لماذا تشكل الأخلاق أي أهمية في السياسة الخارجية

جوزيف ناي

كمبريدج ــ عندما أخبرت صديقة لي أنني انتهيت للتو من تأليف كتاب يتناول الأخلاق والسياسة الخارجية، قالت مازحة: “لابد أن يكون كتابا قصيرا للغاية”. الواقع أن هذا التشكك أمر شائع. يُظهِر البحث على شبكة الإنترنت عددا قليلا إلى حد مدهش من الكتب التي تتناول مدى تأثير وجهات نظر رؤساء الولايات المتحدة الأخلاقية على سياساتهم الخارجية. وكما وصف المنظر السياسي البارز مايكل والتزر ذات مرة تدريب الخريجين الأميركيين في مجال العلاقات الدولية بعد عام 1945، فقد “كانت الحجة الأخلاقية ضد قواعد الانضباط كما كانت تمارس على نحو شائع”.

تبدو أسباب التشكك واضحة. ففي حين كتب المؤرخون عن الاستثنائية الأميركية والأخلاقيات، دأب الدبلوماسيون الواقعيون مثل جورج ف. كينان ــ الذي يُعَد أب عقيدة “الاحتواء” الأميركية إبان الحرب الباردة ــ على التحذير من الجانب السلبي للتقاليد الأخلاقية القانونية الأميركية. فالعلاقات الدولية عالَم تحكمه الفوضى؛ فلا توجد حكومة عالمية لفرض النظام. ويتعين على الدول أن تعمل على توفير سبل الدفاع عن ذاتها، وعندما يكون البقاء على المحك، فإن الغايات تبرر الوسائل. وعندما يغيب أي اختيار معقول، فمن غير الممكن أن يكون للأخلاق أي دور. وكما يقول الفلاسفة، فإن “الوجوب يعني القدرة”. ولا أحد يستطيع أن يعتبرك مخطئا لأنك لم تفعل المستحيل.

بموجب هذا المنطق، يصبح الجمع بين الأخلاقيات والسياسة خطأ تصنيف، كما لو سألت ما إذا كان صوت السكين جيدا بدلا من التساؤل حول ما إذا كان يقطع بشكل جيد، أو ما إذا كانت مكنسة ما ترقص بشكل أفضل من مكنسة أخرى أغلى ثمنا. وعلى هذا فعند الحكم على السياسة الخارجية التي ينتهجها رئيس ما، ينبغي لنا أن نسأل ببساطة ما إذا كانت ناجحة، وليس ما إذا كانت أخلاقية.

رغم أن هذا الرأي لا يخلو من بعض الأهلية، فإنه يتملص من أسئلة عصيبة من خلال الإفراط في التبسيط. إن غياب حكومة عالمية لا يعني غياب النظام الدولي بالكامل. الواقع أن بعض قضايا السياسة الخارجية تتعلق ببقاء الدولة القومية، لكن هذه ليست حال أغلبها. فمنذ الحرب العالمية الثانية، تورطت الولايات المتحدة، على سبيل المثال، في العديد من الحروب، ولكن لم تكن أي منها ضرورية لبقائها. والعديد من اختيارات السياسة الخارجية المهمة حول حقوق الإنسان، أو تغير المناخ، أو حرية الإنترنت، لا تتضمن الحرب على الإطلاق.

الواقع أن أغلب قضايا السياسة الخارجية تنطوي على مقايضات بين القيم والتي تتطلب الاختيار وليس تطبيق صيغة جامدة من المصلحة الوطنية. ذات مرة، قال لي أحد المسؤولين الفرنسيين ساخرا: “أنا أحدد ما هو صالح قياسا على ما يصب في صالح فرنسا. ولا مكان للأخلاق هنا”. ويبدو أنه غير مدرك لحقيقة مفادها أن تصريحه في حد ذاته يشكل حكما أخلاقيا. من قبيل الحشو أو التفاهة في أفضل تقدير أن نقول إن كل الدول تحاول التصرف بما يصب في مصلحتها الوطنية. السؤال المهم هو كيف يختار القادة تحديد وملاحقة هذه المصلحة الوطنية في ظل ظروف مختلفة.

علاوة على ذلك، سواء شئنا أو أبينا، يصدر الأميركيون على نحو دائم أحكاما أخلاقية بشأن الرؤساء والسياسة الخارجية. حتى قبل مكالمته الهاتفية الشهيرة التي طلب فيها من رئيس أوكرانيا جميلا، كان سلوك إدارة دونالد ترمب يرفع قضية الأخلاقيات والسياسة الخارجية من مجرد سؤال نظري إلى عناوين الأخبار الرئيسية. على سبيل المثال، بعد مقتل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي في عام 2018 في قنصلية بلده في إسطنبول، انتُـقِد ترمب بسبب تجاهله للدليل الواضح على وقوع جريمة وحشية من أجل الحفاظ على علاقات طيبة مع ولي العهد السعودي.

