محور “اتفاقيات إبراهيم”: التطبيع العربي الإسرائيلي قد يعيد تشكيل الشرق الأوسط

مايكل سينغ

 

قد تشير “اتفاقيات إبراهيم” إلى مستقبل تستطيع فيه الولايات المتحدة أن تفعل القليل في المنطقة – ولكن للوصول إلى تلك المرحلة، يجب على واشنطن أن تفعل المزيد أولاً.

في 15 أيلول/سبتمبر 2020، جمع الرئيس الأمريكي في ذلك الحين دونالد ترامب مجموعة غير عادية من سياسيي الشرق الأوسط في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض، وهم: رئيس وزراء إسرائيل ووزير خارجية الإمارات العربية المتحدة ووزير خارجية البحرين. ولم تكن الإمارات قد اعترفت رسمياً بإسرائيل أبداً، وكانت البحرين قد أرجأت فتح سفارة هناك. وفي الماضي غير البعيد، قاطعت الدولتان إسرائيل. ولكن الدول الثلاث اجتمعت معاً لتجاوز هذا التاريخ الفاتر من خلال التوقيع على “اتفاقيات إبراهيم” بوساطة الولايات المتحدة، والتي اتفقت فيها على إقامة علاقات دبلوماسية طبيعية.

وكانت الاتفاقيات بحد ذاتها بسيطة. وفي حالة الاتفاق البحريني الإسرائيلي، لم يتطلب التطبيع سوى صفحة واحدة ولكن تأثيره كان عميقاً. فمنذ قيام إسرائيل، رفضت جميع الدول العربية تقريباً الاعتراف بوجودها. ولكن هذه التفاقيات تقضي على هذا الحظر، وتفتح بذلك آفاقاً جديدة للتعاون وتبشر بإعادة ترتيب جذري للشرق الأوسط. ولم تأتِ الاتفاقيات من العدم، حيث كانت الشراكة غير المكتملة قائمة بين إسرائيل والدول العربية المحافظة قبل عام 2020 بفترة طويلة، وقد حفزتها الثورات العربية في عام 2011 والمخاوف المشتركة بشأن إيران و«الإخوان المسلمين»، من بين تهديدات أخرى. ولكن “اتفاقيات إبراهيم” من شأنها تطوير هذه العلاقات بقوة، مع ما يترتب على ذلك من نتائج اقتصادية وجيوسياسية مهمة.

ومن المحتمل أن تكون هذه النتائج إيجابية للغاية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. فجميع الموقعين هم شركاء لواشنطن، ويمكنهم معاً تأمين طلب لطالما سعت واشنطن إلى تحقيقه: كتلة من دول الشرق الأوسط يمكنها حماية المصالح الأمريكية، مما يسمح للولايات المتحدة بالخروج من المنطقة. ولكن الواقع أكثر تعقيداً. فسوف تجد واشنطن أن العمل من خلال الشركاء يقلل من قدرتها على التأثير على نتيجة الصراعات الرئيسية في المنطقة، بما في ذلك في ليبيا واليمن ومع إيران – جميع الدول التي تختلف فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها في وجهات النظر. ويشعر أصدقاء واشنطن في الشرق الأوسط بالقلق أيضاً من الانجرار إلى منافستها المتزايدة مع الصين، وهي دولة يعتبرونها فرصة وليس تهديداً. وقد يكونون حذرين من ربط أنفسهم بشكل وثيق جداً بواشنطن في مجالات أخرى أيضاً. وأحد الاتجاهات التي تقرّب شركاء أمريكا من بعضهم البعض هو ما يعتبرونه تراجعاً في موثوقية الولايات المتحدة وإمكانية التنبؤ بأفعالها.

لكن من الخطأ التفكير في “اتفاقيات إبراهيم” على أنها تشكل، على نحو كامل أو حتى في الغالب، فرصة أو مخاطرة لواشنطن، إذ تخلّف تداعيات أكبر بكثير على منطقة الشرق الأوسط نفسها.

