وقف إمدادات الغاز الروسي عبر أوكرانيا: نقطة تحول لأمن الطاقة الأوروبي. (تداعيات وتحديات مستقبلية)

على الرغم من أن مفهوم أمن الطاقة لا يُعد من الأمور الحديثة في سياسات الاتحاد الأوروبي، إلا أنه يكتسب أهمية خاصة لكونه من أهم الأعمدة لجميع دول القارة. ولذلك تتمحور سياسة الطاقة الأوروبية حول تأمين مصادر مستقرة تضمن إمداد المواطنين بكافة مصادر إنتاج الطاقة المختلفة. وفي تحوُل جيوسياسي كبير في موسكو، توقفت إمدادات الغاز الروسية إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب الأوكرانية في أول أيام العام الجديد مما يسدل الستار على هيمنة موسكو على الإمدادات في سوق الغاز الأوروبية لفترة طويلة.

يمثل هذا التوقف نهاية اتفاقية العبور التي استمرت خمس سنوات ويؤكد ضبابية المشهد الطاقي المتطور منذ مارس 2022 وبالتحديد مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية. ومن المتوقع أن يكون لتوقف صادرات الغاز الروسي عبر أوكرانيا العديد من الآثار والتداعيات الاقتصادية واسعة النطاق على صناعة الغاز الطبيعي، وفي هذا السياق، يصبح من الضروري تحليل التداعيات المحتملة لهذا القرار، وكيفية تفاعل مختلف الأطراف المعنية معه في ظل الواقع المتغير الذي يعيشه العالم اليوم.

لم تضع الحرب الروسية الأوكرانية أوزارها حتى الآن، بل تشتد وطأتها يومًا بعد يوم لتستمر في إرباك المشهد الطاقي العالمي، وبالأخص في ملف الغاز الطبيعي. حيث تثير المزيد من الشكوك حول التوقعات المستقبلية للأسواق، وذلك لأنه مع دخول الحرب عامها الثالث كان قطاع الطاقة العالمي من أكثر القطاعات تأثرًا وتقلبًا في نهاية العام الثاني من الحرب، وشهد العديد من التغييرات في صناعة الطاقة على مستوى العالم بشكل عام والقارة الأوروبية بشكل خاص.

استكمالًا لما سبق، فإن الأزمة متعلقة بروسيا والتي تُعد من أهم شرايين الطاقة في العالم وتُشكل لاعبًا أساسيًا في أسواق الطاقة العالمية، ومع بداية الحرب تأثرت أسواق الطاقة العالمية، وقامت الدول بخطوات استثنائية بهدف مواجهة تداعيات تلك الأزمة، إذ لجأ عديدٌ من دول العالم إلى المخزون الاستراتيجي من أجل تقليص الضغوط على الأسواق بهدف إرسال رسالة بأنه لن يكون هناك نقص في الإمدادات العالمية.

 وعليه، إن انتهاء عبور الغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب الأوكرانية لا يعيد تشكيل ديناميكيات الطاقة في دول الاتحاد الأوروبي فحسب، بل إنه أيضًا بمثابة تذكير صارخ بضعف الاتحاد الأوروبي أمام الضغوط الجيوسياسية. حيث تظل قدرة البنية الأساسية للطاقة في أوروبا على الصمود وقدرتها على مواجهة هذه التحديات بالغة الأهمية، وبالأخص مع دخول فصل الشتاء القارس. 

جاء قطع الإمدادات الروسية من الغاز الطبيعي في وقت صعب بالنسبة لكييف، ففي مواجهة الضربات العسكرية في مناطقها الشرقية والدعم الأمريكي غير المؤكد في ظل إدارة ترامب القادمة، يتعين على أوكرانيا الآن أن تتكيف مع خسارة رسوم العبور ونقص الغاز الطبيعي المحتمل خلال فصل الشتاء. وفي حين قد يكفي إنتاج الغاز المحلي وتخزينه في أوكرانيا في ظل الظروف العادية، حيث أنه من المتوقع أن الشتاء الأكثر برودة من المتوسط ​​قد يستلزم زيادة واردات الغاز من الاتحاد الأوروبي.

يساهم الغاز الطبيعي في إنتاج حوالي 20% من إجمالي الكهرباء المولدة داخل الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى استخدامه في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، وكذلك في التدفئة المنزلية، ولا يُشكل الإنتاج المحلي لدول الاتحاد الأوروبي سوى حوالي 9% من إجمالي استهلاك الغاز في 2022. وتُعد روسيا أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى أوروبا بنحو حوالي 40% من احتياجات الاتحاد من الغاز الطبيعي ذلك قبل بداية الحرب الروسية الأوكرانية والوصول إلى حوالي 9% في الوقت الحالي، ويوضح الشكل التالي معادلة الطاقة الأوروبية ومصادر الطاقة المختلفة.

