أصبح دور المرجعية الدينية في الحياة السياسية العراقية مهماً ومؤثراً ، وأصبحت الأمة تترقب وتنتظر مواقف سياسية للمرجعيات الدينية تعالج به الوضع القائم ، بل إن الأمة بدأت ترفض فكرة عدم تدخل الدين بالسياسة حتى وإن كان عملياً عكس ذلك التصور ، وصارت تتأثر بكل ما يتناوله الإعلام حول رأي المرجعية في قضية سياسية معينة حتى لو كان ذلك تلفيقاً وكذباً على المرجعية وعادة ما يكون ذلك التلفيق لغايات سياسية وحزبية ، لأن الأمة لا تريد أن تصدّق أن المرجعية ممكن أن لا تتدخل في السياسة ، ولا تريد أن تقتنع بذلك حتى لو ثبت ذلك بالدليل القاطع والملموس ، كل ذلك إيماناً منها بضرورة أن يكون للمرجعية الدينية دور في الحياة السياسية وما يتعلق بها من ملفات أمنية واقتصادية واجتماعية وإدارية وتنموية .
وبما أن الأمة مصرّة وبكل قوة على هذه القناعة وجدنا من الضروري أن نبين آلية إصدار الفتاوى السياسية من قبل المرجعية الدينية حتى تكون الصورة واضحة لأبناء هذه الأمة وحتى لا تحاول بعض الجهات والالتفاف عليهم وتسويق مخططاتهم السياسية بإسم المرجعية ، وعليه سنتناول ركائز هذه الآلية وكما يأتي :
– الذراع السياسي :
إذ لا بد من وجود ذراع سياسي يأتمر بأمر المرجعية ، وللمرجعية صلاحية واسعة في تغيير الخطوط العامة لهذا الذراع مثل النظام الداخلي ، وولاء أعضاء هذا الذراع ابتداءً من القيادات الى أدنى عنصر الى المرجعية الدينية ومشروعها ، وتمتلك المرجعية إمكانية وصلاحية تغيير القيادات متى ما ترى ذلك مناسباً للمصلحة العامة ، بل وبإمكانها حل هذا التشكيل السياسي إذا وجدت ضرورة في ذلك أو لمست مفسدة من وجوده ورفع الغطاء الشرعي عنه ، وينبغي أن يكون هذا الذراع مهنياً له خبرة سياسية تؤهله لمواصلة متغيرات العمل السياسي ونقل ذلك الى المرجعية ، وتكون المرجعية مسؤولة مسؤولية تامة أمام الله وأمام الأمة عن أي موقف أو قرار أو خلل يقوم به هذا الذراع السياسي ، لأن هذا الذراع وجِد لمساعدة المرجعية في اتخاذ الموقف والفتوى المناسبة وبالتالي فإذا كان هذا الذراع غير مؤهل لهذه المهمة فإنه سيجعل من الموقف السياسي الصادر من المرجعية غير دقيق وهذا مخالف للأساس الذي تم تشكيله وفقه .
وبدون وجود هذا الذراع وبهذه المواصفات لا يمكن أن تتخذ المرجعية الدينية موقفاً سياسياً دقيقاً وسليماً يجنّبها التبعات الشرعية ولا يمكنها إصدار فتوى تناسب الوضع السياسي القائم ، لأن أي فتوى – حتى الفتاوى غير السياسية – تحتاج الى رأي المختص فيرجع الفقيه هذا الرأي الى المباني الفقهية التي يعتمدها وعلى أساس ذلك يصدر فتواه ، كما يحدث عند إصدار فتوى تتعلق بالصحة الجسدية مثل الموقف الفقهي للتدخين وغيره ، فالفقيه لا يمكن أن يحل محل الطبيب والمهندس والمعلم والمحامي وغيرهم ، لذا يعتمد على رأي صاحب الاختصاص ويبني فتواه وفق ذلك الرأي .
في السياسة العمل مشابه ولكون العملية السياسية معقدة أكثر وأن الاحتيال فيها أكبر ومفاسدها ومنافعهم أكثر أصبح من الضروري أن يكون للمرجعية ذراع سياسي يعمل وفق رؤاها وخططها ، ولا ينفع وجود المستشارين السياسيين في إصدار الفتوى السياسية ، لأن المستشارين يحللون الوقائع بما تصلهم من أخبار ومواقف سياسية ولا يعيشون الوضع السياسي عملياً ، فليس بإمكان المستشار السياسي أن يحضر جلسة مجلس النواب ولا جلس مجلس الوزراء ولا اجتماعات الكتل السياسية والمطبخ السياسي الذي عادة يكون سرياً ، لذا رأيه يكون غير دقيق والفتوى التي تصدر اعتماداً على رأي المستشارين تكون أيضاً غير دقيقة ، وهذا يحمّل الفقيه تبعات شرعية كبيرة .
