مسار الاحتجاجات وصياغة الشكل النهائي للعلاقة مع النظام السياسي

محمد علي جواد تقي

موقف نادر الحصول بين عديد المشاهد الانسانية في مسلسل الاحداث الراهنة في العراق، شاب في عقد العشرين من العمر يقف بالقرب من مجموعة من قوات “مكافحة الشغب” ويطرح امامهم على الارض قميص شقيقه ذو الثلاثة عشر ربيعاً وقد قتل خلال موجهات جرت في وقت سابق بالقرب من ميناء أم قصر مع المحتجين على خلفية المطالبة بإغلاق الميناء.

اسلوب الخطاب العفوي أشد وقعاً من مضمون كلامه، بما يمكن تشبيهه بالتساؤل المدوي عبر الزمن من القرآن الكريم: ((بأي ذنب قتلت)). يقول ان شقيقه الاصغر يدرس في الصف الأول المتوسط، وكان متوجهاً الى المدرسة ولم يكن بين المتظاهرين، فما كانت جريمته حتى يسقط برصاص بنادقكم؟!

أما في الجانب الآخر حيث يجلس افراد القوة المسلحة على الارض ربما في فترة استراحة، يخيّم عليهم صمت القبور، لا يتفوهون بكلمة، إلا بعض التمتمات بما تعبر عن الأسف مما حدث، ربما في خلدهم أنهم كانوا يؤدون الواجب في منع المتظاهرين من الاقتراب الى الميناء ومنعهم عما يريدون، كما حصل هذا مع متظاهرين آخرين حاولوا غلق الطرق المؤدية الى حقول نفطية جنوب العراق، او تعطيل منشآت ومصالح اخرى بُغية ممارسة المزيد من الضغوط على الحكومة والدولة للتسريع بتلبية مطالبهم، وهذا ما يؤدي بالمقابل الى تعرض البعض لإصابات خلال مواجهات عنيفة بين الطرفين.

في كل الاحوال، ورغم التنديد والاستنكار المتفق عليه باستخدام الرصاص الحيّ لتفريق المتظاهرين، فان هذا الشاب الملتاع والملكوم لن يجد قاتل أخيه البتة، فمن الصعب بمكان توجيه اتهام مباشر لأحد، وهي مواجهات محتدمة بين جبهة المتظاهرين وجبهة القوات التابعة للحكومة، ونفس الموقف يتكرر يومياً في بغداد ومدن اخرى تشهد مواجهات مماثلة، وقد حرص المتظاهرون على التأكيد لابناء شعبهم وللاعلام بأنهم سلميون، ولا يحملون سوى العلم العراقي، من جانبهم يؤكد المسؤولون المعنيون أنهم يحرصون على عدم الاصطدام بالمتظاهرين المعتصمين في ساحات الاعتصام، مثل ساحة التحرير ببغداد، ويطالبون المتظاهرين بعدم الاقتراب من الحواجز الكونكريتية التي تضعها في بعض الشوارع لحماية المنشآت الحيوية.

بين هذا وذاك؛ لماذا لا نضع جداراً فاصلاً يحدد عمل كلا الطرفين ما دمنا فيما يشبه الانتفاضة الجماهيرية على الفساد والظلم الذي تمارسه احزاب السلطة في العراق، حتى لا نسمع بمفردة “فوضى” و”تدمير” تلصق بالمتظاهرين، أو شعار “الواجب” الذي يرفعه افراد القوى الامنية؟

كما هي الشعارات التي انطلقت بأقصى درجة حتى إسقاط النظام السياسي الحاكم برمته، ثم قوّمه الناشطون وممثلو المتظاهرين فيما بعد من على شاشات الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، و اصبحت “إصلاحية” بإقالة الحكومة وتغيير قانون الانتخابات واجراء انتخابات مبكرة، فان المعايير هي الاخرى يجب أن تتبلور حتى تتضح مسارات هذا الحراك، ويعرف المتظاهرون والمعتصمون آلية الوصول الى حقوقهم التي تؤخذ ولا تعطى مثل؛ التوزيع العادل للثروة، وتحكيم الكفاءة في فرص العمل، وما يجب عليهم فعله، وما يجب تجنبه.

هذا التحديد المعياري يعود بالفائدة المباشرة على الجانبين؛ الجماهير الثائرة، وايضاً؛ جانب النظام الحاكم.