علاوة على ذلك، يُشكل الغاز الطبيعي أكبر مشكلة بالنسبة للقارة الأوروبية، وذلك لأن استيراد الغاز يُعد أصعب بكثير من استيراد النفط الخام والفحم، حيث يتم تبريده وتحويله إلى سائل وشحنه على ناقلة ثم إعادة تحويله إلى غاز في منشآت خاصة به، والجدير بالذكر أن عدد المحطات في دول الاتحاد الأوروبي وصل إلى 24 محطة عاملة وحوالي 17 محطة قيد الإنشاء وهو ما يعني ضعف البنية التحتية في العديد من دول الاتحاد الأوروبي، كما هو موضح في الشكل التالي.

ومن المتوقع أن تجتاح موجة البرد أوروبا خلال الفترة المقبلة، وتهدد بتسريع استنفاد احتياطيات الغاز الطبيعي. وتتوقع مدن مثل لندن وباريس وبرلين درجات حرارة تحت الصفر، مما قد يدفع الطلب على التدفئة إلى أعلى مستوياته هذا الموسم، وعليه انخفضت احتياطيات الغاز في أوروبا بالفعل بنسبة حوالي 20% منذ سبتمبر الماضي، وهو تناقض كبير مع الانخفاضات أحادية الرقم المسجلة في السنوات السابقة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى فصول الشتاء الأكثر اعتدالًا وانخفاض الطلب الصناعي. حيث أدى هذا الانخفاض السريع إلى ارتفاع أسعار الغاز القياسية بنسبة 5% في نهاية عام 2024، لتقترب من أعلى مستوى سنوي لها عند 49 يورو لكل ميجاواط/ساعة.

على مدى أكثر من خمسين عامًا، ظلت روسيا المصدر الموثوق فيه لتوريد الغاز للقارة الأوروبية فيما استمر ذلك حتى في ذروة الحرب الباردة، حيث لعبت موسكو دورًا كبيرًا في تعزيز اعتماد ألمانيا –أكبر اقتصاد أوروبي– على مصادر الطاقة الروسية. وعلى وقع ذلك، شكل الغاز الروسي نموذجًا تجاريًا في أوروبا قوامه الأساسي الصادرات ومصادر الطاقة الرخيصة.

ولكي نستطيع معرفة قوة الأنابيب الروسية يجب إلقاء الضوء على خريطة نقل الغاز الروسي إلى دول القارة الأوروبية والتي تمثل 6 شرايين أساسية لقلب أوروبا، واعتمدت على فكرة الشبكة العنكبوتية.

بعد حوالي ثلاث سنوات تقريبًا من الحرب في أوكرانيا التي قلبت سوق الطاقة الأوروبية، وأدت إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير، ما زالت التوازنات ضيقة للغاية في أسواق الغاز العالمية. على الرغم من الجهود الأوروبية لتنويع مصادر الإمداد بشراء شحنات بحرية أكبر، وزيادة الاعتماد على النرويج، وتوسيع مصادر الطاقة المتجددة، إلا أن الأسعار ما زالت حساسة للغاية لأي مخاطر متوقعة على الإنتاج.

وعليه، أصبح قرار روسيا بوقف صادرات الغاز عبر أوكرانيا إلى أوروبا أحد أبرز التطورات في الساحة الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، حيث يحمل هذا القرار تداعيات كبيرة على العديد من الجوانب، سواء على مستوى الأمن الطاقي الأوروبي أو على الاقتصاد العالمي ككل. يأتي هذا الإجراء في وقت حساس، حيث يعاني الاتحاد الأوروبي من تحديات متزايدة في تأمين إمدادات الطاقة وسط توترات سياسية واقتصادية متزايدة مع موسكو. ومن المتوقع أن ينعكس هذا القرار بشكل مباشر على أسعار الطاقة، وعلى العلاقات الاقتصادية بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى تأثيراته على استراتيجيات تنويع مصادر الطاقة في المنطقة.

