علي آلفونه
منذ مقتل قاسم سليماني في العام الماضي، شهدت قيادة «فيلق القدس» الإيراني تغيرات كبيرة. وبدءاً من سليماني، كان جميع قادة «الفيلق» ونوابهم من قدامى قادة المحافظات في «الحرس الثوري». وهذه الحقيقة، إلى جانب الحرب السورية، جعلت من الصعب بشكل متزايد التمييز بين المسارات المهنية التي يتخذها القادة في كل قوة.
منذ مقتل قاسم سليماني في العام الماضي، شهدت قيادة «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» تغيرات كبيرة حيث تولى اسماعيل قاآني المنصب القيادي الأعلى في الفيلق، ومؤخراً تم تعيين محمد رضا فلاح زاده نائباً له في نيسان/أبريل الماضي. وتثير هذه التغييرات أسئلةً جوهرية حول تركيبة المراتب القيادية في التنظيم. فمَن الذي يصل إلى القمة في «فيلق القدس»، وعلى أي أساس؟ وماذا تعني هذه التعيينات بالنسبة لسياسة إيران في المنطقة؟ يمكن الوصول إلى إجابات أولية على هذه الأسئلة من خلال إلقاء نظرة فاحصة على أولئك الذي قادوا «فيلق القدس» وفروع العمليات الخارجية الأخرى منذ عام 1979.
الأنماط والروابط وفرص التنفيذ
قبل إنشاء «فيلق القدس» ضمن «الحرس الثوري الإسلامي»، كانت أربع تنظيمات إيرانية تنفّذ العمليات العسكرية في الخارج خلال بداية الجمهورية الإسلامية، وهي:
- “وحدة حركات التحرير الإسلامية” التابعة لـ «الحرس الثوري» الإيراني
- مقر “وحدة قوات الحرب غير النظامية” (مستقلة عن «الحرس الثوري» الإيراني)
- “حرس لبنان” التابع لـ «الحرس الثوري» الإيراني (الذي كان يُعرف آنذاك باسم «فيلق القدس» أيضاً، ويجب عدم الخلط بينه وبين «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري» الإيراني)
- “مقر رمضان” التابع ” لـ «الحرس الثوري» الإيراني
وبحلول عام 1989، بعد نهاية الحرب الإيرانية العراقية وإعادة تنظيم القوات المسلحة في البلاد، تم دمج الأعضاء الناجين من هذه التنظيمات الأربعة وشبكاتها الدولية في «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري». ثم فَرض التنظيم الجديد احتكاراً لعمليات إيران خارج الحدود الإقليمية التي استمرت حتى الحرب السورية الحالية.
وإجمالاً، يُعرف أن سبعة عشر فرداً خدموا كقادة أو نواب قادة لهذه التنظيمات الخمسة منذ عام 1979. ثلاثة منهم – محمد منتظري ومهدي هاشمي من “وحدة حركات التحرير الإسلامية”، ومصطفى جمران من مقر “وحدة قوات الحرب غير النظامية” – برزوا في عدة جوانب مهمة: فقد أسسوا تنظيماتهم الخاصة بدلاً من تعيينهم من قبل سلطة أعلى؛ وخضعوا للتدريب على حرب العصابات في الخارج في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وأقاموا علاقات وثيقة مع الحكومات والمنظمات الأجنبية (على سبيل المثال، ليبيا، سوريا، “منظمة التحرير الفلسطينية”، «حركة أمل» اللبنانية)؛ وكان لديهم مناصرين رئيسيين للنظام مستقلين عن «الحرس الثوري» الإيراني (أي آية الله العظمى حسين علي منتظري ورئيس الوزراء مهدي بازركان). وبمجرد انهيار قواعد الدعم هذه بسبب عمليات التطهير التي قام بها النظام، سرعان ما اغتصب «الحرس الثوري» سلطة كل قائد ودمج منظماته في «الحرس الثوري».
وللأفراد الأربعة عشر المتبقين قواسمٌ مشتركة مختلفة جداً. إذ لم يتلقَّ أيٌّ منهم تدريباً على حرب العصابات في الخارج قبل الثورة، كما خدم الجميع باستثناء الثلاثة الأصغر سناً في جيش الشاه الإمبراطوري الإيراني. ولم يكن لديهم جهات راعية خارجية ولا ولاءات معروفة خارج تنظيمهم في وطنهم (باستثناء منصور كوتشك محسني، من أتباع آية الله منتظري الذي تم إخراجه من «الحرس الثوري» بحلول منتصف الثمانينيات). وقاتل عشرة منهم في الحرب الأهلية في كردستان الإيرانية بعد الثورة، وجميعهم شاركوا في الحرب ضد العراق. وقوبل ولاءهم بالمثل من قبل «الحرس الثوري» الذي رقّاهم إلى مناصب عليا.
غير أن اختيار القادة كان ينبع في بعض الأحيان من الصُدف بقدر ما كان ينبع من أوجه التشابه أو التصميم الواعي. ففي عام 1982، نشرت الجمهورية الإسلامية وحدة مشتركة من «الحرس الثوري» والجيش النظامي (المعروف بـ “أرتش”) على الحدود اللبنانية السورية. وكان الهدف الظاهري من نشر هذه الوحدة هو مواجهة الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان، لكنه كان يسعى في الحقيقة إلى مواجهة «حركة أمل»، الوكيلة السورية، من خلال إنشاء حركة “أمل الإسلامية” التي أصبحت فيما بعد «حزب الله». وقد أمر قائد «الحرس الثوري» محسن رضائي، رئيسَ العمليات في طهران والثوري المخضرم المدرَّب من قبل «حركة أمل» داود كريمي، بترؤس “حرس لبنان”. وفي ذلك الوقت، لم يكن كريمي على علم بالهدف الحقيقي لعملية الانتشار، لكنه شكك في الحكمة من إرسال قوات إلى لبنان بينما كانت إيران في خضم حرب مع العراق. ودفعه ذلك إلى طلب الاجتماع بالمرشد الأعلى روح الله الخميني، أو على الأقل صدور مرسوم من قبل آية الله يأذن بالمهمة. وحين رُفض كلا الطلبين، امتنع كريمي عن تنفيذ المهمة، فأوكلت إلى نائبه، أحمد موتيفاسليان، الذي وافق على مضض بعد أن أقنعه بذلك علي خامنئي الذي كان يشغل آنذاك منصب ممثل الخميني في “مجلس الدفاع الأعلى” وأصبح فيما بعد المرشد الأعلى.