وستشجع الاتفاقيات ترسيخ التكامل الاقتصادي في منطقة من العالم لم تشهد سوى القليل من ذلك. وستجذب مستثمرين من خارج الشرق الأوسط الذين يرون حالياً فرصاً أفضل، مما يؤدي إلى تعزيز النمو في المنطقة بشكل عام. وقد تؤدي الاتفاقيات إلى زيادة عدد الدول ذات الأغلبية المسلمة من خارج الشرق الأوسط المستعدة للعمل مع إسرائيل. وفي الواقع، لقد حققت ذلك فعلاً، إذ أبرم كل من المغرب والسودان اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل بعد وقت قصير من توقيع “اتفاقيات إبراهيم”. وستمهد الاتفاقيات الطريق لتأمين مستوى من التعاون السياسي والأمني ​​بين إسرائيل والدول العربية كان يعتبر في السابق غير وارد، مما قد يؤدي إلى إنشاء تحالف من شأنه أن يساهم في تهدئة النزاعات الإقليمية أو ردع دول مثل إيران دون دعم من التدخل الخارجي.

تضافر الجهود

في العواصم الغربية، يُنظر إلى “اتفاقيات إبراهيم” على أنها الخطوة التالية في عملية صنع السلام في الشرق الأوسط المستمرة منذ عقود. فقد أعاد حفل التوقيع إلى الذاكرة مشاهد مماثلة من عاميْ 1978 و 1994، مع صور لزعماء من المنطقة والرئيس الأمريكي جالسين على طاولة في البيت الأبيض. وساهم حفل عام 1978، الذي أقيم لتوقيع اتفاقيات “كامب ديفيد”، في إحلال السلام بين مصر وإسرائيل وإعادة شبه جزيرة سيناء إلى السيطرة المصرية. أما اجتماع عام 1994 فكان مخصصاً لاتفاقية السلام الإسرائيلية – الأردنية، التي حسمت الخلافات على الأراضي بين الدولتين وأنهت حربهما رسمياً.

وأدى الاتفاقان إلى تضييق نطاق الصراع العربي الإسرائيلي إلى حد كبير، إلا أنهما أنتجا في أحسن الأحوال سلاماً بارداً. وفي المقابل، يمكن لـ “اتفاقيات إبراهيم” أن تبني شراكة استراتيجية أعمق. فقد أبرمت أطراف الاتفاقيات صفقات ليس لإنهاء النزاعات فحسب، ولكن لأن السياسة العامة في المنطقة دفعت هذه الأطراف إلى التقارب. وساعدت ثورات “الربيع العربي” التي انطلقت في أواخر عام 2010 وأغرقت الدولتيْن النافذتيْن التقليديتيْن، مصر وسوريا، في حالة من الاضطراب، في تحويل مركز ثقل المنطقة إلى دول الخليج العربي، كما شجعها على الشروع في مبادرات إقليمية كبرى دون مراعاة القاهرة أو دمشق. وبفعل الثورات أيضاً، واجهت الحكومات العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة مجموعة متنوعة من التهديدات، من بينها القوة المتنامية لجماعة «الإخوان المسلمين» والجماعات الإسلامية الأخرى، وعدم الاستقرار الداخلي الذي يتطلب تحولاً اقتصادياً وسياسياً، وإيران التي تسعى إلى استغلال الاضطرابات في المنطقة خدمةً لمصالحها الخاصة. وأخيراً، أثار “تحول الولايات المتحدة نحو آسيا” شعوراً متزايداً بالوحدة والقلق لدى هؤلاء الحلفاء.

لقد بدأ الكثيرون في البحث عن شركاء جدد، وسرعان ما اكتشفوا أن إسرائيل، بجيشها القوي واقتصادها المتين، يمكن أن تكون صديقاً قيّماً. والمسار الذي انتهجته مؤخراً الإمارات العربية المتحدة هو خير مثال على ذلك. وكان المسؤولون الأمريكيون يطلقون على البلاد تسمية “سبارتا الصغيرة” بسبب استعدادها وقدرتها على التعاون مع واشنطن في الأمور الأمنية. ولكن نظراً لتراجع الانخراط الأمريكي والضغوط الجديدة، قررت أنها تريد أن يُنظر إليها على أنها “سنغافورة الصغيرة” على حد قول المسؤولين الإماراتيين: أي دولة ليست قادرة على الاستفادة من ثروتها وانفتاحها لجذب المستثمرين الدوليين فحسب، بل مؤهلة أيضاً على أن تكون جسراً للقوى الخارجية إلى منطقتها. فبقيادة ولي العهد الطموح محمد بن زايد، قلصت الإمارات في النهاية من تدخلها في اليمن بصورة ملحوظة  هاربةً إلى حد كبير من الازدراء الدولي. كما سعت إلى وقف التصعيد مع منافسيها الإقليميين: إيران وقطر وتركيا. وفي هذا السياق، لم يشكّل التطبيع مع إسرائيل تطوراً صادماً ومعزولاً، بل كان مركز وسط في التفافة الدولة، ووسيلة مباشرة للإمارات العربية المتحدة لحماية نفسها والازدهار في ظل تزايد عدم اليقين الجيوسياسي.

وأرست إسرائيل والإمارات شراكتهما في التعاون الاقتصادي، وقد فعلتا ذلك بنجاح كبير، إذ تجاوزت قيمة التجارة الثنائية الإسرائيلية – الإماراتية المليار دولار في عام 2021، بعد أن بلغت 180 مليون دولار في عام 2020، بفضل النشاط المتزايد في قطاعات الألماس والسلع الصناعية والسياحة والخدمات. وتهدف الدولتان إلى إبرام اتفاقية تجارة حرة هذا العام، ستضيف، وفقاً لتقديرات “مؤسسة راند” (RAND)، 0.8% إلى “الناتج المحلي الإجمالي” لدولة الإمارات على مدى العقد المقبل. وتتوقع “مؤسسة راند” أن تؤدي اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية مع البحرين والمغرب والسودان والإمارات إلى زيادة “الناتج المحلي الإجمالي” لإسرائيل بنسبة 2.3% خلال الفترة الزمنية ذاتها. كما وقعت إسرائيل والإمارات اتفاقية استثمار ثنائية في أواخر عام 2020، وهي الأولى مع دولة عربية.

لكن الوعد الاقتصادي الفعلي للاتفاقيات يكمن في قدرتها على إحداث تكامل اقتصادي إقليمي أوسع نطاقاً. فلطالما تخلّفت منطقة الشرق الأوسط عن كل مناطق العالم تقريباً على هذا الصعيد. ففي أوروبا، على سبيل المثال، تجري نسبة 66% تقريباً من العمليات التجارية بين الدول الأوروبية. أما في الشرق الأوسط، فتقل هذه النسبة عن 13%. ووفقاً لـ “مؤسسة راند”، فإن اتفاقية تجارة حرة متعددة الأطراف بين دول البحرين وإسرائيل والمغرب والسودان والإمارات فقط من شأنها أن ترفع “الناتج المحلي الإجمالي” في كل بلد بما يقدر بنحو 2% – 3%، فضلاً عن تحفيزها لمكاسب التوظيف.

ولكن ذلك لن يعالج جميع المشاكل الاقتصادية في المنطقة، إلا أنه سيشكل خطوة هامة نحو معالجة العديد من القضايا، بما فيها ارتفاع معدلات البطالة ونقص الاستثمار في القطاع الخاص، التي تزيد من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط.