في نهاية عام 2024، شهدت أسواق الغاز الأوروبية زيادة حادة في الأسعار، حيث بلغ سعر الغاز 530 دولارًا لكل ألف متر مكعب، ليصل إلى أعلى مستوى له في العام. وفي الأسابيع القليلة الماضية، ارتفعت الأسعار بنسبة 19%، أي بما يعادل 83 دولارًا. وفي أسواق الغاز الألمانية والنمساوية، تم تداول الغاز بأسعار أعلى بلغت حوالي 537 دولارًا. في هذا السياق، ناشد رئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو الاتحاد الأوروبي بضرورة دعم استمرار عبور الغاز الروسي إلى أوروبا، محذرًا من أن دول الاتحاد الأوروبي ستتحمل تكاليف إضافية قد تصل إلى 120 مليار يورو خلال العامين المقبلين في حال توقف إمدادات الغاز الروسية.

ورغم هذا التحذير، لم تُبدِ بروكسل أي استجابة لنداء رئيس الحكومة السلوفاكية، وفقًا لفيكو، فإن الأضرار التي ستلحق بدول الاتحاد الأوروبي بسبب توقف الإمدادات ستكون أكبر بنحو 30 مرة من تلك التي ستلحق بروسيا، موضحًا أن الخسائر المتوقعة لروسيا نتيجة لقرار أوكرانيا وقف نقل الغاز إلى أوروبا ستكون حوالي ملياري يورو فقط، وهو ما يمثل 3% فقط من إجمالي الخسائر التي ستتكبدها الدول الأوروبية.

وهنا تجدر الإشارة إلى إن حجم الغاز الذي ترسله موسكو إلى الدول الأوروبية يصل لحوالي 15 مليار متر مكعب عبر الخطوط الأوكرانية (على أساس سنوي)، وهو ما يُشكل حوالي 5% من إجمالي احتياجات دول القارة من الغاز الطبيعي.

ومع ذلك، ورغم الإشارة الواضحة إلى ذلك، فإن فقدان أحد آخر الطرق المتبقية لنقل الغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب من شأنه أن يفرض المزيد من الضغوط على سوق الغاز التي تعاني من نقص المعروض بالفعل ويدفع الأسعار العالمية إلى الارتفاع.

ومن المتوقع أن تصل خسائر أوكرانيا إلى حوالي مليار دولار سنويًا، بينما تصل خسائر موسكو إلى حوالي 5 مليار دولار قيمة مبيعات الغاز إلى أوروبا، ولكنها وجدت أسواقًا بديلة تورد لها الغاز وفي مقدمتها الصين والهند.

قللت المفوضية الأوروبية من حجم تأثير توقف صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا، مشيرة إلى أن هذا التوقف، الذي وقع في الأول من يناير الجاري، كان متوقعًا وأن الاتحاد الأوروبي كان قد أعد نفسه لمثل هذا التطور. وأكد المتحدث باسم المفوضية أن “البنية التحتية للغاز في أوروبا مرنة بما يكفي لتوفير الغاز من منشأ غير روسي إلى وسط أوروبا وشرقها عبر طرق بديلة”. وأضافت أن الاتحاد الأوروبي قد طور قدرات كبيرة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال منذ عام 2022، ما ساعد على تعزيز مرونة الشبكة الأوروبية أمام الأزمات.

وتوقعت المفوضية أن يكون تأثير توقف إمدادات الغاز الروسي محدودًا، وأنه يمكن تعويض 14 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا، التي كانت تمر عبر أوكرانيا، من خلال واردات الغاز الطبيعي المسال وخطوط الأنابيب غير الروسية عبر طرق بديلة. هذه التوقعات تعكس الاستعدادات الأوروبية لمواجهة النقص المحتمل في الغاز من روسيا، رغم أن بعض الدول قد تواجه تحديات في تأمين الإمدادات الكافية خلال فترات الشتاء.

أشارت المفوضية الأوروبية إلى أنه تم تعزيز مرونة نظام الغاز في الاتحاد الأوروبي بشكل كبير في السنوات الأخيرة من خلال عدة مبادرات، من بينها إجراءات لملء خزانات الغاز بشكل أسرع، وتطبيق تدابير لتحسين كفاءة الطاقة، وزيادة استخدام الطاقة المتجددة، بالإضافة إلى تدابير للحد من الطلب الطوعي على الطاقة. وتهدف هذه الاستراتيجيات إلى تعزيز قدرة الاتحاد الأوروبي على مواجهة أي تحديات تتعلق بإمدادات الغاز، مثل التوقف المتوقع لإمدادات الغاز الروسي عبر أوكرانيا، مما يجعل النظام الأوروبي أكثر مرونة في مواجهة الأزمات.

