإشارة إلى أن المعاملات الاقتصادية بين البلدين تتم بالدولار ولكن بشكل ” متراجع” حيث تبذل روسيا جهودًا من أجل الحد من دور الدولار في اقتصادها وتجارتها منذ توقيع العقوبات عليها بسبب أزمة شبه جزيرة القرم. وانعكاسًا لذلك فقد تراجعت حصة الدولار من احتياطيات النقد الأجنبي في روسيا التي تبلغ 640 مليار دولار لتصل إلى 16% في سنة 2021 بدلًا من 46% في سنة 2017.  ومقارنة مع ذلك- فقد صعدت حصة اليوان في الاحتياطيات الأجنبية الروسية إلى نسبة 13% بدلًا من نسبة بلغت أقل من 3% في نفس الإطار الزمني. كما أن موسكو نجحت في تطوير نظام “مغلق ” للرسائل المالية على غرار نظامي” سويفت” و” فيدواير”.

وعلى أي حال لا يزال النظام الروسي للتعاملات المالية محدودًا في نطاق اعتماده، إلا أن كون روسيا رابع دولة في العالم من حيث احتياط النقد الأجنبي الذي يصل لأكثر من 640 مليار دولار سيخفف من أثر العقوبات الاقتصادية عليها. ومن هنا نذكر أنه من مصلحة الصين أيضًا المضي قدمًا في التجديف بعيدًا عن النظام المالي العالمي الذي تسيطر عليه واشنطن عن طريق ما يعرف بمقاصة نيويورك، والتعامل في التجارة البينية مع روسيا بالروبل واليوان.

– على جانب آخر، فإن الأزمة الضاغطة التي سيشكلها الخروج من نظام سويفت على سوق الطاقة الروسية يمكن محاولة إيجاد بديل لها؛ إذ تعد بكين سوقًا مستهلكة مهمة للطاقة الروسية، وخلال زيارة بوتين إلى بكين مطلع هذا الشهر للمشاركة في افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية وعقد لقاء قمة مع الرئيس الصيني شي جين بينج، تم التوقيع على عدة اتفاقات من بينها زيادة صادرات النفط والغاز الروسية للصين على مدى السنوات العشر المقبلة.

وذكرت وسائل الإعلام المحلية في روسيا أن الصفقة الأخيرة لتصدير النفط الروسي للصين على مدى عشر سنوات تصل قيمتها إلى 80 مليار دولار. وتم التوقيع كذلك على اتفاق آخر لتوريد عشرة مليارات متر مكعب من الغاز سنويًا للصين ترفع إمدادات روسيا للصين إلى 48 مليار متر مكعب من وضع الإمدادات الحالي.

 إضافة إلى ذلك، فإن الصين تجيد إلقاء الطوق بعيدًا، وتدرك أن انحيازها إلى روسيا اليوم يضمن لها الدعم الروسي إذا ما ساءت الأمور واضطرت مستقبلًا إلى اجتياح تايوان؛ إذ ترى بكين ما يحدث اليوم في أوكرانيا بالون اختبار للأمريكيين والأوروبيين في سقف تدخلاتهم العسكرية لحماية سيادة منطقة أخرى.

وتعول بكين على دعم موسكو كثيرًا في هذا السياق، فقد أثمر التعاون العسكري المتصاعد بين بكين وموسكو عن إجراء مناورات وهمية مشتركة لعملية غزو تايوان باستعمال الأسلحة التكتيكية النووية، مع الأخذ بعين الاعتبار فرضية تدخل أمريكي مباشر يواجه تدخل روسي مباشر. وبطبيعة الحال فإن الهدف من الإعلان عن هذه المناورات يقصد منه إظهار القوة أو التلويح باستخدامها.

 وفي اعتبارات أخرى تنظر بكين إلى روسيا بوصفها سوقًا أساسية لتكنولوجيا الجيل الخامس التي فقدت العديد من نطاق أعمالها بعد أن عمدت واشنطن إلى وضع ضوابط على هذه النوعية من الواردات من الصين.