ولا يشكل النمو الاقتصادي الفائدة الوحيدة الممكنة للاتفاقية. وتختلف الأولويات العسكرية لإسرائيل والإمارات، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الإمارات لا ترغب في استفزاز إيران أو تصوير شراكتها الجديدة مع إسرائيل على أنها تستهدف خصومها في المنطقة. ولكن لدى إسرائيل والإمارات مصلحة مشتركة في ردع طهران ومواجهة الجماعات الإرهابية في المنطقة، وتتخذ الدولتان خطوات أولية نحو تعاون أمني مفتوح. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2021، وللمرة الأولى، حضر قائد سلاح الجو الإماراتي مناورة “العلم الأزرق” الإسرائيلية المتعددة الأطراف بصفة مراقب. وعرضت إسرائيل تقديم مساعدة “أمنية وعسكرية” لأبوظبي بعد أن هاجمت مليشيا الحوثي العاصمة في كانون الثاني/يناير 2022. ويمكن أن تعمق الاتفاقيات هذه العلاقة. وبعد فترة وجيزة من توقيع الاتفاقية، أضيفت إسرائيل إلى مسؤوليات “القيادة المركزية الأمريكية” (CENTCOM)، مما أدى إلى تحقيق إنجازات كانت تبدو في السابق غير محتملة للغاية. وتم إدراج إسرائيل، على سبيل المثال، ضمن تمرين لـ “القيادة المركزية الأمريكية” في تشرين الثاني/نوفمبر 2021 والذي شمل أيضاً سلاح البحرية البحريني ونظيره الإماراتي. ويعني توسيع “القيادة المركزية الأمريكية” أيضاً أنه ستتاح الفرصة الآن للضباط الإسرائيليين والعرب لبناء علاقات في كليات الأركان، والقواعد في المنطقة، والأحداث التي تنظمها واشنطن.

ويتمثل أهم جانب من عدم اليقين المتعلق بـ “اتفاقيات إبراهيم” بما ستعنيه للدبلوماسية. فإسرائيل والأطراف الموقعة الأخرى منخرطة بشكل متداخل في النزاعات في جميع أنحاء المنطقة، لكنها امتنعت عن تبني مواقف مشتركة. فقد صوتت كل من البحرين والسودان مؤخراً في “مجلس حقوق الإنسان” التابع للأمم المتحدة لإجراء تحقيق مفتوح في الأعمال الإسرائيلية في غزة. وتتمتع إسرائيل والإمارات بعلاقة أفضل، حيث كانت كلتا الدولتين متحمستين بشأن الاتفاقية وشاركتا في موجة من الزيارات المتبادلة الرفيعة المستوى منذ توقيعها.

ولكن ربما لأن الإمارات تقدر فكرة الوحدة العربية أو لأنها تريد ببساطة تجنب توريط شراكتها الجديدة في الجدل، فقد ابتعدت التصريحات الإسرائيلية الإماراتية بشكل عام عن النزاعات السياسية في المنطقة.

إن ذلك يسلط الضوء على أحد القيود الرئيسية للاتفاقيات. فطالما لم تعترف الدول العربية الأخرى بإسرائيل، فمن المرجح أن يبقى التنسيق السياسي بين إسرائيل والأطراف الموقعة الأخرى ظرفياً، والإمكانيات الدبلوماسية للاتفاقيات ناقصة، مما يعني أن منطقة الشرق الأوسط ستظل تفتقر إلى آلية حقيقية متعددة الأطراف للتعامل مع النزاعات الإقليمية الرئيسية، على الرغم من حاجتها الماسة إليها.

التأثير المضاعف

قبل عام 2011، كان النظام السائد في الشرق الأوسط عبارة عن نظام محوري تقع الولايات المتحدة في مركزه. وتعاونت دول رئيسية في المنطقة، مثل مصر وإسرائيل والمملكة العربية السعودية وتركيا، على نطاق واسع مع واشنطن ولكن التعاون فيما بينها كان محدوداً. وانطبق ذلك في كثير من الأحيان حتى على الدول المتحالفة رسمياً. على سبيل المثال، في السنوات الأولى من القرن الحالي، واجه الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن صعوبات في محاولته إقامة حوار أمني خليجي لأن دول الخليج العربية كانت مترددة في التعامل مع الولايات المتحدة ضمن تنسيق متعدد الأطراف خوفاً من إضعاف العلاقات الخاصة التي كانت تجمعها بواشنطن.