في الربع الثالث من عام 2024، كانت واردات الغاز الطبيعي من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي في حالتها الغازية أقل بنسبة 54% مقارنة بالربع الأول من عام 2021، ما يعكس التراجع الكبير في الاعتماد على الغاز الروسي منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية. ومع ذلك، شهدت الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2024 زيادة في الواردات من روسيا، مما جعل حصتها من إجمالي واردات الغاز في الاتحاد الأوروبي قريبة من تلك التي سُجلت في الربع الثالث من عام 2022.

رغم هذه الزيادة في الواردات، تظل حصة روسيا في واردات الغاز الأوروبي أقل بكثير من مستويات ما قبل الحرب الروسية الأوكرانية. ففي الربع الثالث من عام 2024، انخفضت حصة روسيا في إجمالي واردات الغاز الطبيعي في الحالة الغازية من 22% في الربع الثالث من عام 2022 إلى 20% في الربع الثالث من عام 2024، مما يعكس التغيرات الكبيرة في توجهات السوق الأوروبي والبحث عن مصادر بديلة للطاقة. وزاد استيراد الغاز الطبيعي المسال من روسيا في الربع الثالث من عام 2024 بنسبة 2% مقارنة بما كان عليه في الربع الأول من عام 2021، ومع ذلك وبسبب ارتفاع الأسعار زادت قيمته في هذه الفترة بنسبة 150%.

يحمل هذا التطور أهمية جيوسياسية أكبر بكثير لأن موسكو فقدت منذ حربها ضد أوكرانيا عام 2022 حصتها المهيمنة من إمدادات الغاز إلى دول الاتحاد الأوروبي لصالح منافسين مثل الولايات المتحدة وقطر والنرويج، ويشير إنهاء الاتفاقية إلى نهاية حاسمة لشريان غاز رئيسي يربط احتياطيات روسيا بأوروبا. بعد أن كانت أكبر مورد للغاز الطبيعي في القارة، وشهدت روسيا تآكل هيمنتها على السوق مع تحول الدول الأوروبية نحو مصادر بديلة. ولكن سوف تسعى الدول الأوروبية إلى ضرورة إيجاد طرق بديلة قد تُسهم في الحد من العديد من التداعيات السلبية لأنه من غير المرجح أن تُوقع روسيا وأوكرانيا اتفاقية جديدة لنقل الغاز في عام 2025، حيث أن العلاقات بين البلدين تشهد توترًا مستمرًا في ظل النزاع المستمر والأزمات السياسية والاقتصادية. وبالتالي، يبقى السؤال مفتوحًا بشأن كيفية ضمان استمرار نقل الغاز من روسيا عبر أوكرانيا إلى أوروبا في المستقبل. في هذه الظروف، قد تكون هناك محاولات من قبل روسيا وأوروبا للتوصل إلى اتفاقات بديلة قد تشمل إمدادات غاز غير روسي.

من الناحية النظرية، يمكن أن تتفق روسيا ودول الاتحاد الأوروبي على آلية لضمان تدفق الغاز إلى أوروبا، لكن هذا الغاز قد لا يكون بالضرورة روسيًا من حيث الملكية. قد يتطلب ذلك استخدام شركات أخرى أو غاز من مصادر بديلة، بحيث لا يكون الغاز مملوكًا لشركات روسية أو مرتبطًا بشكل مباشر بالجانب الروسي، وهو ما يتيح تجاوز القيود الأوكرانية، ويقلل من تأثير التوترات السياسية بين روسيا وأوكرانيا على الإمدادات. هذا السيناريو يتطلب تعاونًا مع أطراف ثالثة لتأمين إمدادات مستقرة لأسواق الغاز الأوروبية، لكن مع ذلك، سيظل هذا حلًا غير مضمون ويعتمد على عوامل سياسية واقتصادية معقدة. في حال كان الغاز مملوكا بشكل قانوني لشركات أوروبية، فيمكن لأوكرانيا أن تسمح بمثل هذه الإمدادات، لأنها بدورها تريد الحفاظ على نقاط العبور لكن من خلال التواصل فقط مع الأوروبيين، وهو في جوهره محاولة ابتزاز من قبل كييف.

يمكن أن يتم ضمان استمرار تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا من خلال قيام الشركات الأوروبية بتوقيع اتفاقية إضافية مع شركة “غازبروم” الروسية. وفقًا لهذا السيناريو، يمكن تحديد نقطة توصيل الغاز على الحدود الروسية الأوكرانية بحيث يتم نقل الغاز من روسيا إلى أوكرانيا، مع بقاءه تحت إشراف وتنسيق بين الأطراف الأوروبية وغازبروم. ولكن، في هذه الحالة، من المتوقع أن يشمل الاتفاق شرطًا يتعلق بملكية الغاز الطبيعي. بمعنى أن الغاز الذي يعبر أوكرانيا في هذه الاتفاقية قد لا يبقى ملكًا لشركة غازبروم أو روسيا بشكل مباشر. بل سيكون ملكًا لدولة أو شركة أوروبية تتولى شراء الغاز الروسي. هذه الآلية تهدف إلى حل المشكلة المتعلقة بالعقوبات السياسية والاقتصادية التي قد تفرضها أوكرانيا أو دول الاتحاد الأوروبي على غازبروم وروسيا، مما يتيح استمرارية الإمدادات دون أن تكون تحت السيطرة المباشرة لروسيا. هذا الحل يساعد على تفادي القيود السياسية مع الحفاظ على استقرار إمدادات الغاز لأوروبا في حال توقفت أو تأثرت العلاقات المباشرة بين أوكرانيا وروسيا.

وهناك العديد من العوامل التي قد تتحكم في قدرة القارة الأوروبية على استبدال شحنات الغاز المسال بالغاز الروسي، بالإضافة إلى العديد من المخاوف المستقبلية ومن ضمن تلك العوامل:

تحتاج الدول المستقبلة لشحنات الغاز المسال إلى محطات إعادة تحويل الغاز المسال من الحالة السائلة إلى الغازية، ومن ثم ضخه عبر خطوط أنابيب داخلية ليصل إلى المستهلك، وقد ضاعفت أوروبا في أعقاب أزمة أوكرانيا 2009 عدد محطات إعادة الغاز المسال للحالة الغازية لتصل إلى حوالي 24 محطة، تستطيع هذه المحطات نظريا أن تلبي 43% من احتياجات أوروبا للغاز الطبيعي، أي أنها تستطيع أن تستقبل كميات من الغاز المسال تكافئ الغاز الروسي، ولكن غالبية تلك المحطات تتركز في شمال غرب أوروبا، وهذا يعني أن هذه المحطات من الناحية العملية لن تستطيع تلبية احتياجات وسط وشرق أوروبا.

حيث اقتربت، أو تجاوزت، القدرات التصديرية الحالية للدول الكبرى المصدرة للغاز المسال الحد الأقصى، خاصةٍ مع زيادة الطلب في الأسواق الآسيوية التي تتعافى وتحاول استعادة معدلات إنتاجها الصناعية قبل جائحة كورونا، ومع الأخذ في الاعتبار صعوبة زيادة الدول المصدرة للغاز المسال من حجم إنتاجها وقدراتها التصديرية في وقت قصير، فإن كميات الغاز المسال المتوفرة للبيع حاليًا في السوق العالمي محدودة، ولا يمكنها أن تحِل بديلا عن إمدادات الغاز الروسي لأوروبا، بناء على ذلك، سيكون البديل الرئيسي المتاح أمام أوروبا لاستبدال الغاز الروسي، هو الحصول على شحنات الغاز المسال المتجه بالفعل إلى جهات أخرى.

استكمالًا لما سبق، تشير التوقعات إلى أن كميات الغاز المسال الإضافي في أفضل الأحوال يمكنها فقط تعويض حوالي 14% من واردات الغاز الروسي، وكذلك كميات الغاز الإضافية عبر خطوط الأنابيب القادمة من النرويج والجزائر يمكنها تعويض حوالي 9% من واردات الغاز الروسي. وبناء على ذلك؛ فإن إجمالي ما يمكن أن يوفره شركاء وأصدقاء أوروبا من الغاز الطبيعي لن يتخطى ربع إمدادات الغاز الروسي لأوروبا، وهو الأمر الذي يعني أن أوروبا لن تكون قادرة على إيجاد بدائل عاجلة وسريعة للغاز الروسي في حال اتجهت روسيا إلى السيناريو الأسوأ وأوقفت جميع تدفقات الغاز إلى أوروبا.

يواجه سوق الغاز في أوروبا تحديات كبيرة مع انتهاء اتفاقية النقل الرئيسية بين موسكو وكييف في 31 ديسمبر 2024. وبالتالي فإن توقف تدفق الغاز الروسي عبر أوكرانيا سيزيد من تعقيدات سوق يعاني بالفعل من ضغوط.

