د. علاء إبراهيم محمود الحسيني
يعد الحق في الصحة واحداً من أهم الحقوق البشرية وهي تعني مصلحة الإنسان في العيش بعيداً عن الأمراض التي قد تنغص عيشه أو تنهي حياته لاسيما الأوبئة التي تحمل مخاطر جمة ذات طابع جماعي، لهذا حرصت التشريعات الوطنية والدولية على التأكيد بأن للإنسان الحق في الصحة والضمان الصحي الشامل أو التغطية الصحية أي إتاحة الفرصة للجميع على قدم المساواة للوصول إلى الخدمات الصحية الفاعلة وذات الجودة العالية دون التعرض للإرهاق المالي.
وهذا الحق يتسع ليستوعب التكامل الجسدي أو تجريم أي سلوك من شأنه ان ينقص أو يعطل إحدى الحواس أو الأعضاء البشرية بصورة دائمة أو مؤقتة ما لم يكن الهدف منها إنقاذ حياة المريض مع اشتراط موافقته الصحيحة على ذلك، والحق في العلاج أو التطعيم ضد الأمراض والأوبئة بالأدوية التي أجيزت من الهيئات الصحية المختصة بعد ان ثبتت كفاءتها.
وفي الوقت الذي نتذكر فيه ان البشرية تمكنت من تطويق أمراض معينة سارية ومعدية خلال القرن الماضي ومنها شلل الأطفال والحصبة إلا إنها لم تتمكن من إنهاء خطر أمراض أخرى وفي مقدمها الملاريا التي تحصد مئات الأرواح سنوياً في الدول الأضعف والأشد فقراً، لهذا يمكننا القول ان التعاون الدولي لتطويق المخاطر الصحية لم يعد ترفاً بل هو أضحى حاجة ملحة وماسة لا غنى عنها بحال من الأحوال.
فصناعة القرار العالمي والاتحاد ضد المخاطر بات أمراً صعباً بسبب التنافس الدولي على النفوذ والنظرة المادية للمصالح الوطنية ولو كانت على حساب سحق الشعوب الأخرى أو تحويلها إلى كتلة من الصراع والاكتواء بالنار لتحقق بعض المزايا والمصالح الذاتية، لذا لم نشهد تكاتفاً عالميا في هذه الألفية على الأقل لمواجهة مخاطر الأوبئة والجائحات بداية من مرض السارس أو المتلازمة التنفسية الحادة 2003، ومروراً بالايبولا 2014، ومخاطر الأنفلونزا الوبائية التي أخذت مسميات بعض الحيوانات كالطيور والخنازير وغيرها، وانتهاءً بالكورونا 2019-2020، والذي ضرب العالم أجمع بكل سهولة كون الوقاية منه كانت ضعيفة ومشتتة فلم يواجه كمشكلة تهدد الإنسانية بل تم تبادل الاتهامات بشأنه حتى استحكم وغرس أنيابه في جسد البشرية ليحصد أرواح الألاف.
ومن الثابت ان السيطرة على تفشي الأمراض على مستوى العالم لا يكون بجهود وطنية فحسب بل ينبغي ان يكون نتيجة تعاون عالمي للسيطرة على الانتشار السريع لبعض الأمراض، وحين يقال ان الوقاية خير من العلاج يصدق هذا القول في الوقت الحاضر إذ لو صدقت النية وتضافرت الجهود للسيطرة على مصادر التفشي وتطويقها سيكون ذلك عمل استراتيجي يجنب العالم إنفاق مليارات الدولارات للسيطرة فيما بعد على التفشي وشفاء المرضى.
فمما لا شك فيه ان الإنسانية تتهددها مخاطر جمة بعضها من صنع الإنسان كالأسلحة والصراعات العسكرية والتغير المناخي، والبعض من صنع الطبيعة كالزلازل والفيضانات، والبعض تسبب به الإنسان بشكل غير مباشر نتيجة الاستهلاك غير الصحيح لبعض لحوم الحيوانات البرية التي تسببت بتفشي أمراض فتاكة، ولهذا نقول ان الأوبئة والتغير المناخي والصراعات العسكرية والاقتصادية هي الخطر الأكبر المحيق بالإنسانية جمعاء ولابد من التفكير البناء للتغلب على هذه المشاكل الخطيرة.