الجانب الجماهيري سيتخلص من الغموض في السبل المؤدية الى تحقيق اهدافه، فهل امتناع الكادر التدريسي في المدارس والجامعات عن العمل –مثلاً- يؤتي بثماره بالضغط على الحكومة والطبقة السياسية، أم لا؟ فإن كان الجواب بالايجاب، يتعين على سائر نظرائهم من موظفي الدولة إعلان الاضراب المفتوح عن العمل لمضاعفة هذه الضغوط والحصول على نتائج تختزل الفترة الزمنية الطويلة.

وهذا ما من شأنه تقسيم المجتمع الى صنفين في داخل خندق الجماهير المنتفضة؛ قسمٌ يرى أن لا علاقة للتعليم بعملية الإصلاح السياسي، فيما القسم الآخر يُصر على أن إغلاق المدارس، او امتناع الكادر التدريسي عن العمل، له تأثير كبير على القرار الحكومي ويسبب الاحراج للحكومة ويدفعها؛ ومعه البرلمان لتغيير سلوكهما وسياساتهما.

أما جانب النظام الحاكم بسلطاته الثلاثة فانه يقرأ الواقع الجماهيري بشكل مقلوب بعيد كل البعد عن الشعور بالمسؤولية، ويعدون نزول الناس الى الشارع ليس بسبب الضغوط المعيشية وفقدان فرص العمل، وإنما لاسباب تقف خلفها أجندات سياسية خارجية، وإلا فان الشعب العراقي –وفق هذه القراءة- قد تطبع على هذا الوضع طيلة السنوات الماضية، من سوء الخدمات، والطرق والمواصلات، والصحة، والتعليم، والعمل، فهو قادر على تدبير شؤونه بنفسه!

لذا نجد ان الطبقة السياسية نجحت في دفع عادل عبد المهدي ليكون الوحيد في مواجهة الضربات الموجعة من المتظاهرين على أنه هو المسؤول الاول في الدولة، فيما بقيت المطالبات بإصلاح النظام السياسي كاملة، على ألسن المتظاهرين هنا وهنالك، وليس مطلباً اساسياً يحمّل الطبقة السياسية مسؤولية كل المحن والمعاناة التي تجرعها العراقيون طيلة السنوات الماضية، حتى حان الوقت الذي يحدد فيه المتظاهرون بشكل موحد مطالبهم التي تستهدف الطبقة السياسية برمتها.

فاذا كان بلاد في العالم شهدت تغييرات شاملة، من خلال صنع جدار ثوري و”انقلابي” بينها وبين نظامها السياسي، فان تجربتنا الراهنة في العراق بحاجة الى جدار “إصلاحي”، فالجميع يعد التجربة الديمقراطية، رغم سوء تطبيقاتها وثغراتها، تمثل الفرصة التاريخية للشعب العراقي في أن يصنع نظام الحكم الذي يرتضيه ويحقق له طموحاته، لذا نجد التطور الايجابي الملحوظ في مسار الحراك الجماهيري يظهر تدريجياً من بفضل تواجد النخبة المثقفة في ساحات الاعتصام، تضخ ثقافة الاصلاح في صفوف المتظاهرين كما يحصل اليوم في ساحة الاعتصام في كربلاء المقدسة بمبادرة من محامين يقيمون أماسي داخل ساحة الاعتصام، ينشرون من خلالها الثقافة القانونية، ويجيبون على اسئلة المعتصمين فيما يتعلق بقانون الاحتجاز وقانون التظاهر، ويشرحون ما للمواطن من حقوق كفلها الدستور، وايضاً ما عليه من واجبات.

بالقدر الذي يتحدد فيه شكل العلاقة بين جماهير الشعب والنظام السياسي القائم، تكون الوسائل والآليات لتحقيق المطالب أقرب الى التحقيق، بل وتكون العنوان الرئيس أمام الطبقة السياسية داخلياً، وأمام الرأي العام والمنظمات الدولية، ولا نقع في سوء الفهم الذي حصل بين المتظاهرين، و رئيسة بعثة الامم المتحدة في العراق؛ بلاسخارت، التي دخلت بحفاوة الابطال المنقذين بواسطة عربة “التك تك” في ساحة التحرير ببغداد، والتقت المتظاهرين، ورأت عن قرب مدى حماسهم وتوثبهم للتغيير، ولكن سرعان ما تحولت الى رمز للخذلان لمجرد أن وجهت نصائح لهم بخصوص الحفاظ على الممتلكات العامة والمنشآت الحيوية، و”أن غلق الموانئ والمنشآت النفطية تتسبب بخسائر مادية”، فجاءت الهتافات مطالبة بطردها من العراق!.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/21310

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M