لكن هذا النظام انهار في أعقاب حرب العراق و”الربيع العربي”. فقد أدت تلك الحرب في النهاية إلى إرهاق حاد لدى الأمريكيين تجاه الشرق الأوسط، وأدى “الربيع العربي” إلى الإطاحة بالكثير من الشركاء القدامى للولايات المتحدة. وتخضع المنطقة حالياً لتكتلات قليلة مخصوصة من الدول: “محور المقاومة” الذي تقوده إيران ويضم لبنان وسوريا ومجموعات مختلفة تعمل بالوكالة عن إيران في العراق واليمن، وتكتل إسلامي يضم قطر وتركيا، وتكتل يميل للولايات المتحدة مؤلف من مصر وإسرائيل والأردن والعديد من دول الخليج العربية.

وكانت “اتفاقيات إبراهيم” المحاولة الأولى لإضفاء طابع رسمي على إحدى هذه التكتلات، وقد أثار هذا الجهد مسألة ما إذا كانت الدول الأخرى ذات الميول الأمريكية قد تنضم إلى التكتل، كما فعل المغرب. ومن غير المرجح أن يفعل بعض شركاء الولايات المتحدة، مثل العراق وسلطنة عمان، ذلك. فهاتان الدولتان تبذلان قصارى جهدهما لتحقيق التوازن في علاقاتهما مع طهران وواشنطن. وكانت قطر قد استضافت مكتباً تجارياً إسرائيلياً في الدوحة لسنوات، ولكن من المرجح أيضاً أن تتجنب تطبيع العلاقات مع إسرائيل خوفاً من الإساءة إلى خصوم إسرائيل في المنطقة. ولكن هناك أطراف موقعة محتملة أخرى، مثل جزر القمر وموريتانيا والمملكة العربية السعودية. وبالنسبة لإسرائيل، ستكون السعودية بمثابة جائزة كبرى. فالمملكة العربية السعودية هي في الوقت نفسه رائدة في العالم الإسلامي وجهة فاعلة أكبر بكثير من الإمارات العربية المتحدة في الاقتصاد العالمي. وبالتالي، فإن تطبيع العلاقات مع السعودية من شأنه أن يؤدي إلى تعزيز مكانة إسرائيل إلى حد كبير لدى الدول الحذرة عادةً منها، وتعزيز نموها، وربما فتح آفاق جديدة للتعاون العسكري.

لقد أصبحت علاقة إسرائيل والمملكة العربية السعودية أكثر ودية في السنوات الأخيرة، فكلتاهما تنسقان بهدوء بشأن بعض القضايا الأمنية. ولكن العقبات أمام التطبيع ما زالت كبيرة. سيتعين على الرياض أن تتخلى أو تعدل ضمنياً مبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك الراحل عبد الله، والتي وضعت السلام الإسرائيلي الفلسطيني كشرط مسبق لتطبيع عربي أوسع نطاقاً، كما سيتعين عليها التغلب على شكوك مواطنيها الذين يتخطى عددهم بكثير عدد مواطني الإمارات وهم ربما أقل اعتدالاً منهم. كما أن دور الولايات المتحدة في الصفقة الإسرائيلية السعودية سيكون مشحوناً بصورة أكثر. ففي السنوات الأخيرة، سعى الكونغرس الأمريكي مراراً وتكراراً إلى معاقبة الرياض لمشاركتها في حرب اليمن وقتلها جمال خاشقجي، الذي كان مقيماً دائماً في الولايات المتحدة، وكاتب عمود في صحيفة “واشنطن بوست”، ومنتقداً للحكومة السعودية. وقد ترفض واشنطن أن تَعْرِض على الرياض المغريات ذاتها التي قدمتها لأبوظبي وغيرها من الأطراف الموقعة على الاتفاقيات، مثل بيع مقاتلات الشبح من طراز “إف-35” (F-35) أو التعاون النووي في المجال المدني.

لكن على المدى الطويل، يبدو أن التطبيع مع إسرائيل يتماشى مع نظرة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى العالم. فقد سعى الأمير محمد إلى تغيير اقتصاد السعودية ومجتمعها ودورها الإقليمي، بما في ذلك من خلال تقليص دعم الرياض للأصولية الإسلامية والحد من اعتماد الاقتصاد السعودي على صادرات النفط والغاز. ويمكن القول إن التطبيع مع إسرائيل من شأنه أن يزيد من انفتاح البلاد ويعزز الصورة السياسية للرياض، كما سيحرم أبوظبي، شريكة الرياض ومنافستها في الوقت نفسه، من ميزة نسبية في نظر المستثمرين والدبلوماسيين.

ولكن حتى إذا لم تنضم أي دول إضافية إلى “اتفاقيات إبراهيم”، فمن المحتمل أن يكون للاتفاق تأثير أوسع على العلاقات الخارجية لإسرائيل. فالاتفاقيات قد تمنح غطاءً للدول ذات الأغلبية المسلمة في الشرق الأوسط وخارجه، مثل إندونيسيا، للانخراط في تعاون أكبر مع إسرائيل، حتى لو امتنعت عن تطبيع العلاقات. وأدت الاتفاقيات بالفعل إلى مزيد من التعاون المتعدد الأطراف بين الدول الموقعة وشركاء إسرائيل في السلام من “الجيل الأول”: مصر والأردن. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2021، على سبيل المثال، أعلنت إسرائيل والأردن والإمارات عن صفقة ستُنتج بموجبها الإمارات الكهرباء في الأردن وتبيعها لإسرائيل، والتي بدورها ستزود الأردن بالمياه المحلاة. وكان من الممكن تنفيذ هذا التبادل بين إسرائيل والأردن قبل الاتفاقيات، ولكن مشاركة الإمارات جعله أكثر جاذبية اقتصادياً وسياسياً.

ويمكن لـ “اتفاقيات إبراهيم” أن توسع أيضاً نطاق التعامل الدولي مع الشرق الأوسط. فقد ساعدت الاتفاقيات أساساً في تمهيد الطريق للمنتدى الرباعي بين الهند وإسرائيل والإمارات والولايات المتحدة، والذي تم الإعلان عنه في تشرين الأول/أكتوبر 2021. وأُطلق المنتدى لأسباب اقتصادية، ولكنه قد يتوسع في النهاية ليشمل مجالات أخرى، مثل الأمن البحري. ويمكن أن تجعل الاتفاقيات أيضاً من إسرائيل والإمارات شريكي الملاذ الأول للدول الخارجية التي تتطلع إلى التعامل مع المنطقة. وبدورها، قد تغري هذه الديناميكية دولاً إضافية للانضمام إلى الاتفاقية خشية خسارتها مكاسب منتظرة.

ويقيناً، تولّد “اتفاقيات إبراهيم” تحديات أيضاً. فقد تقلل من بروز القضية الفلسطينية، التي تتراجع أهميتها الدولية منذ عقود. ولا ترتكز الاتفاقيات على أعراف أو تقاليد سياسية مشتركة، ولذلك فمن غير المرجح أن تعزز حقوق الإنسان في الشرق الأوسط. بل إن هناك مخاطرة أن تأمل الدول في استغلال الثناء الدولي الذي يأتي من تطبيع العلاقات مع إسرائيل لصرف الانتباه عن هذه القضايا. ومع ذلك، فإن أي سلبيات للاتفاقيات تتضاءل مقارنة بالمزايا التي توفرها للأطراف الموقعة، والمنطقة الأوسع نطاقاً، وفي الواقع، لصناع السياسات في واشنطن.

القوة تستيقظ

في الولايات المتحدة، احتفى القادة من مختلف الأطياف السياسية بـ”اتفاقيات إبراهيم”، من ترامب إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن، وليس فقط لأن الصفقة تبشّر بتنامي التطبيع العربي الإسرائيلي. فصانعو السياسات من كلا الحزبيْن يؤمنون بأن الاتفاقيات يمكن أن توفر لواشنطن مخرجاً من معضلة الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تريد التركيز بدرجة أقل على هذه المنطقة وبصورة أكثر على آسيا، إلا أنها تحتفظ بمصالح مهمة في الشرق الأوسط، بما في ذلك منع الهجمات الإرهابية، ومنع إيران من الحصول على سلاح نووي، وحتى التنافس مع الصين. وتتمثل الطريقة الأسهل لإدارة هذه القضايا بالاستعانة بمصادر خارجية، وفي نظرة أولية، يبدو أن الاتفاقيات تقدم مثل هذه الفرصة على وجه التحديد.