فلم نشهد حلولاً نهائية للقضاء على مصدر الخطر في أي دولة من دول العالم وهي في سبيل الجهود الفردية للحد مما تقدم والحل الوحيد أمام البشرية هو الاتحاد من جديد ضد هذه المخاطر وتطويقها للعيش بسلام لذا ندعو إلى عقد عالمي أو إنساني مقتضاه الضمان الصحي الكامل لجميع بني البشر بلا أي تمييز ولأي سبب كان وإلا فان المجتمعات المرفهة والتي تتمتع بمستوى عالي من التأمين أو الضمان الصحي لن تكون بمأمن من الأمراض الفتاكة التي قد تتفشى في أوساط الفقراء إلا إن ارتداداتها ستصل إلى الأغنياء.
فالعقد الذي ندعو إليه يوجد من القواعد القانونية التي تضمنتها الإعلانات والمواثيق الدولية ما يشكل أرضية صالحه للمضي قدما باتجاهه، إذ ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للعام 1948 في المادة (25) ما نصه “لكل شخص الحق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهية له ولأسرته، وخاصة على صعيد المأكل والملبس والعناية الطبية” وأشارت المادة (12) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966 إلى الحق في الصحة وأوضحت بأنه (حق كل إنسان التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه) والملاحظ على النص المتقدم انه يفضي إلى سؤال ما المقصود بأعلى مستوى؟ هل يقاس على المستوى الوطني أم العالمي؟ بعبارة أخرى وفق معايير منظمة الصحة العالمية أم معايير وزارة الصحة في البلد المعني؟
وورد في المادة (5) من اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري للعام 1965 أنه (تتعهد الدول الأطراف بحظر التمييز العنصري والقضاء عليه لاسيما بصدد التمتع بالحقوق التالية… حق التمتع بخدمات الصحة العامة والرعاية الطبية) وما تقدم من نصوص واضحة وجلية وتدعو إلى المساواة بين الجميع في هذا الخصوص، ولهذا بادرت الأمم المتحدة إلى إنشاء وكالات متخصصة بهدف تحقيق ما تقدم فأوجدت منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة والتي عملت للقضاء على الجوع وتوفير الغذاء الذي يعد مكملاً ومقدمة أساسية للحق في الصحة، وانتهت مجهودات الأمم المتحدة إلى تأسيس العديد من المؤسسات ذات الصلة نذكر منها:
1- صندوق عالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا العام2001 إذ يسمح للدول التي تكثر فيها الإصابة لتقدم طلب للصندوق للحصول على منح مالية تسهل تحسين الوضع الصحي وبخاصة البنى التحتية.
2- صندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونسيف): فقد تأسس هذا الصندوق العام 1946 ويهدف إلى تحسين أوضاع الأطفال وخفض حالة الوفيات المبكرة، كما يقدم الصندوق إعانات للدول التي تتعرض الطفولة فيها إلى مشاكل صحية تنعكس سلباً على نمو الأطفال.
3- مفوضية الأمم المتحدة للاجئين: تأسست هذه المؤسسة العام 1950 لتحمي اللاجئين وكانت من أولويات هذه المفوضية توفير الضمان الصحي للاجئين بغض النظر عن بلدانهم الأصلية.
4- اللجنة الدولية للصليب الأحمر: والتي تهدف إلى تقديم الرعاية والدعم الصحي للمدنيين وبعض الفئات من المرضى والجرحى وغيرهم في أوقات الصراعات المسلحة وفق ما بينته اتفاقية جنيف 1948.
وليس الأمر محصوراً بالجهود الطبية المركزة على الإنسان بل ان الطب البيطري هو الأخر يلعب دوراً لا يقل أهمية عن الطب الإنساني لحماية الإنسانية فالشراهة في الاستهلاك البشري للحيوانات البرية بلا قيود قادت الصين والعالم للإصابة بمرض خطير تسبب بكارثة عالمية والإهمال المزمن للصحة البيطرية على مستوى العالم كان ولا زال أحد المخاطر المحدقة بالبشرية.