 ربما يدفع الصين أيضًا إلى موقف أكثر تحيزًا لروسيا أن البلدين عضوتان في مجموعة دول “البريكس” التي تضم أيضًا “البرازيل- الهند-جنوب أفريقيا”؛ فالتوافق الروسي الصيني اقتصاديًا وانفتاحه على دول أخرى جعل النظام الاقتصادي العالمي الحالي يعيش مرحلة انتقالية، بحيث تعيد دول “البريكس” إرساء قواعد هذا النظام العالمي الجديد بعيدًا عن إيقاع اللاعبين التقليديين الذين أرسوا نظامًا عالميًا غير عادل، ولا يسمح بأي دور يمكن أن تضطلع به قوى صاعدة غيرها.

السيناريو الثاني: انحياز بكين للغرب “الولايات المتحدة وأوروبا”: 

 وضعت العملية الروسية العسكرية في أوكرانيا الصين في موقف حرج- وهي التي طالما اعترضت على مبدأ التدخل بالقوة العسكرية لتغيير الأنظمة السياسية وتنصيب أنظمة حليفة.

 تتخوف الصين من أن تصبح عرضة للكثير من العقوبات الاقتصادية التي تضعف اقتصادها في حال أظهرت الدعم لروسيا وألا يتم إعفاء تعاملاتها الاقتصادية مع موسكو من العقوبات مثلما حظيت بميزة نسبية فيما يخص التعاملات التجارية مع إيران.

 عمومًا، يبدو أن الصين تضع لنفسها سقفًا فيما يتعلق بما يمكن أن تتغاضى عنه عندما تكون موسكو هي المعنية، فبكين البراجماتية والتي تريد الوصول إلى اتفاق تجاري أو اقتصادي شامل مع الدول الأوربية ربما تخشى التعرض للعقوبات حال تقاربها بشكل أكبر مع روسيا، فضلًا عن أنها قد تحرم من وضعها كشريك تجاري مميز للقارة العجوز. ولكن في نفس الوقت فإن المواقف الأوروبية متفاوتة من العقوبات الاقتصادية على الصين ليس بين البلد والآخر بل داخل البلد الواحد؛ فقد رفضت بعض الولايات الألمانية الانخراط في مسألة العقوبات الاقتصادية على الصين لما لذلك من تأثير على عملية شراء الغاز. ومن جانب آخر قد لا تكون الصين راغبة في رفع مستوى التوتر مع واشنطن خصوصًا إذا لم تكن الأزمة أزمتها. وبالمقارنة فإن الأهمية الاقتصادية لروسيا تتضاءل بالنسبة للدول الغربية، التي تعد سوقًا أهم للصادرات الصينية، والتي تتحكم بدورها أيضًا في وصول بكين إلى نظام الدولار العالمي.

– والأهم من ذلك أن الصين بنت استراتيجيتها لرسم مستقبلها كقوة عظمى على الاشتباك التجاري مع العالم وآسيا الوسطى، ولا شك أن دول ما بعد الاتحاد السوفيتي هي جزء أساسي من هذا المشروع، والسماح لروسيا بالهيمنة على هذا الفضاء الجيوسياسي سيجعل مشروع الصين تحت رحمة روسيا، وهو أمر مربك لا يمكن للصين ذات الطموح الجامح أن تتقبله.

 وفي حال إذا قررت الصين اختيار كفة الغرب، تبقى لروسيا بدائل مهمة يمكن التعويل عليها- منها على أقل تقدير السلاح الروسي الرائج في المنطقة العربية بعد الفجوة التي خلفها تراجع الشراكة مع الولايات المتحدة الأمريكية خصوصًا في العواصم الخليجية.

إجمالًا، فإنه من الصعوبة وفي ظل ما تقدم من معطيات أن تأخذ الصين خطوات سريعة في ترجيح إحدى الكفتين؛ لأن الأزمة الحالية متشعبة وبالغة التعقيد بشكل لا يسمح برسم حدود واضحة بين التكاليف والمكاسب، ولذلك فإن بكين لو استطاعت الحفاظ على الحياد التكتيكي ستكون رابحة بلا شك بعد انتهاء الأزمة التي تكرس لنظام تعدد الأقطاب، لأنها ستكون أحد هذه الأقطاب المهيمنة.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/67833/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M