إلّا أن هذه الإمكانية تعقدها المكانة المتراجعة للولايات المتحدة في المنطقة. فالاتفاقيات لا يمكنها، على سبيل المثال، تخفيف الضرر الناجم عن الحزبية المتزايدة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وأصبحت العلاقة الأمريكية السعودية، التي كانت حميمة خلال إدارة ترامب، فاترة في عهد بايدن، وترى أبوظبي أن واشنطن انقلبت فجأة ضد العمليات العسكرية للإمارات في اليمن لأسباب سياسية داخلية. وأصبحت العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل عالقة بشكل متزايد في الخلاف بين الديمقراطيين والجمهوريين، بحيث أصبح بعض الديمقراطيين أكثر انتقاداً لإسرائيل وأصبحت القضايا المتعلقة بالدولة – من بينها إيران والصراع الإسرائيلي الفلسطيني – أكثر إثارة للجدل في كل من إسرائيل والولايات المتحدة.

والأهم من ذلك، ليس بإمكان الاتفاقيات إصلاح التباعد الاستراتيجي الآخذ في الاتساع بين الولايات المتحدة وشركائها في المنطقة. وخلافاً لما حدث أثناء الحرب الباردة و”الحرب على الإرهاب”، لا يشارك أقرب حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط وجهة نظرها بشأن التهديدات العالمية اليوم، وهم حذرون من الوقوف إلى جانب واشنطن ضد خصومها، لأن ذلك قد يكلفهم فرصاً اقتصادية ولأنهم غير متأكدين من موثوقية الولايات المتحدة.

لكن الاتفاقيات يمكنها مع ذلك أن تسمح لواشنطن بالتقدم في أهدافها الاستراتيجية. فتعزيز التكامل الإقليمي يمكن أن يساعد بحد ذاته الولايات المتحدة، بما في ذلك عبر إبعاد بعض الاستثمارات الصينية التي تقلق واشنطن. على سبيل المثال، بعد توقيع الاتفاقيات، دخل تكتل شركات (“56 World“) الإماراتي في شراكة مع “بنك لئومي” الإسرائيلي، يمكن أن تسمح لهما بتطوير موانئ إسرائيل بصورة مشتركة.

وكانت النتيجة منافسة ذات مصداقية مع شركات تطوير الموانئ الصينية المملوكة للدولة، وهو أمر لاقت الدول الغربية صعوبة في تحقيقه. ويمكن أن يحصل ذلك في قطاعات أخرى أيضاً. على سبيل المثال، يمكن للمشاريع الإقليمية المشتركة التي تجمع ما بين التكنولوجيا الإسرائيلية ورأس المال الإماراتي، أن تتحدى الهيمنة الصينية على قطاعي الاتصالات والبنية التحتية بنجاح أكبر من المبادرات الغربية.

وسيثبت التكامل فعاليته بشكل خاص في تقليص الاستثمار الصيني إذا زادت الاتفاقيات من التعامل الاقتصادي بين الشرق الأوسط والقوى الخارجية التي كانت قلقة في السابق من الديناميكية العربية الإسرائيلية المشحونة، مثل الهند واليابان و”الاتحاد الأوروبي”. وستسعى الصين أيضاً إلى الاستفادة من الفرص الاقتصادية التي أوجدتها “اتفاقيات إبراهيم”. وتتمثل أفضل فرصة لواشنطن لمواجهة أي خروقات من جانب بكين في تجنيد قوى خارجية أخرى للاستثمار كثقل موازن.