ومن باب المقارنة ليس إلا فان الدول لغاية اليوم أنفقت مليارات الدولارات وعلى مستوى العالم قد نكون تجاوزنا الترليونات للسيطرة على مرض الكورونا في حين لو أنفقت بعض هذه الأموال بشكل مبكر للتأسيس لنظام صحي عالمي عادل يؤسس بصندوق مالي تضع فيه كل الدول وبحسب إمكانياتها الأموال لرفع مستوى الاستعداد لمواجهة الأمراض العادية والسارية أو المعدية بوجه خاص ورفع مستوى أداء الطب البيطري أيضاً لكان العالم أكثر أمناً، كما ان البشرية بحاجة لتوحيد الجهود الدولية للبحث عن المضاد واللقاح اللازم وتوفيره بشكل متساوي للجميع بعيداً عن نهم الشركات وتسابقها إلى تحقيق الأرباح ولو على حساب وجع الإنسانية.
من هذا يتضح لنا ان الحق بالصحة والتكاتف الدولي لتفعيل هذا الحق صنوان لا يفترقان وبهذا يكون إبرام العقد الذي أشرنا إليه والذي يعد ضامناً للصحة حاجة ماسة كونه سينظم التزامات الدول جميعاً تجاه شعوبها والشعوب الأخرى ويمكن ان يفضي إلى منح منظمة الصحة العالمية ومنظمة الغذاء والزراعة، والاتحاد العالمي البيطري، ومنظمة الصحة الحيوانية وغيرها من الجهات الفاعلة على المستوى الدولي وبالتنسيق مع الجهات الوطنية القدرة على محاصرة المسببات والتشخيص الصحيح للعوامل المساعدة على الانتشار.
وبالتضامن سيتم القضاء على ما تقدم ويمكن ان ينتج عما تقدم من علاقة عقدية إنهاء للكثير من الصراعات على الغذاء والمراعي في الدول الفقيرة بالتحديد عندما يتوافر الحد الأدنى من الأمان الغذائي والصحي، والمطلوب ان يتوافر للجميع كحد أدنى هو:
1- مياه شرب آمنة ونقية ومتاحة أما مجاناً أو بسعر رمزي.
2- الصرف الصحي المناسب.
3- توافر الأدوية واللقاحات الأساسية.
4- الغذاء الآمن الذي من شأنه ان يضمن النمو الطبيعي للأفراد والتمتع بالصحة التامة.
5- توافر مجموعة متنوعة من المرافق الصحية والخدمات المرتبطة بها.
6- توافر الكوادر الصحية المدربة والكافية للاستجابة اللازمة لكل الطوارئ.
7- ظروف عمل مناسبة تضمن التمتع بالصحة التامة.
ولابد من التذكير بأهمية الدور الذي تمارسه منظمة الصحة العالمية وهي أحد أهم وكالات الأمم المتحدة وأكثرها نشاطاً في التحذير المبكر بمخاطر الأوبئة والجائحات، إذ نص دستور المنظمة لسنة 1946 على ان “التمتع بأعلى مستوى من الصحة هو حق من الحقوق الأساسية لكل إنسان دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو العقيدة السياسية أو الظروف الاقتصادية أو الاجتماعية”، وورد فيه أيضاً “الصحة تعني: حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً لا مجرد انعدام المرض أو العجز، وان صحة الشعوب أمر أساسي لبلوغ السلم والأمن، وهي تعتمد على التعاون الأكمل للأفراد والدول”.
وهذه النصوص تأكيد لما أوردناه أعلاه من ضرورة التعاقد عالمياً لتوفير نظام الاستجابة الإنسانية للمخاطر بعيداً عن أي اعتبارات أخرى يمكن ان تكون ضحيتها الشعوب، والتأسيس لنظام مالي عالمي يدعم الشعوب الأكثر فقراً وينتشلها من محنتها، وكذلك يوفر مراكز بحث متخصصة في تشخيص المسببات وتقديم نتاجها للعالم ليتم تبنه وطنياً وعالمياً للوصول إلى الغاية الأسمى وهي الأمن الصحي للإنسانية جمعاء.
رابط المصدر: