آليات المساءلة المجتمعية للفاسدين السياسيين والإداريين

جميل عودة ابراهيم

 

لا توجد آفة مازالت تنخر في كيان الدول والشعوب؛ وتتجدد مع تجدد الزمان والمكان؛ وتأخذ أشكالا متعددة تبعا لطبيعة الظروف والمتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ ولا تكاد تقف عند حدود محددة؛ بل تمتد إلى المؤسسات كافة؛ من قمة هرم الدولة إلى أسفله كآفة الفساد، لاسيما الفساد السياسي بأدواته الإدارية والمالية.

والفساد هو سلوك يمارسه صاحب منصب؛ أو وظيفة عامة؛ أو ما في حكمهما، مستغلا به سلطته الممنوحة له، بموجب موقعه الوظيفي الذي يٌنتخب؛ أو يٌعين فيه، ويتمتع بموجبه بصلاحية ممنوحة له في اتخاذ قرار في إدارة شأن عام لتحقيق مصلحة خاصة على حساب المصلحة العامة. ولا تقتصر المصلحة الخاصة على المنفعة الذاتية للشخص نفسه، وإنما تمتد لتشمل منفعة جماعته التي ينتمي إليها من عرق أو دين أو لون أو جنس أو انتماء سياسي أو مناطقي.

والفساد ظاهرة سياسية واجتماعية قديمة ارتبط وجودها بنشوء السلطات والدول، وارتبطت الظاهرة بضعف قيم النزاهة، ومبادئ الشفافية، ونظم المساءلة في المجتمع التي تمكن من ممارسة الرقابة الفعالة، وتترافق عادة مع ضعف أو جهل المواطن لحقوقه، أو خوفه من السلطات.

والفساد ليس له صورة واحدة؛ أو لون واحد؛ أو منهج واحد، إنما تتعدد الصور التي يظهر فيها الفساد في حياة المجتمعات والدول، وتختلف باختلاف الجهة التي تمارسه أو المصلحة التي يجري السعي إلى تحقيقها. فقد يمارس الفساد فردا، وقد تمارسه جماعة، أو مؤسسة خاص، أو مؤسسة رسمية أو أهلية، وقد يهدف إلى تحقيق منفعة مادية أو مكسب سياسي أو اجتماعي. وقد يكون الفساد فرديا، بمبادرة شخصية دون التنسيق مع أفراد آخرين أو جهات أخرى.

وبشكل عام يمكن تحديد مجموعة من الصور والأشكال التي يظهر فيها الفساد على أشده، وتشمل هذه المجموعة المظاهر الآتية:

1. الفساد المالي: وهو يتعلق بمخالفة القواعد والأحكام المالية التي تنظم سير العمل المالي في الدولة، ومخالفة التعليمات الخاصة بأجهزة الرقابة، وتتمثل أشكال الفساد المالي في الكسب غير المشروع؛ والرشاوى؛ والاختلاس؛ والتهرب الضريــبي؛ وتبديد المال العام وغيرها.

2. الفساد الإداري: وهو يتعلق بمظاهر الفساد والانحرافات الإدارية والوظيفية والتنظيمية، وتلك المخالفات الـتي تصدر عن الموظف العام المتمثلة في عدم احترام أوقات مواعيد العمل، وتمضية الوقت في قراءة الصحــف، واستقبال الزوار، والتراخي، والتكاسل، والامتناع عن أداء العمل، وعدم تحمل المسؤولية، وإفشاء أســرار الوظيفة. وتتعدد أشكال الفساد الإداري من حيث الأفعال التي يمكن عدها فسادا، ومن أبرز هذه الأشكال المحسوبية؛ والمحاباة؛ والواسطة، واستغلال النفوذ الوظيفي، والتهاون في أداء الواجبات الوظيفية.

3. الفساد السياسي: يصبح الفساد سياسيا عندما تكون دوافعه وأهدافه سياسية لدى نخبة سياسية لدعم جماعات؛ وأحزاب؛ وأفراد بطريقة مخالفة للقانون ضد جماعات أو أحزاب أو أفراد آخرين. ويظهر جليا في الانحياز لجهة محددة عند توزيع المناصب، وغالبا ما يهدف الفساد السياسي إلى الضغط على مجموعة أو أفراد من أجل تغيير سلوكهم في موقف تساومي معين له آثاره على النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في الدولة.

وبهذا يمكن القول إن الفساد السياسي هو فساد الساسة، والحكام، وأعضاء الحكومة، وأعضاء البرلمان، وقادة الأحزاب السياسية المشتغلين بالعمل السياسي، أيا كانت مواقعهم وانتماءاتهم السياسية. فقد يلجأ حكام الدول إلى تحصيل مبالغ من صادرات الدولة المهمة لحسابهم أو لحساب مقربين لهم، وقد يلجأ بعض الحكام والسياسيين بما لهم من نفوذ إلى التربح من سلطاتهم بالدخول بأنفسهم أو عن طريق أبنائهم وأقاربهم في مناقصات، أو مزايدات، أو مقاولات عامة، أو توريدات تجارية، أو الحصول على عمولات ضخمة لتسهيل حصول آخرين عليها.

ولعل من صور الفساد السياسي أيضا هو ما يقوم به بعض المرشحين لانتخابات الأحزاب والبرلمان وغيرها برشوة الناخبين للفوز بأصواتهم أو استغلال مواقعهم السياسية في استخدام وسائل النقل الحكومية والموظفين والشركات التابعة لسلطاتهم في أعمال الدعاية الانتخابية، وتقديم المكافآت والحوافز للموظفين والعاملين مقابل القيام بالدعاية والتصويت لصالح المسؤول السياسي.

ليس ثمة شك أن الفساد السياسي الذي تمارسه السلطات التنفيذية والأحزاب والكتل البرلمانية ينعكس سلبا على الإدارة العامة في كل مستوياتها الإدارية، كما ينعكس سلبا على المال العام الذي يكون أهم أهداف الفاسدين، وبه وفيه يجري الفساد ويستمر. وعليه فان الأمر الذي يتطلب وجود نظام فعال للمساءلة العادلة، ليس القانونية والقضائية وحسب، بل المساءلة الشعبية والجماهيرية، لأن هذا النوع من المساءلة -وإن كان لا يملك الأدوات المباشرة لمساءلة الفاسدين السياسيين والإداريين- ولكن يمكن يكون دافعا قويا للأجهزة الأمنية والقضائية في ملاحقة الفساد للحد منه، كما يمكن أن يكون رادعا قويا للسياسيين والإداريين الآخرين.

إن المساءلة بمفهومها العام تفرض على كل من حصل على تفويض من جهة معينة، بصلاحيات وأدوات عمل معينة، أن يجيب بوضوح عن كيفية التصرف؛ واستخدام الموارد؛ والصلاحيات التي وضعت تحت تصرفه، وتفترض المسؤولية أن يتحمل المسؤول نتائج وأعماله. ولذلك، تعد آلية المساءلة إحدى أهم أدوات الرقابة في إطار مكافحة الفساد، فهي تعد معيارا ضابطا للأداء الحكومي، وأداة تقويمية للأشخاص العاملين في مؤسسات الدولة المختلفة، عندما تتم محاسبتهم من طرف الهيئات المخولة بذلك رسميا، أو من طرف مؤسسات المجتمع المدني والرأي العام للحد من الخروقات والانحراف في عمل الحكومة التي قد تحيد عن مسارها الصحيح، إذا ما ضعفت أشكال المحاسبة أو جرى الحد منها عمدا.

أما مفهوم المساءلة الاجتماعية؛ فانه يشير إلى صورة من صور المساءلة تنبثق عن أفعال المواطنين ومنظمات المجتمع المدني الرامية إلى مساءلة الدولة، وكذلك الجهود المبذولة من الأطراف الفاعلة الأخرى (وسائل الإعلام، القطاع الخاص، والجهات المانحة) لمساندة هذه الأفعال والاستجابة لها.

وقد عرف البنك الدولي المساءلة الاجتماعية بأنها (منهج يهدف لبناء المساءلة التي ترتكز على إشراك المجتمعات المدنية أي التي تتشكل من المواطنين العاديين ومنظمات المجتمع المدني اللذين يشاركان مشاركة مباشرة أو غير مباشرة في طلب المساءلة).

لكن كيف يمكن إشراك المجتمعات في مساءلة المسؤولين السياسية والإداريين؟ فغالبا؛ ولسوء الحظ ما تتسم المجتمعات عموما بطابع السكوت والسلبية، فالكثير من المواطنين لا يتدخل في حل المشكلات الواضحة للعيان، وعلى الأخص في المناطق الحضرية المتسمة بالعصرية بشكل كبير، حيث تذخر الأمثلة بمجموعات من المارة الفضوليين الذين لا يبذلوا جهدا أو القليل منه لمساعدة ضحايا الحوادث أو النوبات القلبية أو السرقة، إضافة إلى ذلك لا يتسم المجتمع المدني دائما بالنقاء الذي يجب أن يتحلى به دائما، حيث تواجه أي سلطة تمنح للمجتمع خطر استغلالها من طرف المنظمات الإجرامية؛ أو أصحاب المصالح القوية الباحثين عن المزايا الشخصية.

نعم؛ صحيح أن المجتمع قوة هائلة محتملة لتعزيز مساءلة الحكومة، ولكن هذه القوة لا تعمل من تلقاء نفسها دائما، بل لابد من توافر الأدوات اللازمة التي تساعد على تفعيل دور الكيانات المجتمعية، وإبراز دورها وتأثيرها في تعزيز مفهوم مساءلة أعضاء الحكومة والبرلمان، والحقيقة لكي تتحقق المساءلة على أصولها فان هناك مسائل رئيسة لها دور مؤثر في تعزيز المساءلة الاجتماعية، وهي:

1. أن تتحمل الحكومات مسؤولية محورية عن تنفيذ الإصلاحات السياسية والتشريعية والقضائية المطلوبة لتحقيق التحول الديمقراطي. كما أن الحكومات مسؤولة أيضاً عن خلق بيئة لعلاقات المساءلة لاجتماعية وتمكينها، وكفالة حرية تكوين الجمعيات والوصول إلى المعلومات، وضمان حقوق المواطنين في المعلومات العامة وإتاحة سجلات النفقات والميزانية العامة، وتحسين أنظمة الشفافية الداخلية وما إلى ذلك.

2. أن يُبرز المجتمع المدني كطرف فاعل قوي يمكنه، وينبغي عليه، أن يلعب دوراً نشطاً في مساءلة الدولة وتأييد المقترحات على صعيد السياسات لتعزيز أجندة العدالة الاجتماعية، استناداً إلى الشواهد البحثية. كذلك وبما أن كثيراً من المظالم الأساسية في المنطقة التي أفضت إلى الثورات تأتي ممن يتعرضون للإقصاء الاجتماعي والفقراء والمستضعفين والمهاجرين والشرائح الريفية من المجتمع، فمن المهم ضمان سماع أصوات هؤلاء. فلا غنى عن الخدمات العامة الأساسية (المياه، الصرف الصحي، الصحة، التعليم) لرفاه هؤلاء، ويمكن لمبادرات المساءلة الاجتماعية التي تضمن رقابة المواطنين على مثل هذه الخدمات ومشاركتهم في اتخاذ القرار أن تحسّن كثيراً جودة هذه الخدمات وإمكانية الحصول عليها.

3. أن يلعب كل من وسائل الإعلام التقليدية ووسائل الإعلام الاجتماعي الجديدة دوراً حاسم الأهمية في تعظيم صوت المواطنين، وتيسير الحوار بين المجتمع المدني والدولة. فالإعلام بأنواعه المختلفة لا سيما الإعلام الاجتماعي قادر على التأثير الكبير في مساءلة الفاسدين السياسيين والإداريين إذا جرى استخدمه بطريقة مهنية معتمدا على وثائق وأدلة واضحة بعيدا عن حالات الهرج والمرج، والاتهامات الكيدية التي تطال الأخضر واليابس على حد سواء.

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/goodgovernance/24720

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M