وبالمثل، فإن تقليد تسليم منصب القائد في المهام الخارجية لنائبه المباشر انبثق أيضاً عن طريق الصدفة وليس عن خطة مدروسة. ففي عام 1982، أي في العام نفسه الذي كُلّف فيه موتفاسيليان بقيادة “حرس لبنان”، تعرّض هذا الأخير للخطف ومن المفترض أنه اغتيل في بيروت. فتولى نائبه في لبنان، منصور كوتشك محسني، قيادة “الحرس“، ليس لأنه كان المرشح الأكثر تأهيلاً للمنصب، ولكن لأن «الحرس الثوري» الإيراني لم يكن قادراً على تأخير عملية حساسة تسير على قدم وساق من خلال إرسال قائد كبير جديد من طهران. وعندما أُطيح كوتشك محسني من المنصب في غضون أشهر بسبب علاقاته المذكورة أعلاه بآية الله منتظري، مُنح نائبه أحمد كناني القيادة الكاملة لأسباب مماثلة.
وبحلول عام 1984، كان “مقر رمضان” التابع لـ «الحرس الثوري» قد أنشئ ليكون قوة حرب غير نظامية تتألف من أكراد عراقيين، وشيعة عراقيين، وأفغان، وجنسيات أخرى. وعادة ما كان قادته ضباط استخبارات سابقين في «الحرس الثوري»، وكان أحدهم – يدعى محمد نقدي ويعرف أيضاً باسم شمس – من قدامى المقاتلين في “حرس لبنان”. وكان تبادل العناصر بين “حرس لبنان” و”مقر رمضان” على المستويات الأدنى كبيراً هو أيضاً.
وصول «فيلق القدس» إلى الساحة
عقب انتهاء الحرب الإيرانية العراقية، تم إنشاء «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري» من أجل حصر العمليات الخارجية في وحدة مركزية واحدة – وهو قرار يُعزى إلى حد كبير إلى الرئيس الإيراني أكبر هاشمي رفسنجاني. وتبين من الأشخاص الثلاثة الأوائل الذين اختيروا لقيادته أن رفسنجاني يفضّل إبقاء المنصب بيد رؤساء الاستخبارات السابقين في «الحرس الثوري» الذين كانت تربطه بهم علاقات شخصية وثيقة. وكان كلٌّ من فريدون فيردينجاد (المعروف أيضاً باسم مهدي نجاد) وأحمد شاه شراغي (المعروف باسم أحمد وحيدي) متورطين معه بشكل وثيق في قضية “إيران-كونترا” خلال منتصف الثمانينيات – حيث أشرفا على تسليم الأسلحة وقطع الغيار من إسرائيل إلى إيران وأوصلا المعلومات إلى رفسنجاني الذي كان يأذن، عند استلام كل شحنة من الأسلحة، بالإفراج عن الرهائن الأمريكيين المحتجزين في لبنان. وكان لرفسنجاني أيضاً علاقة وثيقة مع قاسم سليماني المتحدر هو أيضاً من كرمان، مسقط رأس رفسنجاني. ووفقاً لمذكرات رفسنجاني، كاد سليماني أن يستقيل من «الحرس الثوري» في عام 1997 بسبب صراعات مع محسن رضائي، الذي كان لا يزال يترأس التنظيم في ذلك الوقت. وقد أقنعه رفسنجاني بالبقاء بضعة أشهر أخرى إلى حين قيام خامنئي باستبدال رضائي بيحيى رحيم صفوي. ثم عُين سليماني قائداً لـ «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري».
كما تم تجنيد سليماني وخليفته قاآني على أساس خبرتهما في أفغانستان، التي اكتسباها أثناء فترة نشرهما هناك لمحاربة عصابات المخدرات وطالبان. وفي ذلك الوقت، نظرت الجمهورية الإسلامية إلى صعود طالبان باعتباره التهديد الخارجي الرئيسي لها. وبالمثل، فإن الرجلين الذين تم اختيارهما كنائبيْن لقاآني حتى الآن (فلاح زاده وقبله محمد حسين زاده حجازي) يعكسان التركيز الاستراتيجي الحالي لإيران – فقد خدم كلاهما في العراق وسوريا ولبنان على مدى العقدين الماضيين.
وأخيراً، بدءاً من سليماني، كان جميع قادة «فيلق القدس» ونوابهم من قدامى قادة المحافظات في «الحرس الثوري». وهذه الحقيقة – إلى جانب الحرب السورية، التي استلزمت نشر القوات النظامية لـ «الحرس الثوري» لتخفيف العبء على «فيلق القدس» – جعلت من الصعب بشكل متزايد التمييز بين المسارات المهنية التي يتخذها القادة في كل قوة. كما يعني أن قادة «فيلق القدس» لديهم خبرة واسعة في شؤون الأمن الداخلي.
علي الفونة هو مؤلف كتاب “الخلافة السياسية في جمهورية إيران الإسلامية: زوال رجال الدين وصعود قوات «الحرس الثوري» (2020)”.