وصفت صحيفة نيويورك تايمز الليبرالية بيان ترمب بشأن خاشقجي على أنه “معاملات دون أحاسيس، بصرف النظر عن الحقائق”، في حين جاء عنوان افتتاحية صحيفة وال ستريت جورنال المحافظة كالتالي: “نحن نعمل أن أي رئيس، ولو كان حتى برجماتيا بلا شفقة مثل ريتشارد نيكسون أو ليندون جونسون، ما كان ليكتب بيانا عاما كهذا دون أن يتحدث ولو من قبيل الكياسة عن قيم أميركا ومبادئها الثابتة”. صحيح أن النفط، ومبيعات الأسلحة، والاستقرار الإقليمي من المصالح الوطنية، ولكن هذه أيضا حال القيم والمبادئ التي تجذب الآخرين. فكيف يمكن الجمع بين الفئتين؟

من المؤسف أن العديد من الأحكام حول الأخلاق والسياسة الخارجية الأميركية المعاصرة عشوائية أو غير مدروسة، والكثير من الجدال الدائر حاليا يركز على شخصية ترمب. يحاول كتابي الجديد “هل الأخلاق مهمة؟” تصحيح هذا الانحراف من خلال إظهار أن بعض تصرفات ترمب ليست غير مسبوقة بين رؤساء الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. وكما قال لي مراسل حاد الإدراك ذات مرة، فإن “ترمب ليس فريدا من نوعه؛ بل هو متطرف وحسب”.

الأمر الأكثر أهمية هو أن الأميركيين نادرا ما يتحرون الوضوح بشأن المعايير التي نحكم من خلالها على السياسة الخارجية. فنحن نمتدح رئيسا مثل رونالد ريجان بسبب الوضوح الأخلاقي الذي يميز تصريحاته، وكأن النوايا الحسنة التي يأتي التعبير عنها بارعا كافية عندما يتعلق الأمر بإصدار أحكام أخلاقية. لكن وودرو ويلسون وجورج دبليو بوش أظهرا أن النوايا الحسنة في غياب وسائل كافية لتحقيقها من الممكن أن تؤدي إلى نتائج سيئة أخلاقيا، مثل معاهدة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى أو غزو بوش للعراق. أو ربما يمكننا أن نحكم على أي رئيس ببساطة استنادا إلى النتائج. ينسب بعض المراقبين الفضل إلى ريتشارد نيكسون في إنهاء حرب فيتنام، لكنه ضحى بنحو 21 ألف أميركي لإنشاء “فاصل لائق” ينقذ ماء الوجه والذي تبين أنه كان مجرد توقف وقتي عابر على الطريق إلى الهزيمة.

يجب أن يكون التفكير الأخلاقي الجيد ثلاثي الأبعاد، فيزن ويوازن النوايا والعواقب والوسائل. ولابد أن نحكم على السياسة الخارجية وفقا لذلك. علاوة على هذا، يجب أن تضع السياسة الخارجية الأخلاقية في الحسبان العواقب مثل الحفاظ على نظام مؤسسي يشجع المصالح الأخلاقية، فضلا عن بعض التدابير الجديرة بالاهتمام الإعلامي مثل مساعدة منشق أو مجموعة مضطهدة في دولة أخرى. ومن الأهمية بمكان أن نضع في الحسبان أيضا العواقب الأخلاقية المترتبة على “التقاعس عن العمل”، كما كانت الحال عندما أبدى الرئيس هاري ترومان الاستعداد لقبول الجمود والعقوبات السياسية المحلية خلال الحرب الكورية بدلا من تنفيذ وصية الجنرال دوجلاس ماك آرثر باستخدام الأسلحة النووية. وكما لاحظ شيرلوك هولمز فإننا يمكننا أن نتعلم الكثير من كلب لا ينبح.

من غير المجدي أن نقول إن الأخلاق لن تلعب أي دور في مناقشات السياسة الخارجية المنتظرة هذا العام. وينبغي لنا أن ندرك أننا سنستخدم دوما التفكير الأخلاقي للحكم على السياسة الخارجية، ويتعين علينا أن نتعلم كيف نقوم بذلك على نحو أفضل.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/views/21810

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M