تشير البيانات إلى أن مخزونات الغاز الأوروبية تنخفض بوتيرة أسرع من المعتاد، حيث وصلت إلى نحو 75% من السعة الكاملة للمخزونات، وهو مستوى تم الوصول إليه قبل شهر كامل مقارنة بالعام السابق (شتاء 2023). هذا الانخفاض السريع يُعد مصدر قلق كبير، ليس فقط للمخزون المتبقي خلال موسم التدفئة الحالي، ولكن أيضًا في ما يتعلق بالجهود المستقبلية للتخزين في عام 2025.

التحدي الرئيس يكمن في صعوبة استعادة مستويات تخزين مريحة بحلول شتاء 2025-2026، وإذا استمرت هذه الوتيرة، قد تواجه أوروبا صعوبة في تلبية احتياجاتها من الغاز أثناء موسم التدفئة في الأعوام القادمة، مما يهدد استقرار إمدادات الطاقة. هذا الوضع يعكس حالة من عدم الاستقرار المستمر في سوق الغاز.

حتى في حال توقف الإمدادات عبر أوكرانيا، يمكن لروسيا الاستمرار في تزويد أوروبا بالغاز عبر تركيا، من خلال خط أنابيب ترك ستريم. ومع ذلك، فإن القدرة الاستيعابية لهذا الخط لا تعد كافية لتعويض النقص المتوقع في الإمدادات الأوروبية، خاصة في ظل تزايد الاعتماد على الغاز الروسي في السنوات الأخيرة. ورغم الدعوات الأوروبية لفرض حظر شامل على الغاز الروسي، استمر الاتحاد الأوروبي في استيراد كميات قياسية من الغاز الطبيعي المسال الروسي في عام 2024، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى استعداد الاتحاد الأوروبي للتخلي عن هذه الإمدادات في المستقبل القريب.

في الوقت نفسه، تواجه أوروبا منافسة شرسة من الأسواق الآسيوية على شحنات الغاز الطبيعي المسال من المنتجين العالميين. ومع انخفاض الأسعار، تزداد مشتريات الأسواق الناشئة في آسيا للغاز، مما يضع الاتحاد الأوروبي في موقف تنافسي صعب، حيث قد يواجه صعوبة في الحصول على الإمدادات التي يحتاجها بأسعار معقولة. وقد زاد الوضع تعقيدًا بعد دعوة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب للاتحاد الأوروبي لزيادة مشترياته من الغاز الأمريكي، مهددًا بفرض تعريفات جمركية على الواردات إذا فشل الاتحاد في ذلك.

واجهت العديد من المشاريع التوسعية لإنتاج الغاز الطبيعي المسال في مختلف أنحاء العالم تأخيرات، بما في ذلك في الولايات المتحدة. مما يعني أن خطط التوسع لإنتاج الغاز المسال قد تأخذ وقتًا أطول من المتوقع. هذه التأخيرات تؤثر على قدرة العالم على زيادة الإنتاج لتلبية الطلب المتزايد على الغاز الطبيعي المسال، خاصة في ظل تزايد التنافس على الإمدادات بين الأسواق الأوروبية والآسيوية.

مجمل القول، يمثل قرار توقف صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا نقطة تحول حاسمة في العلاقة بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي، ويعكس تحولات كبيرة في سوق الطاقة العالمية. بينما تحاول المفوضية الأوروبية التأكيد على مرونة البنية التحتية للطاقة في الاتحاد، تظهر التحديات الاقتصادية الكبرى التي تواجهها بعض الدول الأوروبية، مثل سلوفاكيا، التي ستكون أكثر تأثرًا من غيرها من هذا القرار. وفي ظل الانخفاض المستمر في حصة الغاز الروسي في السوق الأوروبية، فإن الاتحاد الأوروبي سيظل مضطرًا للبحث عن بدائل مستدامة وموثوقة لتلبية احتياجاته الطاقوية، مع مراعاة التحديات المتعلقة بالتوريد وتكلفة الغاز، وهو ما قد يؤثر بشكل مباشر على استقرار أسعار الطاقة في المستقبل.

وفي الأخير، تسابق القارة الأوروبية الزمن لتعويض الغاز الروسي من دول أخري ولكن ذلك أمر صعب، إن لم يكن مستحيلًا، فكل مصادر الغاز الأخرى بعيدة ومكلفة، وتحتاج إلى بنية تحتية بمليارات من اليورو كمحطات الإسالة وخطوط الأنابيب، وفي غياب التوافق الأوروبي يظل الأمر معقدًا.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M