يمكن لشراكة إقليمية أن تساعد أيضاً في حماية الدول المنفردة من النفوذ الصيني. ولا يشكل ذلك مصدر قلق بسيط. ففي السنوات الأخيرة، أصبحت بكين أكثر جرأة في استخدام قوتها الاقتصادية لتعزيز غاياتها السياسية، مهددةً دولاً من أستراليا إلى ليتوانيا لمحاولة إخضاعها. وعلى الرغم من أن ذلك لم يحدث بعد في الشرق الأوسط، إلا أن دول المنطقة ستحتاج إلى دعم بعضها البعض إذا حدث ذلك، ويمكن أن توفر “اتفاقيات إبراهيم” أداة مهمة للقيام بذلك. وقد تؤدي الحاجة إلى الحماية الاقتصادية حتى إلى تحفيز الدول الأصغر حجماً أو الأكثر فقراً في منطقة الشرق الأوسط للانضمام إلى الاتفاقيات.

ويمكن للاتفاقيات أن تعزز أيضاً التعاون بين الأطراف الموقعة والجيش الأمريكي، حتى لو لم تتوسع الصفقة لتشمل شراكات أمنية رسمية مع الولايات المتحدة.

وتعتمد الأطراف الموقعة أصلاً على الهندسة العسكرية التعاونية لواشنطن. وتعتمد إسرائيل والإمارات بشكل كبير على الولايات المتحدة في المعدات العسكرية، وتشاركان على نطاق واسع في تمارين “القيادة المركزية الأمريكية” وتدريباتها. وقد تحاول روسيا ودول أخرى بيع منظومات عسكرية إلى الأطراف الموقعة، ولكن في المستقبل المنظور، لن تتمكن أي قوة خارجية أخرى من منافسة الحزمة الأمنية التي تقدمها واشنطن. وفي الواقع، ستعزز “اتفاقيات إبراهيم” ميزة الولايات المتحدة من خلال تحفيز المزيد من الدول على الارتباط بواشنطن، بحيث أن البلدان التي تتطلع إلى الانضمام إلى الشراكة ستكتسب قيمة أكبر، فقط من خلال التواؤم مع النظام العسكري الأمريكي الذي يشكل ركيزتها.

وسوف يستغرق الأمر بعض الوقت لتحقيق جميع هذه الفوائد، وسيتعين على واشنطن التحلي بالصبر. وسوف تحتاج أيضاً إلى بذل بعض الجهود. وفي المجالين الدبلوماسي والأمني، سيتعين على الولايات المتحدة الاستمرار في لعب دور الجهة الجامعة وفي بعض الأحيان العمل كوسيط. وستحتاج إلى تعزيز القدرات الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية لشركائها باستمرار لكي يتمكنوا من تحقيق نتائج حاسمة دون تدخل مباشر من واشنطن. ولتوسيع التحالف، قد تضطر الولايات المتحدة إلى ترغيب الصفقة للدول المعنية من خلال تقديم حوافز لها للانضمام، مثل تكثيف التعاون الدبلوماسي والأمني ​​مع واشنطن، أو المعاملة التجارية والضريبية التفضيلية، أو المساعدة المالية للمشاريع المنفذة بين الأطراف الموقعة. ويسلط ذلك الضوء على حقيقة مرة لصانعي السياسات في الولايات المتحدة: فقد تشير “اتفاقيات إبراهيم” إلى مستقبل تستطيع فيه الولايات المتحدة أن تفعل القليل في الشرق الأوسط – ولكن للوصول إلى تلك المرحلة، على واشنطن أن تفعل المزيد أولاً.

مايكل سينغ هو زميل أقدم في زمالة “لين- سويغ” والمدير الإداري لمعهد واشنطن. وشغل منصب “مدير أقدم لشؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي” الأمريكي خلال إدارة الرئيس جورج دبليو بوش.

 

.

رابط المصدر:

https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/mhwr-atfaqyat-abrahym-alttby-alrby-alasrayyly-qd-yyd-tshkyl-alshrq-alawst

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M