التدين الإيراني والتدين العراقي

عندما أصبح عبور العراقيين الى إيران لزيارة المراقد المقدسة هناك وللعلاج وللسياحة متاحاً وسلساً بعد سقوط نظام صدام عام 2003 تفاجأ العراقيون بالصورة التي وجدوا الإيرانيين عليها ، فقد كان أغلب الناس يتصور أنه سيجد الإيرانيين ملتزمين بثوابت الالتزام الديني مثل الحجاب واللحى وغيرها من مظاهر التدين باعتبار النظام الإسلامي المقام هناك ، ولكن ما رأوه كان صدمة أدى الى تغيير النظرة تجاه الشعب الإيراني والى نظام الحكم الإسلامي والى القائمين عليه ، وربما نتيجة لذلك تولدت قناعة ترفض نسخة قريبة من نظام الحكم الإسلامي وتولي رجال الدين بعد الإطاحة بصدام لمقاليد الحكم في العراق ، لأنهم فهموا من خلال النظرة الأولية الى الالتزام الديني في إيران على أن رجال الدين عندهم مزيفون يريدون من الحكم الإسلامي غطاء كي يتسلطوا به على الشعب ، وبعد هذه النظرة تشكلت قناعة أن الالتزام الديني الحقيقي موجود في العراق .
ولكن بعد أن تناولنا في مناسبة سابقة معايير التدين في العراق وثبتّنا أن الالتزام الديني الحقيقي هو الالتزام بمبادئ الدين الحقيقية والأساسية وليس الشكلية ، فالحجاب واللحية والمسبحة والتختم وإن كانوا من مظاهر التدين المهمة إلا أنها تبقى مظاهر والالتزام بها لا يعني الالتزام الحقيقي بالدين ، لأن هذه الأمور يمكن لأي شخص أن يقوم بها سواء التزم حقيقة بالدين أم لم يلتزم ، فكم من إمراة محجبة أقامت علاقات غير شرعية مع رجل أجنبي أو استخدمت الحجاب للموضة ولجذب الشباب ، وكم من ملتحي أو متختم بخاتم العقيق قام بنفس هذه الذنوب او استخدمها للرياء والسمعة والموضة ، لذا فالصورة التي تكونت عن الشعب الإيراني والنظام الإسلامي هناك صورة مبنية على أسس خاطئة ، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن الحجاب واللحية وغيرها أمور يمكن الاستهانة بها ، بالعكس وجودها مهم ولكنه تكميلي لأسس التدين الحقيقي .
وقد بينّا في حينها أن أهم معيار قرآني للتدين هو أن يجد الإنسان المؤمن ويجتهد كي لا يكون كافراً ولا فاسقاً ولا ظالماً لأنها صفات مذمومة وقبيحة ، والأولى والأفضل والأكمل أن لا تجتمع فيه تلك الرذائل الثلاثة ، لأنه من المستحيل أن يكون المؤمن المتدين كافراً وفاسقاً وظالماً في وقت واحد ، فما فائدة أن يكون المتدين ملتحياً وهو كافر وفاسق وظالم في وقت واحد ؟! وما فائدة المتدينة أن تكون محجبة وهي كافرة وفاسقة وظالمة في وقت واحد ؟!
أما من اجتمعت فيهم هذه الصفات في آن واحد هم الذين لم يحكموا بما أنزل الله كما عبر القرآن في سورة المائدة ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون / المائدة – 44) ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الظالمون / المائدة – 45) ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الفاسقون / المائدة – 47) ، أما كيف يحكم فإما أن يكون المؤمن المتدين فقيهاً فيضع تشريعات وأحكاماً ليرجع لها الناس وليتحاكموا وفقها ، ويسعى لتطبيق ذلك على أرض الواقع من خلال ما يمتلكه من عناصر قوة ونفوذ وبسط يده وتأييد شعبي له ، أو أن يكون من عامة أفراد الشعب فيكون مؤيداً لذلك الفقيه وداعماً له ومدافعاً عن المبدأ الذي جاء به ويسعى أن يكون أحد الأفراد الذين يستند الفقيه عليهم في تطبيق حكم الله في الأرض بما تسمح به الظروف .
ووفق هذا المعيار فإن المفاضلة بين التدين الإيراني والتدين العراقي يبدو مختلفاً عن السابق ، فالشعب الإيراني مرجعية وسياسيين وشعباً في الأعم الأغلب وبحسب الاستقراءات القريبة من الواقع الإيراني هي بشكل عام مؤيدة للنظام الإسلامي في بلدهم الذي وضع أسسه السيد الخميني قدس سره ، وهذا النظام بحسب المختصين في الشأن الديني فإنه مبني وفق الشريعة الإسلامية ومذهب أهل البيت عليهم السلام ، قد تكون هناك معارضة على المستوى الحوزوي والمؤسسة الدينية لنظام ولاية الفقيه القائم في إيران أو معارضة سياسية له أو حتى شعبية ولكن عموماً وبشكل إجمالي الأغلبية مع النظام ، وبالتالي فهم مؤيدون للحكم بما أنزل الله من خلال تنصيب الفقهاء في إدارة الدولة ، وعند عدم تشريع حكم إسلامي معين فهذا بإذن الفقهاء فقد يكون غير مناسب في الظرف الحالي أو لأسباب أخرى ، المهم أنهم قبلوا بأن يكون الحكم بيد الفقهاء لا بيد غيرهم ، وهذا كافٍ لإخراجهم – بشكل عام – من مصداقية تلك الآيات فلا يكونوا فاسقين ظالمين كافرين .
وحتى لا تكون الصورة نرجسية أكثر من الحقيقة فلا بد من إلفات النظر الى أن بعض المؤيدين للنظام الإسلامي في إيران لا يعرفون سبب تأييدهم هذا ، إذ أنهم متأثرون بالسلوك الجمعي ، وبالتالي فإن تدينهم لا يعتبر مطابق للمعيار القرآني الذي اعتمدناه وبالتالي فهم غير مشمولين بالتدين المحمود الذي نقصده ، ويرجع فضل تأييد أولئك الى الثلة المؤمنة من مرجعيات ونخب ومثقفين الذين وقفوا بقوة مع النظام الإسلامي فما كان أمام الفئة الأولى إلا أن تكون منجرفة مع السلوك الجمعي الذي ولّدته الفئة الثانية المؤمنة إيماناً حقيقياً وعملياً .
أضف الى ذلك فإن ظاهرة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) غير موجودة أو شبه معدومة بدليل وجود بعض مظاهر الانحراف في مناطق عديدة من بلاد الجمهورية ، ودين بلا (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) لا قيمة له ، وهذا ما يؤصل له الحديث الشريف : ( وَمَا أَعْمَالُ الْبِّرِ كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر إلا كَنَفْثَةٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ) ، فقيمة أعمال البر بما فيها الجهاد في سبيل الله تعادل نفثة مقابل (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) .
وللإنصاف فهناك جوانب من التدين لدى الشعب العراقي تفوق نظيراتها من التدين الإيراني مثل الحجاب وترك الاستماع الى الأغاني والكرم والنخوة وغيرها من الصفات التي يحبذها الشارع الإسلامي ، ولكن بأخذ الحاصل الإجمالي ووفق المعيار الذي ذكرناها فإن كفة التدين الإيراني تفوق كفة التدين العراقي بسبب عزوف بعض المرجعيات الدينية في العراق وعوام الشعب عن الحكم بما أنزل الله ووضعهم بفعلهم هذا مصداقاً للآيات الآنفة الذكر من سورة المائدة .

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M