ونرى كثيراً من الفتاوى الفقهية في المسائل التقليدية مثل الطهارة والصلاة والصوم وغيرها تشارك المكلّف في صياغة الحكم الفقهي ، فمثلاً يكون المكلّف معذوراً في الإفطار إذا وجد نفسه غير قادر على الصيام ، وبالتالي المكلف هو الذي يحدد المقدرة من عدمها والفقيه يبين الحكم في حالة المقدرة ومن عدمها ، هذه المشاركة بين المكلف والفقيه في صياغة الفتوى نجدها في بعض المواقف السياسية لمرجعيات دينية مثل (انتخاب الأصلح) فالمكلف يحدد الأصلح والفقيه يحدد جواز الانتخاب من عدمه ، وسبب ذلك يعود الى عدم وجود ذراع سياسي يساعد المرجعية والمكلف على اتخاذ الموقف السياسي من دون إحراج المرجعية ولا إقحام المكلف في مواقف صعبة اضطرته اللجوء الى المرجعية .
ووجود ذراع سياسي للمرجعية لاتخاذ مواقف وفتاوى سياسية يفتح الباب لتوسيع الدائرة لتشمل عدة أذرع في مجالات متعددة تحمل نفس المواصفات التي يحملها الذراع السياسي والتي استعرضناه في بداية الفقرة ووظيفتها تشابه وظيفة الذراع السياسي في مساعدة الفقيه من إصدار فتوى رصينة ودقيقة في مجال تخصص كل ذراع .
– الخبرة السياسية :
عندما تكون الخارطة السياسية واضحة أمام المرجعية بفعل ذراعها السياسي الذي شكلته وتوغل في كل مفاصل الدولة يأتي هنا دور الخبرة السياسية للفقيه حتى يفرز ما تتطلبه الحكمة من اتخاذ موقف تجاه أي متغير سياسي ، فوجود ذراع سياسي للمرجعية لا يعني أنه يكفي لإصدار الفتوى السياسية ، لأن دور الذراع هو نقل الصورة السياسية من مفاصل الدولة الى الفقيه لا لكي يصدر هو الفتوى ، لذلك يتوهم البعض أن إصدار موقف من جهة مرتبطة بالفقيه سواء مكتبه أو وكلائه أو معتمديه يعتبر فتوى أو بمثابة الفتوى من الفقيه ، فالفقيه يحتاج لإصدار فتوى سياسية أو موقف سياسي تجاه قضية محددة رؤية سياسية خاصة به ويمازجها بالمباني الفقهية حتى تكتمل مراحل إصدار الفتوى لأنه سيتحمل مسؤوليتها أمام الله وأمام الأمة .
ولولا هذه الخبرة السياسية للمرجعية لما تشكل أصلاً ذراعها السياسي ، لأن حاجة المرجعية للذراع سياسي هو بحد ذاته ناتج عن خبرة سياسية للوضع العام ، وكما أن صاحب البيت يحتاج خبرة في البناء ولو إجمالاً حتى يعطي بيته لمقاول البناء فالمرجعية كذلك تحتاج الى خبرة سياسية حتى لو أعطت تفاصيل أمور السياسة لمجموعة من السياسيين من اتباعها ، فصاحب البيت رغم أنه يعطي كل تفاصيل البناء لمقاول إلا أن خبرته في البناء تمكنه من تنبيه المقاول عند خطئه سهواً ومحاسبته عند خطئه عمداً ، أما صاحب البيت الذي لا يمتلك خبرة في البناء فإن المقاول يقع في أخطاء لا يكتشفها صاحب البيت إلا بعد مرور فترة زمنية طويلة وقد يؤدي الى انهيار ذلك البناء ، كما يمكن للمقاول إذا أطاع نفسه الأمارة بالسوء أن يخدع ويغش صاحب البيت عديم الخبرة وهذا ما لا يمكن أن يقوم به مع صاحب البيت ذي خبرة البناء الجيدة .
فالفقيه حتى يضمن فتواه تكون دقيقة ونافعة للأمة لا يكتفي بالصورة السياسية للبلد المنقولة عن طريق ذراعه السياسي فعليه أن يحلل ويدقق ما وصلت إليه من صورة مع ما يمتلكه من خبرة سياسية ، حتى لا يكون ألعوبة بيد السياسيين ، فبحكم ما تتميز به السياسة من مكر وخداع فقد ينجذب أتباعه الى هذه الوسائل وبالتالي على الفقيه أن يخلّص نفسه وأتباعه من الورطة الشرعية التي يمكن ان يقع به هو واتباعه ، وهذه الخبرة هي مصداق لما جاء في الروايات الخاصة بالفقيه المفترض إتباعه ( أن يكون عارفاً بزمانه ) .
– الإعلام الرسمي الواضح :
بعد أن أصدر المرجع فتواه السياسية المبنية على ما نقله له ذراعه السياسي ممزوجاً بما يمتلكه من خبرة سياسية يحتاج الان الى إعلام رسمي واضح يصل الى كل مكان يمكن أن يساعد الفتوى في تحقيق ما صدرت لأجله ، وهذا الإعلام يجب أن يكون رسمياً ويجب أن يكون واضحاً ، فإذا كان غير رسمي أو رسمي ولكن غير واضح سيوقع الأمة في تيه وجدل ونقاش بحيث ينشغلون بصحة صدور هذه الفتوى أم لا ويتركون تطبيقها ، فالمرجعية لا تريد أن ترهق أتباعها بهذا الجدل لأن اهمية الفتوى تكمن في تطبيقها فإذا كانت الفتوى غامضة سيكون تطبيقها متلكئاً ، وسيقع الأتباع في ورطة شرعية فإما أن يتبعون الفتوى دون التأكد من صحتها وهذا قد يدخلهم في إشكالات شرعية في حالة عدم صدورها ، أو أن يتركوا تطبيق الفتوى بحجة عدم ثبوت صدورها وبالتالي ستكون الفتوى بلا فائدة تقريباً بسبب قلة الملتزمين بها ، وسيكونون في الحالتين ألعوبة سهلة بيد المتصيدين لهذه الغنائم كي يصلوا الى تحقيق مآربهم الشريرة .
فالإعلام الرسمي والواضح له دور فعّال في إكمال آلية صدور الفتوى ، وعدم الاهتمام به سيجعل جهود المرجعية وذراعها السياسي تذهب أدراج الرياح ، لذا لا تكتفي بعض المرجعيات بإصدار ورقة مختومة بختم المرجع – فضلاً عن ختم مكتبه – بل يقوم المرجع بنفسه بقراءة الفتوى وفي بعض الأحيان عبر تسجيل مصور حتى يقطع الشك باليقين أمام أتباعه وأمام أعدائه على حد سواء ، لأن هذه المرحلة مرحلة التسويق وبدونها لا فائدة من المراحل التي سبقتها ، لذلك يتوهم البعض أن خروج المراجع على الفضائيات هو لدعاية شخصية أو حباً بالظهور ، بل إن ظهورهم في الإعلام كي يسهل المهمة على أتباعه ويحميهم من أن يفترسونهم أعداء المرجعية بإسم المرجعية .
– آلية تنفيذ الفتوى :
ولكون الفتوى السياسية تختلف الفتاوى التقليدية من حيث تأثيراتها الإيجابية إذا طُبِّقت تطبيقاً صحيحاً والسلبية إذا طُبِّقت تطبيقاً سلبياً ، فالفتوى إذا تُرِكت بدون آلية تنفيذ فهذا يعني سيُترك المجتمع وشأنه فإن شاء يطبّقها فإنه سيطبقها بحسب ما يفهمها هو لا بحسب ما أرادته المرجعية ، وعندها سوف لن تأتي الفتوى ثمارها بل قد تؤتي ثماراً سيئة بسبب تطبيق فتوى وفق فهم المكلف لا وفق رؤية المرجعية ، ولأن هذه الآلية هي الضامن من تطبيق الفتوى وفق ما أرادته المرجعية وحتى لا تختلط على الأمة الأوراق ويستغلها المتصيدون الوصوليون الصعوديون سنتطرق الى شرح آلية تنفيذ الفتاوى السياسية لأنها تحتاج الى تفصيل ولأهميتها فإنها تحتاج الى تخصيص منشور ومقالة خاصة بها .
لذلك لا نجد فتوى سياسية صادرة من مرجعية دينية إلا بعد إكتمال هذه الركائز ، وبدون هذه الركائز لا يدّعي أحد انها فتوى حتى الجهة التي اصدرتها .